الدكتورة نجاة النرسي و “الحميم والألم: تأملات في العنف ضد النساء خلال الحجر الصحي”
التطلع إلى مجتمع العدالة والإنصاف والمساواة يتطلب إرادة سياسية واشتغالا عميقا على المقررات الدراسية والمواعظ الدينية ووسائل الإعلام…
تغطية ومتابعة: علي بنساعود
أكدت الدكتورة نجاة النرسي أن التطلع إلى مجتمع العدالة والإنصاف، حيث الحميم لا يشكل موقع تهديد للنساء، يستلزم إرادة سياسية يرافقها عمل تربوي عميق يقوم على إشراك المجتمع بأكمله في إحداث تغيير في لغة الهيمنة، والربط بين اللامساواة في العمل واللامساواة في البيت، إضافة إلى الاشتغال على العدة المفاهيمية للهيمنة، وإلى لغتها التي تخترق المقررات الدراسية والمواعظ الدينية ووسائل الإعلام والأفلام والمسلسلات والإعلانات وشبكات التواصل الاجتماعي…
جاء هذا خلال محاضرة ألقتها الباحثة، وهي أستاذة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، (ألقتها) عن بعد، مساء الثلاثاء 23 يونيو الحالي، عبر منصة الفيسبوك، بدعوة من جمعية “أكورا للثقافة والفنون”، وكانت تحت عنوان: “الحميم والألم: تأملات في العنف ضد النساء خلال الحجر الصحي”.
وأوضحت الباحثة أن ظاهرة العنف الذي تتعرض له النساء داخل البيوت كادت تنسينا إسهاماتهن المشرقة في المجتمع، سيما أنهن كن في طليعة الأطر التي وفرت العناية للمرضى، داخل المستشفيات، على حساب راحتهن وراحة أسرهن، وأنهن عبر امتهانهن لمهن لم تكن مرئية أو منظورة (عاملات النظافة، عاملات فلاحيات، عاملات صناعيات…) كن يخاطرن بحياتهن في سبيل لقمة عيش مرة.
ونبهت الباحثة إلى أن العنف ضد النساء يكتسي صبغة كونية وأنه حضر بشكل قوي في الخطاب السياسي والإعلامي الدولي أخيرا، واستندت في ذلك إلى نداء الأمين العام للأمم المتحدة دعا فيه إلى إرساء السلم في البيوت وحماية النساء من العنف المنزلي، وذكرت بإحصائيات لحالات العنف ضد النساء في كل من كندا وفرنسا وإيطاليا، لتخلص، من كل ذلك، إلى أن العنف ضد النساء ظاهرة كونية متجذرة في الممارسة اليومية للمجتمعات.
وعلى المستوى الوطني، ذكرت مؤلفة كتاب “تحولات أسطورة أونمير: الإنتاج، التلقي والتخييل” أن رئاسة النيابة العامة سجلت 892 شكاية تتعلق بالعنف ضد النساء، في الفترة ما بين 20 مارس و20 أبريل الماضيين، وأنه تم تحريك الدعوى العمومية في 148 قضية منها، غير أن الجمعيات النسائية التي تمارس في الميدان اعتبرت أن ضعف أرقام التبليغ ناتج عن الأمية الأبجدية والرقمية للمعنفات، وعسر الحصول على المعلومة، وعلى وسائل لتعبئة الشكايات الالكترونية وبعثها من حواسيب أو هواتف ذكية، وإنترنت علاوة على صعوبة التنقل خلال فترة الحجر الصحي. وتعذر خروجهن من البيوت…
وبناء على تحليلها لمجموعة من الشهادات المؤثرة لضحايا العنف، خلصت الباحثة إلى أن الفضاء الخاص لا يزال في منأى عن المساءلة، وأن “البيت هو أخطر مكان بالنسبة للنساء”، كما صرحت بذلك المنظمات النسائية في رسالة إلى عدة وزارات.
وبذلك، فإن النساء المعنفات، خلال وضعية الحجر الصحي، أصبحن يكرهن بيوتهن ويتمنين الهرب منها، وهي البيوت التي من المفترض أن تكون مكانا للسكينة والأمن…
كما أن البيت، بالنسبة إليهن، تحول في ظروف الحجر، من فضاء حميم إلى فضاء لتهديدهن، واستهداف سلامتهن النفسية والجسدية، مكان ينتهك فيه حقهن في الاحترام والكرامة والحماية، كما أن هذا البيت تحول من عش مثالي للأحلام إلى مكان واقعي يقترف فيه العنف النفسي والجسدي مع الإفلات من العقاب.
وبذلك، أصبح البيت/ الفضاء الحميم، حسب منسقة ماستر النوع الاجتماعي: الخطاب والتمثلات بكلية المحمدية، (أصبح) مصدرا للخطر، وفضاء للألم بالنسبة للنساء المعنفات، لذا من الضروري أن يغدو الفضاء الخاص سياسيا. وأن يرفع شعار: “الخاص شأن سياسي” وهو شعار يكتسي قيمة تحليلية وإجرائية، لأنه يفتح المجال أمام مساءلة الفضاء الخاص الذي لم يُنظر إليه قط على أنه سياسي…
واستنتجت الباحثة أنه بفضل هذا الشعار أصبح الاضطهاد الجماعي سياسيا. وبما أنه سياسي، لم تنحصر تجربة العنف فقط على التاريخ الفردي، بل أخذت بعدًا آخر يمكن من مساءلتها وتدارسها وخصوصا تغييرها.
ومن هذا المدخل “الخاص هو سياسي”، حدثت طفرة كبيرة في النضال النسائي من أجل إحقاق الحقوق وحماية النساء، فهو يمتح مشروعيته من أسئلة تتعلق بالمسكن من حيث هو فضاء حميم، ويتحول الحميم إلى رهان سياسي. وعلى سبيل المثال، لم يكن ممكنا خوض معركة Me-too، وBalance ton porc، وحركة Masaktach ضدالتحرش، ودينامية جسدي حريتي، وخارجة على القانون، لو لم يتم استحضار السياسي في صلب ما كان مقصيا من السياسي.
وعليه، اعتبرت الدكتورة النرسي أن العنف ضد النساء الذي يوجد في قلب الطرح القاضي بأن الخاص هو شأن سياسي بامتياز، يكتسي بعدا كونيا. وهو ما يطرح، حسبها، وبإلحاح، سؤال كيف ولماذا تستمر هذه الظاهرة في التواجد حتى في الديموقراطيات العتيدة؟ ولماذا تستمر رغم وجود القوانين الرادعة؟
وجوابا عن هذه الأسئلة، أثارت الباحثة مسألة اشتغال عدد من الدراسات والأبحاث في العلوم الإنسانية حول هذه القضية، وتقديمها عددا من التفسيرات الأنثروبولوجية والإثنولوجية عن نشأة وتكون واستمرار هذه الظاهرة المتصلة اتصالا عضويا بالهيمنة الذكورية.
وفي هذا السياق، اقترحت الباحثة نظرية “التباين التفاضلي بين الجنسين “La valence différentielle des sexes لصاحبتها فرنسواز إيريتيي Françoise Héritier كأفق للإجابة عن هذه الأسئلة وتفسير ظواهر استمرارية الهيمنة الذكورية التي تبرر العنف وتشرعنه، حيث سيتم، منذ العصر الحجري القديم، وضع ثلاث قواعد كبرى، تسندها قاعدة رابعة تتعهد بإحكام إغلاق النسق، وهي الأسس التي تشكل خلفية تنظيم العلاقة بين المؤنث والمذكر.
وهذه القواعد هي: الحيلولة دون تمتع النساء بالحق في حرية التصرف في أجسادهن ومنع النساء من الوصول إلى المعرفة ومنعهن من الوصول إلى السلطة. والرابط بين كل هذا هو الإرساء التدريجي للغة الهيمنة التي تمر عبر الازدراء والتحقير والتنقيص، أي ما يطلق عليه عموما الصور النمطية، أو الأحكام المسبقة، أو الكليشيهات، وهي صور نمطية لا تنمحي لأنها بنيوية ومهيكلة لتفكيرنا في المذكر والمؤنث وخصائصهما، إنها لغة الهيمنة عينها.
وأعطت الباحثة مثالا من العدد الهائل من الصور النمطية التي تم تداولها طيلة الحجر والتي تستهدف النساء وأجسادهن وأدوارهن وحتى كينونتهن.
وأشارت الباحثة إلى أن كل المجتمعات الإنسانية قدمت تعريفا للمذكر والمؤنث في النظام المفهومي، بالاستناد إلى مقولات ذهنية ثنائية ومتباينة، مثل: الأعلى والأسفل، الحار والبارد، الجاف والرطب، الثقيل والخفيف، الخشن واللطيف، القوي والهش… هذه المقولات المجنسنة هي، علاوة على ذلك، تراتبية، بحيث إن المقولة الإيجابية، في جميع الثقافات، هي تلك التي تناسب المذكر، أما المقولة السلبية فتفرد للمؤنث.
زهذا التباين التفاضلي هو نموذج معرفي قوي للغاية، توارثته الإنسانية بواسطة التربية عبر الأجيال، وتشبعت النساء طريقته في التفكير، وأصبحن يسهمن في استدامته واستمراريته ونقله للأجيال المتتالية بشكل طبيعي وسلس.
وأكدت الباحثة أنه من الممكن أن تتحول معطيات كثيرة، لكن اللامساواة تظل ثابتة لدى جزء كبير من البشرية، وتظل الهيمنة وأساسها المعرفي اللغوي قائما رغم تقدم البشرية، ولغة الهيمنة تلك تبرر العنف وتسمح بالتطبيع معه.
وقد اعتمدت الباحثة هذه النظرية في تفسير عدد من الصور النمطية التي تم تداولها طيلة الحجر الصحي والتي تستهدف النساء وأجسادهن وأدوارهن وحتى كينونتهن، وانتهت إلى خلاصات أشارت فيها إلى أن أي محاولة للقضاء على العنف ضد النساء والحد من آلامهن داخل المجالين الخاص والعام ستبوء بالفشل إذا لم تأخذ في الاعتبار تفكيك المقولات المعرفية التي تضفي الشرعية على التراتبية الجنسية بل تؤسسها وتدعمها…