رأي/ كرونيك

عن مسؤولية اليسار في بلاد العرب

تظهر دراسة الخبرة السياسية والمجتمعية المعاصرة لعدد من بلدان شرق ووسط أوروبا وأمريكا اللاتينية والقارة الإفريقية حقيقة تزامن بدء عمليات التحول الديمقراطي مع هيمنة رؤية إيجابية ـ تفاؤلية للحاضر والمستقبل ترتكز إلى إمكانات التغيير لحياة أفضل، ليس درءاً للأخطار بل لحاقاً بروح العصر وأملاً في التقدم. فلم تكن لحظة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات في أوروبا الاشتراكية السابقة، على سبيل المثال، معبرة عن انتفاضات مفاجئة لشعوب خشيت على وجودها إن بحكم عوامل خارجية (الصراع مع الغرب) أو داخلية (الجمود المجتمعي الشامل)، بل عن دينامية قوى وتنظيمات مجتمعات رغبت في المزيد من الرقي من خلال إصلاح مسار تطورها السياسي (الحريات المدنية) والاقتصادي (مركزية القطاع الخاص).
أما مقولات الخطر واللحظات الاستثنائية، وتلك تهيمن على نقاشاتنا العربية، فلم تنتج تاريخيا إلا بدايات أو ردات فاشية. وأجدني هنا مستدعياً لأفكار الفيلسوف وعالم القانون الألماني كارل شميت (1888 ـ 1985) الذي شكلت كتاباته خاصة «اللاهوت السياسي» (1922) تبريراً معرفياً لوصول النازية إلى سدة الحكم في ألمانيا ثلاثينيات القرن الماضي وانقلابها على نظام جمهورية فيمار الديمقراطي (1919 ـ 1933). لحظة شميت الاستثنائية هي لحظة تهديد وجود الدولة والنظام المجتمعي على أرضية اختلال الأنساق القيمية والدينية، وفقهها هو حق البطل المنقذ في الإدارة الشمولية للمجتمع وإعادة التأسيس الديكتاتوري لمعنى القانون والصالح العام.
من الهام هنا أن نتذكر الترابطات على مستويي الخطاب والفعل السياسي بين حرب فلسطين وحريق القاهرة وانقلاب الضباط الأحرار في مصر، بين ادعاءات الخيانة والتصفية الجماعية وانقلاب صدام حسين في العراق، وغيرهما الكثير. مقولات الخطر هي صنو ميثولوجيا البدايات والاسترجاعات الشمولية والجبهات الوطنية الموحدة، وليست أبدا المقدمة الوظيفية للتحول الديمقراطي. يسهل الترويج لمقولات الخطر ولصياغات دراماتيكية عن فناء قريب وخلاص يأتي به بطل منقذ، يسهل لاستبدال أفكار وقيم الديمقراطية والتعددية والتحديث بفاشية تدعي الدفاع عن مصلحة الوطن وأمن البلاد.
تظهر نقاشاتنا العربية الراهنة أيضا غلبة مفردات الليبرالية الجديدة على خطابات التحول الديمقراطي والتغيير المجتمعي في مقابل غياب ملحوظ لأجندة اليسار وإشكالياته. تدور صياغات منتجي رؤى وبرامج التغيير من نخب حكومية وأحزاب معارضة وفاعلي المجتمع المدني ومثقفين في فلك البحث عن استراتيجيات لتعظيم مساحات الحرية السياسية واحترام حقوق الإنسان والحد من سطوة الدولة القمعية ورقابتها المسحية على المجتمع من خلال عمليات التحول الديمقراطي والتحديث المؤسسي. أما معالجات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للتغيير المجتمعي المنشود فتكاد تقتصر على مستويين بهما الكثير من الاختزال؛ من جهة أولى التشديد على ضرورة استكمال التحول نحو اقتصاد السوق وحتمية تراجع دور الدولة الاقتصادي وبالتبعية تخليها عن الجزء الأكبر من مسؤوليتها إزاء الفئات الاجتماعية الفقيرة ومحدودة الدخل، ومن جهة ثانية الدفع بعدد محدود من القضايا النوعية ـ القطاعية من شاكلة تمكين المرأة (السعودية) وخلق مجتمع المعرفة (الإمارات وقطر) وتحديث البنى التعليمية (مصر) إلى صدارة النقاش العام في محاولة لإضفاء شرعية مجتمعية على مضامين خطاب الليبرالية الجديدة. أما اختلال معدلات توزيع الثروة في بلاد العرب وأزمات البطالة والفقر التي تعاني منها الأغلبيات بين المحيط والخليج والتهميش المتصاعد للطبقات الوسطى وتراجع سرعات الحراك الاجتماعي مقارنة بمراحل سابقة مثل خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كافة هذه الأمور الحيوية تغيب عن نقاشات التحول الديمقراطي والتغيير المجتمعي.
أعلم أن استعادة المجتمع من قبضة الدولة السلطوية تقتضي تراجع مجالات فعل الأخيرة والهبوط التدريجي لسقف استحقاقات المواطنين تجاهها وتزايد أهمية المبادرات الأهلية غير الحكومية. «فالدولة الأب» التي ينتظر منها كل شيء ويفترض أن تبسط شباك أمنها المجتمعي الشامل على رعاياها هي دولة تجرد في ذات اللحظة هؤلاء، فرادى وجماعات، من حقوق المواطنة والحريات السياسية والمدنية. أعلم ذلك، إلا أنه لا يعني بالضرورة انسحاب الدولة التام من المجتمع ولا يبرر تراجع مركزية التعامل مع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للتغيير المنشود. تقترب الصورة الليبرالية الجديدة التي ترسمها معظم نقاشات التحول والتغيير العربية من الحقبة التاتشرية في بريطانيا الثمانينيات ومن واقع بعض الدول الأوروبية الشرقية في النصف الأول من التسعينيات، لكن الفارق بينهم وبيننا هو وضعية المجتمعات المتقدمة أو ذات الحظوظ المتوسطة من التطور هناك وحقيقة التخلف الجاثم على أنفاسنا هنا. بل أن الحالات الصارخة للاهوت الليبرالية الجديدة بدولتها المتراجعة واقتصاديات السوق المتجاهلة للالتزام الاجتماعي قد انتهت جزئياً في أوروبا إما بعودة اليسار (التقليدي والجديد) أو بتشكيل قوى يمينية وقومية لحكومات ائتلافية ركزت في سياساتها مجددا على مسؤولية الدولة تجاه المواطنين.
لا نملك في بلاد العرب ترف تجاهل قضايا المساواة والعدالة التوزيعية وتكافؤ الفرص والضمانات الاجتماعية إن أردنا بالفعل تحولا ديمقراطيا تؤيده قطاعات وحركات مجتمعية واسعة لا يقتصر على النخب ولا يخطط له فقط في مجالس مغلقة. نحن نحتاج إلى صياغة توازن توافقي بين حتمية إخلاء الدولة لعدد من مساحات الفعل السياسي والقبول بتعددية فاعليها بين تواصل دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي في ظل شراكة مع القوى المدنية والأهلية. دون ذلك يصير تحديث الدولة والمجتمع مجرد آلية لتجديد دماء النخب الحاكمة، دون ذلك يقتصر الحديث عن الحكم الرشيد على محاربة الفساد وتلغى منه مضامين التداول الديمقراطي للسلطة وحكم القانون والمساءلة السياسية.
مبدئيا، تقع مسؤولية مواجهة الأجندة الليبرالية الجديدة على عاتق قوى اليسار بتنويعاتها المختلفة في بلاد العرب. قوى اليسار؛ قديمة وجديدة، برلمانية وغير برلمانية، ماركسية لقومية؛ عليها هي يقع عبء المواجهة في ظروف سياسية ومجتمعية بالغة الصعوبة. وللاضطلاع بالمواجهة تحتاج قوى اليسار لإعادة تعريف دورها ومساحات فعلها وخطابها في سياق عملية انفتاح مزدوجة على الأجندة العالمية لحركات مناهضة الرأسمالية وخطابها الليبرالي الجديد وعلى حركات الاحتجاج الشبابية والطلابية والنسوية التي تعج بها بلاد العرب إن فوق السطح أو تحته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى