رأي/ كرونيك

نقد العقل المحض ونقد العقل العربي ومحمد عابد الجابري

تمثل أساس البحث لدى “كانت” في المنهج وليس نظام العلم نفسه، وجعل قوانين الفكر هي الأساس و المركز الذي تتحرك حوله الموضوعات وليس العكس كما كان يعتقد، واعتبر أن أفق العقل العلمي أوسع من ضيق العقل النظري، فطريق هذا الأخير مسدود تماما، ومع ذلك رأى “كانت” أنه لا مفر من الأسئلة الميتافيزيقية لدى العقل البشري، فالطريق الذي سلكها الفلاسفة هو طريق مسدود، و إنسداده كامن في العقل البشري ذاته، دون أن يكون له علاقة بالمبادرة الفلسفية ذاتها، فلدى الصوفية عندما تتجلى الحقيقة يرتد العقل،

إن إحساس “كانت” بالإنسداد العقلي جعله يخوض تجربة أخرى تختلف عن تجارب كل الفلاسفة الذين سبقوه، كما تختلف عن تلك التي خاصها الصوفية، فقد وضع نظرية في المنهج تعمل على تقييد فعل الفلسفة وترسيم حدود خارطة المعرفة البشرية، فالتحقق من أن النظرية خاطئة يمد بالحافز على البحث عن نظريات جديدة، وفيه يتحقق التقدم كالذي يشير له فلاسفة العلم و الفزيائيون، كما ثأثر بكانت أغلبية معاصريه من الفلاسفة ومنها مثالية فخته وشلنج و هيجل و شوبنهاور.

كما أن المدارس التجريبية و التحليلية كانت متأثرة به هي الأخرى و على رأسها المدرسة الوضعية المنطقية، فقد اخدت هذه المدارس عن “كانت” أن للفلسفة غاية لا تتمثل في الكشف المعرفي وإنما هدفها تحليل المعرفة وضبطها ضمن حدود لا تتعداها، ففي الأساس إن حجر الزاوية التي اعتمدها “كانت” في تأطير المعرفة البشرية إنما جاء من خلال مبدأ السببية،

إذ تكاد السببية أن تكون الجسر الوحيد الرابط بين الإطار التجريبي وما بعده لدى الفلاسفة، ويكاد يكون الوحيد الذي يتعين من خلاله الكشف المعرفي المتافيزيفي، وبدونه يصبح الهدف الفلسفي محصورا ضمن إطار التحليل من دون تجاوز.

فمبدأ السببية يشغل القسم الرئيسي من تحليل العقل النظري، ومن خلاله يتبين إن كان يمكن تجاوز الإطار الحسي والتجريبي للمعرفة ام لا؟.. ،إن “كانت” في مشروعه النقدي، وهو يعي ترائي التناقضات للقارئ كما تبديها الكتب الإبداعية، لكنه عزا ذلك إلى تشويه القارئ أو قصوره عندما تنتزع بعض العبارات من سياقها ويقارن فيما بينها فتبدو متناقضة، في حين رأى أن من استوعب الفكرة بأكملها سيتمكن من إزالة هذه التناقضات بكل سهولة، وكتاب (نقد العل المحض) ينحصر في الأحكام السالبة، وذلك لتلافي أغلاط التوسع المعرفي غير المنضبط.

فمهمة (نقد العقل المحض) هي السلب لتطهير العقل وصونه من الأخطاء، والهدف هو تصويب معارفنا وليس توسيعها، وذلك ينقد قدرة العقل الخالص نفسها، فلا يمكن تلافي أغلاط القضايا التي تخضع للمحاكمة التجريبية و الحدسية إلا عبر الأحكام السالبة، وهذه هي ثمرة البحث النقدي، لقد استهدف “كانت” تقييد العقل الفلسفي عبر هذه الفائدة السالبة لرصد الزيادات المعرفية التي لا معنى لها، وهي الفائدة الوحيدة لأي فلسفة للعقل المحض، الإحتراز من الأغلاط وليس كشف الحقيقة، ويعتبر هذا العمل من خلال الإحتكام العقلي أعظم طعنة تتعرض لها المذاهب الميتافيزيقية، فمهمت الفلسفة أساسا هي نقد العقل و محاصرته نظريا وتكمن إضافة “كانت” بأنه يجب مراجعة أحكامنا الفلسفية فهي أقرب للمنهج منه إلى التفلسف.

الجابري في نقد العقل العربي :

من خلال كتاب نقد العقل العربي يتسائل المفكر المغربي محمد عابد الجابري عن إمكانية قيام نهضة بغير عقل ناهض، بمعالجته الآليات البنيوية التي تحكمت ولا تزال في إنتاج المعرفة تلك الآليات التي ورثناها عن الماضي من خلال تعرية جذور التخلف في العقل المسيطر على هذه الثقافة، وإن الإنكباب في في الإنتاج الفكري باساليب تقليدية وعتيقة لن تسهم إلا في إعادة إنتاج هذا الواقع الذي نشتكي منه، فالعقل في أخر المطاف هو المشرع الذي يفرز لنا تقريبا كل ما نراه من تجليات على أرض الواقع سواء كان هذا العقل متقدما أو غارقا في التخلف و التراجع، فهو في الحقيقة ليس إلا إنعكاس للعقل ولهذا كان يجب أن تنطلق أعمال النقد للبنى اللاشعورية للعقل العربي قبل مائة سنة.

وتناول الجابري مفهوم الشرق و الغرب عبر الشرق الذي لا يزال يحتفظ بالشرط التاريخي للقرون الوسطى بالتفكير التقليدي القديم الذي يشكل “الدين” محوره الأساسي ،في غياب الإستقلال العقلي، والنظام السياسي العتيق الخال من اي ديمقراطية، ومفهوم الغرب الذي يعيش الرخاء الإقتصادي و مفاهيم الحداثة في رؤيته إلى السياسة و الدين و الطبيعة…

ويعتبر الجابري الوطن العربي مازال متخلفا عن ركب الفكر العلمي، ومازالت الدراسات الفلسفية عند العرب منشغلة بالميتافيزيقا، أكثر من اهتمامها بقضايا العلم و المعرفة و التكنولوجيا الشيء الذي انعكس على المنهج التعليمي العربي بشكل مركز، وتدشين صفحة نقدية أخرى وهذه المرة للعقل الأوروبي، وتطرق الجابري في كتابه نقد العقل العربي إلى تكوين العقل العربي و بنيته الأول يهيمن عليه التحليل التكويني و الثاني يسود فيه التحليل البنيوي، وهذا ما يفسر بالذاث إرتضاء ناقد العقل العربي للمنهج الإبستمولوجي ،بتحليل آليات اشتغال العقل اللاشعورية.

ولقد عرف العقل العربي “كأداة للإنتاج النظري و انه ليس شيئا اخر غير الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري وصنعتها ثقافة معينة لها خصوصياتها هي الثقافة العربية بالذاث” التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري، وتعكس واقعهم وتعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية، وكما تحمل وتعكس وتعبر في ذات الوقت عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن، فكون الأداة وسيلة لا يستلزم أن تكون خالية من أي محتوى، غير أن الإقرار بوجود عقل عربي يتضمن إستلزاما، وجود عقول اخرى، تتميز عنه وتختلف، من حيث أسسها و قواعدها عن عقول أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى