كورونا

السوسيولوجي عبابو: اعتماد المقاربة الفردية في التعامل مع وباء كورونا تبقى مقاربة قاصرة

ملخص مداخلة الدكتور محمد عبابو بالندوة العلمية الوطنية عن بعد حول كوفيد19 قراءة في الوضعية الآنية والرهانات المستقبلية بالمغرب، المنظمة من طرف الرابطة المغربية للبحث العلمي والحق في الصحة…

الدكتور محمد عبابو في الوسط

عرض الدكتور محمد عبابو سوسيولوجي المغربي ومدير مختبر السوسيولوجيا والسيكولوجيا و رئيس شعبة علم لاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة سدي محمد بن عبد الله فاس، في مداخلته بالندوة العلمية الوطنية عن بعد حول “كوفيد19 قراءة في الوضعية الآنية والرهانات المستقبلية بالمغرب”، التي نظمتها الرابطة المغربية للبحث العلمي والحق في الصحة مجموعة من الأفكار الهامة، حيث عملنا على استعراض مقاربته المنهجية للموضوع باعتبار موضوع المرض والصحة موضوع سوسيولوجي بامتياز.

ركز الدكتور محمد عبابو في مداخلته على أهمية المقاربة المتعددة الاختصاصات ،والتي ساهم الدكتور في تأسيسها لأكثر من عقدين وساهمت فيها تخصصات مختلفة متنوعة وباحثين من عدة مؤسسات ، عالج الدكتور محمد عبابو بالأساس إشكالية الوقاية من المخاطر الصحية لدى المجتمعات وخصوصا المجتمع المغربي،وعرج الأستاذ على مقاربتين أساسيتين ـــ في نظره ــــــ المقاربة الوبائية؛ والبيوطبية التي تشتغل على الأوبئة من منظور بيولوجي يحاول البحث عن الأسباب الكامنة وراء ظهور وانتشار فيروس معين ورصد تطوراته.

وفيما يخص فيروس كورونا المستجد يقول المتحدث فهو ذو طبيعة خاصة، إنه فيروس خفي وغير مرئي ولا أحد يعرف سبب ظهوره ولا سبل علاجه. وهذا فتح جدال واسع في المجال الطبي وفي علوم الأوبئة حول نوعية هذا الفيروس وصعوبة تحديده بيولوجيا أو موضوعيا ، وكذلك طريقة انتقال العدوى وهذا لا يؤثر فقط على قطاع الصحية بل على عدة قطاعات (الاقتصاد، الشغل، المجال الاجتماعي..).

وهنا لا بد من التذكير أن مجموعة من الأبحاث الجديدة والتخصصات الحديثة تحت مسمى “الطب الاستشرافي (médecine prédictive)تريد التنبؤ بكل ما يتعلق بالأمراض المعدية والأوبئة والأمراض المزمنة قبل أن تحصل واقعيا وأن يصاب بها الناس بل تريد أن تفعل في عوامل المخاطرة قبل الإصابة بهذه الأمراض (عن طريق علاج معين أو تناول أدوية معينة)، لكن ما يتضح اليوم هو العكس تماما، بحيث أن الفيروس المستجد استطاع، أن يغير معالم كل شيء ويساءل هذه التخصصات، التي تتحدث عن قدرتها التنبئية والاستشرافية، أما المقاربة الثانية تتجسد في المقاربة السوسيولوجية التي تنطلق من إشكالات أخرى ذات طبيعة اجتماعية، ترتبط بإشكالات يمكن اختصارها في مفهومين مركزيين؛ مفهوم الوقاية la prévention ومفهوم الخطر danger / Le risque.Le.

لابد أن نبدأ أولا بالمقاربة العلوم البيوطبية وعلوم الأوبئة والتي تطرح السؤال ماهي المخاطر الصحية للفيروس وطرق الوقاية منه؟ بالحديث عن المخاطر الصحية وطبيعة الوقاية التي يجب اعتمادها نجد أن المقاربة البيوطبية وعلم الأوبئة يعتمدان مقاربة موضوعية، وهي فعلا تساعد في فهم طبيعة الفيروسات وكيف تتطور وبالتالي تحديد نوعية الوقاية التي تتناسب مع المخاطر الصحية، وتعتمد في ذلك على عزل العوامل المباشرة و”الموضوعية” والتي تسميها “عوامل المخاطرة”لكنها من ناحية أخرى وحينما تعزل هذه العوامل فإنها لاتأخذ بعين الاعتبار ثقافة المجتمع ومعاييره الاجتماعية، في حين نعرف أن فيروس كوفيد19 ينتقل بسرعة فائقة، وقد وصلت أعداد الإصابات إلى مستويات كبيرة جدا في مجموعة من البلدان المتقدمة وفي جميع القارات، كما أن الإصابة به تكون عن طريق العدوى وتصيب الجماعة وليست فرد فقط..

في حين أن هذه المقاربة الموضوعية للمخاطر والوقاية منها تركز على الفرد، وهي نفس المقاربة التي تعتمد في غالب الأحيان في وسائل الإعلام والمواقع الاجتماعية والإلكترونية وتعتبر أن جميع الأفراد لديهم مستوى فهم ووعي معين قادر على استيعاب خطابها الوقائي كأنهم أشخاص متجانسين، وهذا أمر غير صحيح، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه مع بداية انتشار الوباء في المغرب، وحتى بعد انطلاق الحجر الصحي، خرجت أعداد غفيرة للشارع بشكل جماعي تنادي بصوت واحد”أن هذا الوباء من عند الله” وتطلب اللطف من عند الله ، أو تعتبر أن الفيروس مستورد من أمريكا أو أنه صناعة للمختبرات الأجنبية وغيرها، وهذا يبين أن ثقافة الجماعة ثقافة قوية في المجتمع المغربي ، ومن الصعب أن يتم تغييرها بسهولة.

من المؤكد أن المغرب اتخذ عدة إجراءات مهمة، ولا يمكن إلا أن نثمن مجهودات الدولة والمجتمع المدني لمحاولة التقليل من تداعيات الوباء على بلدنا.لكن إذا رجعنا، الآن، إلى المقاربة الوقائية في المغرب والتي تعتمد على خطاب فردي يتمثل في غسل اليدين وطرق العطس وطرق التعقيم، واعتماد النظافة اليومية وهي مهمة، لكنها تظهر كأنها سلوكيات مرتبطة بالفرد وحده، وفي الحقيقة هذا الوباء خطر على الجماعة والمجتمع ككل وأول نقطة يجب التركيز عليها في الوقاية من هذا الوباء هو أنه معدي وأنه يمس الجماعة ككل، والتقليل من هذا المعطى كانت نتائجه واضحة من خلال ما ظهر مؤخرا من بؤر للانتشار الفيروس؛ بؤر عائلية بمجموعة من المدن المغربية أو بؤر في المصانع أو أسواق تجارية أو تكتلات بشرية، وبالتالي يلاحظ أن فئات واسعة من المجتمع لا تعي حقيقية خطورة هذا الوباء وسرعة انتشاره، وبالتالي فاعتماد المقاربة الفردية في التعامل مع الوباء تبقى مقاربة قاصرة، ومعلوم أيضا أنه في حالة الجائحة التي تهدد الصحة العمومية لابد من نهج سياسة وقائية جماعية وليس فردية.

وهذا لا نلمسه في السياسات الوقائية المعتمدة تجاه جائحة كورونا سواء في المغرب العربي أو في عدة بلدان أوروبية ومنها فرنسا.

ومن الناحية السوسيولوجية يقول الدكتور أننا نحتاج لوقت كافي لفهم وتحليل كل ما يتعلق بهذه الجائحة وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصاديةنظرا لأن الفيروس لا زال يثير نقاشا حادا بين علماء بمختلف تخصصاتهموهم أيضا يبحثون عن مستجداته قصد دراستها، لكن هذا لا يمنع من إبداء بعض الملاحظات الأولية حول الموضوع، فالسوسيولوجيا تقوم بدراسة التمثلات الاجتماعية للجماعات وكيف تتصور الأوبئة أو الأمراض وحينما تدرس هذه التمثلات تتوخى فهم الدهنيات السائدة ومن ثم تحديد معالم الوقاية المناسبة، بحث لا يمكن أن نتصور وقاية جيدة من فيروس كوفيد المستجد بدون تفكيك الأنساق الثقافية والتصورات التي يحملها الأفراد حول هذا فيروس، وهنا يطرح السؤالما طبيعة تمثلات السائدة لدى غالبية أفراد المجتمع لهذه الجائحة ؟ هل هي تمثلات طبيعية (كالزكام الموسمي) أو دينية (بلاء من عند الله، عقاب إلهي، وهل الوقاية أو الشفاء بيد الله ؟) أو علمية ؟ كيف تتأثر وتؤثر الجماعة في تمثلات الوباء ؟هل للجماعةدور في الوقاية من هذا الفيروس ؟ كيف يؤثر الوباء على الرابط الاجتماعي؟ وتجدر الإشارة أن الإجابة عن هذه الأسئلة وأخرى ذات أهمية بالغة وستمكن من وضع تصور أولي للوقايةيتلاءم والوضع الاجتماعي والأنساق الفكرية لغالبية فئات المجتمع ولا يجتر أو ينقل حرفيا منظور المنظمات الدولية أو منظور دول أخرى.

وفي إطار المقاربة السوسيولوجية البنائية يمكن الانطلاق من فرضية هامة وهي أنالتعامل الوقائي للمغاربة مع جائحة كوروناقد يتأثربالبناء الاجتماعي والثقافي للمخاطر المرتبط بالفيروسات السابقة (أنفولونزيا الموسمية، أو أنفولزنزيا الخنازير، أنفولزنزياH1N1…) لأن التمثلات الاجتماعية تستمد مادتها الخام، أحيانا، من الذاكرة الجماعية. كما أن استيعاب المغاربة لطرق الوقاية ومجابهتها قد يتباين من فئة لأخرى فالبعض منها قد يكون فهمه ومعرفته بالجائحة علميا، بينما قد يكون التأويل الديني والثقافي الشعبي، لدى فئة عريضةمن المغاربة،هو السائد في تعاملهم مع هذه الجائحة، خصوصا ونحن نعرف أن الجانب الثقافي-الديني هو سائد في المجتمع المغربي.

لهذا نحتاج في هذا الصدد إلى فهم الأنساق الثقافية التي تحكم في تمثلات المجتمع، ومن ثم تحديد أفضل وقاية يمكن اعتمادها، ونحن بحاجة، أيضا،إلى مقاربة متعددة التخصصات للبحث ودراسة الموضوع الجائحة من جوانبها المتعددة، وكل ما يترتب عنها. وعلى سبيل المثال فالجانب الاقتصادي يفرض نفسه في إطار دراسة جائحة كوفيد 19، ويطرح إشكالا كبيرا، فبالرغم من استفادة فئات لا بأس بها تعاني من الهشاشة من الدعم الرسمي، إلا أن هناك فئات اجتماعية تعاني معاناة حقيقة وتعتبر أنها غير معنية بكل هذه التدابير الاحترازية، وتقول إما أنها ستموت بكورونا أو ستموت بالجوع، وهو ما يحول دون تحقيق الوقاية شاملة.

فعند خروجنا للضرورة لتبضع نلاحظ وجود فئات غير مبالية إطلاقا بشروط التباعد البيني والسالمة الصحية بين الأفراد ووضع الكمامات، وبالتالي يطرح السؤال بإلحاح لماذا لا تبالي بعض الفئات بتعاليم الوقاية رغم خطورة الفيروس؟ هل لذلك علاقةبغياب أو عدمغياب الوعي المجتمعي أم بإكراهات اجتماعية (الخروج إلى الشغل، التنقل، التطبيب، التسوق…إلخ)؟
وهذا ما يقودنا لإثارة الانتباه إلى تراجع الدور الرائد الذي كانت تلعبه مؤسسات التعليم والصحة ومركزيتها داخل المجتمع والذي يرجع إلى السياسات النيوليبرالية التي تنهجها الدولة المغربية وخوصصة هذه المؤسسات، بخلاف بعض النماذج الدوليةالأخرى، حيث يوجد نموذج تعليمي وصحي قوي جدا مكن من مجابهة الأزمة ولو جزئيا.

كما تجدر الإشارة إلى أن ما يقع الآن هو درس تاريخي في قطاع الصحة، يجعلنا ندعو فيه للخروج من تلك التصورات النفعية الضيقة والميركانتيلية التي تريد سلعنة مؤسسة الصحة وإفقاد العاملين فيها لطابعهم الإنساني، أو التي تتعامل مع المريض باعتباره زبون، وقد بينت هذه الأزمة الرجوع بقوة للتعامل الإنساني للعاملين في هذا القطاع. فالفيروس، وكما يرى الجميع، تجاوز جميع التفاوتات الاجتماعية وأصبح يهدد الجميع، على خالف بعض الأمراض المزمنة، التي بينت الدراسات والأبحاث أنها تعرف تفاوتا اجتماعيا جليا سواء في مخاطر الإصابة بالمرض أو العلاج منه كمرض السرطان وغيره.
وأنهى الأستاذ محمد عبابو مداخلته ببعض المُدْخلات العمَلية أولها التنويه بأهمية المقاربة المتعددة التخصصات التي تم الأخذ بها في هذه الندوة وأكد على ضرورة اعتمادها لمواجهة أية أزمات صحية مستقبلاً، كما عبر عن استعداده لاحتضان لجنة علمية تتضمن متخصصين من كل الحقول المعرفية ؛ علم الأوبئة، الطب، البيولوجيا، سوسيولوجيا وأنثربولوجيا، الاقتصاد والحقوق …الخ، للعمل في هذا الاتجاه بهدف تحسين الوقاية.

هذه اللجنة ستتم بين جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس وجامعة مولاي اسماعيل بمكناس. وأضاف الأستاذ عبابو أن تحقيق الوقاية والحماية من مخاطر الأوبئة، تتمثل في ضرورة إعادة “المسألة الصحية” إلى مكانها الطبيعي والجوهري في المجتمع، من حيث كونها مجالا للعمل الإنساني النبيل والمشرف، مجال لا يحتمل منطق اللاإنسانية والتعامل مع المريض كزبون كما يحدث للأسف. لقد آن الأوان يقول الأستاذ عبابو للتفكير الجاد في الصحة والتعليم العموميين ، وجائحة كورونا درس تاريخي يلزمنا الاستفادة منه والتعاطي معه إيجابياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى