ذاكرة

ذاكرة: عشر سنوات على رحيله… و محمد عابد الجابري (الصحافي) 2/1

تحدث محمد عابد الجابري (1935- 2010) عن سيرته الأولى ونشأته في كتاب حمل عنوان “حفريات” (دار النشر المغربية، 2004)، كتاب عرض فيه ذكرياته الشخصية، وغرف من معين مخزونه الثقافي والحياتي، موظفا الصورة والإشارة والتلميح والرمز، بتدفق لا يخلو من عفوية ومن إبداع.

كما نجد صفحات ضافية من حياة محمد عابد الجابري ونضاله السياسي والفكري، ضمن المنجز الثوثيقي الذي أشرف هو بنفسه على جمع وترتيب مقالاته والاستجوابات التي أجريت معه ونشرت في الصحف والمجلات المختلفة في العالم العربي، وأضاف إليها هوامش وملحوظات وتعليقات خاصة بآرائه، في سلسلة شهرية، تضمنتها كتيبات شعبية لا يتجاوز سعرها العشرة دراهم والخمسة عشر درهما، وحملت عنوان: “أضواء ومواقف”.

عبدالرحيم التوراني

اشتهر عابد، أو عابد الجابري، (هذا هو الاسم المشهور به بين رفاقه وأصدقائه، من دون لفظ محمد)، بصفته مفكرا بارزا من أعلام الفكر العربي الذين ظهروا في نهاية القرن العشرين، وذاع صيت أطروحته حول نقد العقل العربي، كما ذاعت دعوته إلى ما يسمى ب”الكتلة التاريخية”، وكان هو مترجم فكرة رفيقه الفقيه محمد البصري بهذا الشأن، إذ ربطت الرجلين عروة وثقى لم تنفك حتى الممات.

***

لكن الناس يجهلون محمد عابد الجابري الآخر، الجابري الصحافي، وهو موضوع ما يليق بإنجاز أكثر من دراسة وبحث رصين بصدده.

إن الإعلام الاتحادي مدين لهذا الرجل بالكثير، منذ تأسيس جريدة “التحرير” إلى جريدة “المحرر”، قبل منعها بسنة، إثر انتفاضة 20 جوان 1981.


شغل الجابري مهمة سكرتارية التحرير، وكان الحزب يعتمد عليه أكثر من غيره في تحرير البلاغات والبيانات والتقارير والنشرات الداخلية الصادرة عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، واستمر الجابري في القيام بهذا الدور بعد منع “التحرير” واستبدال ترويستها بترويسة “الرأي العام” لصاحبها أحمد بنسودة، لما اندمج بنسودة داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، هو وصديقه الدكتور عبد الهادي بوطالب، قادمين من حزب الشورى والاستقلال، وقبل عودتهما سريعا إلى أحضان النظام بتعيينهما في مهام سامية ووزارية، وقد أصبحا مستشارين للملك الراحل الحسن الثاني.

***

في صحيفة “المحرر”، التي تولى مديريتها بالتتالي كل من الشاعر والمناضل محمد الحبيب الفرقاني، والمحامي ابراهيم العمراني، الذي كنت ألتقي به في مقهى الساتيام في آخر حياته، لما كان يجيء إلى الدار البيضاء من مدينة بني ملال، ، كان يعاني من جحود الإخوة والرفاق وتقلبات الأيام، كان يشكو بألم وحزن شديدين لم يعرف وسيلة لمداراتهما إلا بدفنهما في الشرب والإدمان.

***
في صيف سنة 1974، تم رفع الحظر عن نشاط الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، (جناح الرباط بقيادة عبد الرحيم بوعبيد)، وتقرر استئناف صحيفة “المحرر” في إصدارها اليومي بإدارة عمر بنجلون. استأنف عابد الجابري مهمته: المحرر الرئيسي للافتتاحيات والمقالات، ومحرك البوليميك الذي كان يحصل مع حزب الاستقلال ومع المخزن. كان عابد الجابري في الدار البيضاء، حيث مكاتب الجريدة، على اتصال دائم بعبد الرحيم بوعبيد في الرباط عبر الهاتف الثابث، للتشاور معه حول فكرة أو مقال، وكان أحيانا يقرأ عليه نص افتتاحية أو موقف سيصدر في عدد الغد.


***
عند إعداد وثيقة التقرير الإيديولوجي التي ستقدم في المؤتمر الاستثنائي بالدار البيضاء (10، 11، 12 يناير 1975) تكلف عابد الجابري بصياغة التقرير، الذي تشكلت لجنة إعداده أساسا من عمر بنجلون وأحمد الحليمي وعابد الجابري ومحمد الناصري (الجغرافي). وكان أحمد الحليمي هو من ترأس لجنة التقرير الإيديولوجي في المؤتمر.
الجابري لم يحرر فقط التقرير الايديولوجي بلغته العلمية وأسلوبه الصقيل فقط، بل هو من كتب التمهيد التاريخي للتقرير، وانبرى للدفاع عن أطروحة المؤتمر بكتابة مجموعة من المقالات التي كانت تصدر يوميا ب”المحرر” تحت عنوان: “حقائق أكدها المؤتمر”، كان يوقعها باسم (أبو عصام)، في حين اختار الشهيد عمر بنجلون توقيع مقالاته في نفس الزاوية باسم (أبو سهام)، كما شارك المرحوم مصطفى القرشاوي برأيه في بسط حقائق المؤتمر واختار التوقيع باسم (أبوغادة).

بعد احتدام الصراع الداخلي داخل الحزب، وارتفاع منسوب الدسائس والانزلاقات، سيضطر عابد الجابري إلى الاستقالة، لقد هزمه الثعلب محمد اليازغي. اليازغي الذي لا يكتب، ولا يملك مستوى عاليا في فن الخطابة، لكنه يستعيض عنها بموهبته ودهائه في فن التنظيم والتواصل السري، هو من قدم التقرير التنظيمي في المؤتمر الاستثنائي عام 1975. وحرص على بناء تنظيم داخل التنظيم، مشكل من أتباعه ومن مريديه، وجلهم من الطامعين في “كعكعة المخزن”، أو بالتعبير البهجاوي المراكشي في شدق من”خبزة سيدي بلعباس”.


اضطر الجابري إلى رفع الراية البيضاء، وعاد في سيارته “البوجو” الزرقاء إلى بيته في حي بولو الهادئ، حيث حول مرأب السيارة الفسيح إلى مكتب ضاقت به خزانة كبيرة من الكتب وصناديق المطبوعات والوثائق والأوراق، ليعتكف على ما سعى دائما إلى تأجيله وإهماله دون استكمال، وليؤلف وينجز مشروعه الكبير، الذي “ساهم في صدوره”، إذا شئنا أو أبينا محمد اليازغي من خلال دفعه “ناقد العقل العربي” إلى الاستقالة وإلى الابتعاد.
***
بعد نيله شهادة البكالوريا، مرشحا حرا، دون أن يمر بسنوات الدراسة الثانوية كلها، سافر عابد الجابري إلى دمشق، حيث تسجل لمتابعة دراسته الجامعية في شعبة الرياضيات، لكنه سيعود في السنة الموالية إلى المغرب، بإلحاح من الحزب، من المهدي بنبركة والفقيه محمد البصري تحديدا، للاستعانة بمواهبه في الكتابة والتحرير الصحفي.
***
كان عابد الجابري ينشر مقالات فكرية وسجالية بمجلة “أقلام”، التي أشرف عليها أستاذا الفلسفة ابراهيم بوعلو وأحمد السطاتي، وتولى المحامي عبد الرحمان بنعمرو مهمة مديرية النشر.


وقد جمع محمد عابد الجابري مقالاته المنشورة ب”أقلام” حول التعليم في كتاب بعنوان: “أضواء على مشكل التعليم في المغرب”. وقد استهل الجابري هذا الكتاب الذي يعد أول كتاب بالعربية يعالج قضايا التعليم في المغرب (دار النشر المغربية -1973)، كما اختتمه بنفس العبارة: “ثمة، في المغرب الراهن، مشكل مزمن؛ مشكل يحتل الصدارة ضمن مجموعة المشاكل الأخرى التي لم تعرف بعد طريقها نحو المعالجة الجدية، والحل الصحيح.. إنه، بلا نزاع، مشكل التعليم “.

أما أول كتاب صدر للجابري فكان أطروحته لنيل الدكتوراه في الفلسفة حول ابن خلدون، وكان عابد الجابري أول مغربي يناقش دكتوراه الدولة بالجامعة المغربية في كلية الآداب بالرباط سنة 1970، وظهرت الأطروحة ضمن كتاب في طبعتها الأولى 1971، تحت عنوان: “فكر ابن خلدون، العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي” (دار النشر المغربية- الدار البيضاء).
انطلق الباحث محمد عابد الجابري من فكرة دراسته هذه حول معالم نظرية ابن خلدون في العصبية والدولة من منظور إسلامي، متوخياً “تقديم آراء ابن خلدون كما هي، وكما فكر فيها هو، انطلاقاً من نظرة شمولية، ترص على أن تجد للأجزاء مكانها في الكل، حرصها على النظر إليها على ضوء مشاغله الشخصية وتجربته الاجتماعية، وعلى اعتبار أنها امتداد وتطور لمنازع الفكر العربي السياسي والاجتماعي من خاصة”. مؤكدا على أن التراث الخلدوني لربما يشكل “بنفس الدرجة من القوة والعمق، جانباً مهماً من جوانب واقعنا العربي الراهن، هذا الواقع نتواجد فيه جنباً إلى جنب بنيات القرون الوسطى، والبنيات الجديدة التي خلقها عالم اليوم”.
***
حرص عابد الجابري دائما على طباعة كتبه في المغرب في مؤسسة الحزب “دار النشر المغربية” التي أصبح أخوه الأصغر عمر الجابري مديرا لها، قبل إفلاسها وتفويتها بالبيع (!) في بداية الألفية الحالية.

كما كلف عابد الجابرى أحد قدماء عمال دار النشر المغربية صار صاحب مطبعة هو بوعزة بنشرة المتحدر من المغرب الشرقي، بطباعة أحد كتبه.

وغالبا ما كان الجابري يحتفظ بحقوق كتبه، حتى تلك التي نشرها له مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، حيث كان الجابري عضوا بارزا في المؤتمر القومي العربي. وعضواً بمجلس أمناء المؤسسة العربية للديمقراطية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى