رأي/ كرونيككورونا

الموت في زمن الكورونا

زمن الكورونا يقطع مع المألوف والمعمول به والشرعيّ… إنّه زمن يبعثر أوراقنا، يكسر الرتابة، يربك وجداننا ويعصف بثوابتنا … هو زمن يحفّزنا على عقلنة السلوك، ويدفعنا إلى التدبّر في علاقتنا بالحياة، والموت، والمرض، والعزلة، والدين، والزمن، والمكان، والإنسان، وسائر الكائنات والموجودات، وفق أفق تفكير مغاير وفهم مختلف…

منذ أن فرضت حالة الطوارئ الصحية المطبقة، منذ مساء يوم 20 مارس 2020، للحد من انتشار ڤيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، تغيرت طقوس الدفن، خاصة للمصابين بالڤيروس القاتل، كعدم غسل الموتى، المصابين بالـڤيروس، على الطريقة الإسلامية المعتادة، ومنع أقاربهم من احتضانهم، وتقبيلهم للمرة الأخيرة، ودون الصلاة عليهم بمساجد المملكة ولا إقامة جنازة في البيوت.

واتخذت وزارة الصحة إجراءات خاصة فيما يتعلق بالموتى الذين توافيهم المنية بسبب ڤيروس كورونا المستجد، فلا يتم غسل الموتى بالطريقة المعتادة الذين توفوا جراء إصابتهم بالفيروس، الذي يبقى على قيد الحياة في جسم الميت، حتى بعد وفاته لبضع ساعات.

ويجري غسل الميت المصاب بالوباء من طرف الأطر الطبية والتقنية، التي تتخد جميع الاحتياطات الوقائية، بارتداءها لأقنعة ونظارات واقية للوجه، وبذلة خاصة، ووزرة بلاستيكية لغسل جثة الميت سطحيا، ولف الجسد في كفن ووضعه في كيس محكم الإغلاق ووضعه في التابوت.

الموت في زمن “كورونا” ينتهي باقتصار صلاة جنازة بحضور الأهل والأقارب بالعدد المحدد سلفا، ينتهي بمنع الولائم والبذخ بعد الميت وبناء خيام العزاء، ينتهي بتلقي التعازي عبر الهاتف أو من خلال الرسائل النصية عبر “الوات ساب” أو وسائل التواصل الاجتماعي، ينتهي بمشهد “الحجر الصحي” على عائلة الفقيد بدمعات لازالت سائلة، ينتهي من حيث تبدأ الحياة بصرخات مدوية فزعة في زمن “كورونا”.

ولا يسمح لأقارب المتوفى بلمس جسد الميت المصاب بڤيروس كورونا المستجد ويتم دفنه بالمقبرة بحضور اثنان من أقاربه و السلطات الصحية ببدلاتها الواقية، لتطهير مكان الدفن ويمنع على عائلة المتوفى قيام مراسيم الجنازة المعتادة، باستقبال التعازي.

وما يحز في نفس عائلة الميت المصاب بڤيروس كورونا ،أن مراسيم الجنازة لا يحضرها، إلا بعض أقارب المتوفى،الذين لا يتعدى عددهم أصابع اليد في أحسن الأحوال.

وهكذا لم يعد “إكرام الميّت دفنه ولم يعد دفن الموتى أمرا يسيرا بل صار موضوع قلق وخوف وغضب بالنسبة إلى الأقارب والأهالي بعد أن هيمنت العادات والتقاليد على القوانين والأوامر، وسيطرت المخاوف والتمثلات الراسخة في المتخيّل الديني على سلوك الناس.

دخلنا مرحلة جديدة، انقلبت فيها المعايير والتصوّرات والمنظومة القيمية رأسا على عقب فلا وقت لدينا لتوديع أحبّائنا وإقامة طقوس الموت (الغسل والكفن …) وتنظيم المآتم والجنائز وفق ما ضبطته كتب الفقه من أوامر مندرجة وفق ثنائيات متقابلة: الحلال/الحرام، الرجل/المرأة/الخنثى، الطهر/النجاسة، وحسب نظام الفرز بين الجثث على قاعدة الإسلام/الكفر، الأبيض/الأسود…لا وقت للمفتي حتى يفصّل القول في رأي الدين ولا لأساتذة الشريعة حتى يصدروا البيانات الشرعيّة … لا مجال للتنافس بين “العلماء وحرّاس الشريعة، لا وقت للعلاقات المبنية على القوّة والسلطة واحتكار الهيمنة على الناس، والتلاعب بوعي الجماهير الهشّة والباحثة عن الخلاص… لا وقت للتصنيف وإصدار الأحكام الفقهية كقول أحدهم إنّ أموات فيروس الكورونا هم شهداء الوباء” في جنّة الخلد يتنعمون…

إنّنا أمام عملّيات تخلّص سريع من جثث لازالت حاملة للفيروز، تتم في أوقات معلومة، وتحت رعاية طبيّة، ويظهر فيها الأعوان بملابس بيضاء، تقيهم المخاطر… يُنزلون الجثّة بأدوات خاصّة، تراعي مسافات الأمان.

لم يعد الميّت في حوزة أهله، يعدّونه للرحيل، كما يحبّون: تلاوة للذكر الحكيم، ودعاء بالرحمة والمغفرة، وأكل وشرب، وتعازي، وبكاء وعويل، و… صار من حقّ المسؤولين عن الأمن الصحّي التصرّف في أمواتنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى