فكر .. تنوير

الدين والعلم..علاقة اتصال أم انفصال؟

مثل الدين في معناه الاصطلاحي العلاقة التي تربط بين الإنسان والله، وهو ما يمثل خضوع العابد للمعبود، والتسليم له، والدين في مجمله نزل كي يسد الفراغ في الإجابة عن الأسئلة الوجودية العميقة التي تنتاب الإنسان عن: ما حقيقة وجود الإنسان على الأرض؟ وما حقيقة الموت؟ وما طبيعة مصير الإنسان بعد الموت؟ وما حقيقة البعث؟ أسئلة كبرى تشكل مصدر قلق وجودي للإنسان في الحياة، ولم يستطع أي مجال من مجالات المعرفة البشرية أن تقدم لنا إجابة شافية على هذه الأسئلة فكان الدين وحده هو الذي قدم لنا الإجابات الواضحة عن هذه الأسئلة ليطفئ بعضاً من قلق الإنسان الوجودي، ويروي عاطفته المشبوبة، وذلك بالإجابات التي قدمها للإنسان حول حقيقة هذه الأمور الغيبية، والتي تؤسس جوهر الدين.

بقلم أحمد سالم كاتب مصري

الخلاف بين العلم والدين هو نتيجة للخلاف بين رجال الدين ورجال العلم حول ملكية السلطة في المعرفة والتوجيه

وبالمقابل فإنّ العلم هو نشاط إنساني قائم على طرح فرضيات لتفسير ظواهر عالم الطبيعة والإنسان، وإذا تم التحقق من هذه الفرضيات بالملاحظة والتجربة تحولت الفروض إلى نظريات في تفسير الظواهرة التي يحاول العلم تفسيرها؛ فالعلم يستند إلى المنهج العقلي القائم على الملاحظة والتجريب، وإدراك وتفسير كيف تحدث الظواهر، وهل يمكن التحكم في مسارها، هنا يدور العلم في نطاق المجال العيني والظواهر المادية في معظمه.

طه حسين

ورأى طه حسين أنّ طبيعة العلم تغاير طبيعة الدين، فإنّ “الدين نزعة ذاتية، أما العلم فنزعة موضوعية عامة، وموضوعية العلم تنحصر في أن ينظر إلى عالم الطبيعة أكثر من نظره إلى طبيعة الروح المستترة، وبالتالي فإنّ للعلم حدوداً لا يتعداها، وهو حين يبحث في الدين فإنما يلزم في ذلك حدود العلم، فلا يتخطى حدود العقلية البشرية، ويترك للدين وازع ما بعد العقلية، ومن جانب آخر فقد أكد طه حسين على أنّ كلاً من العلم والدين له ملكة خاصة به “فالعلم والدين لا يتصلان بملكة واحدة من ملكات الإنسان، وإنما يتصل أحدهما بالشعور، ويتصل الآخر بالعقل، يتأثر أحدهما بالخيال والعواطف، ولا يتأثر الآخر بالخيال إلا بقدر”، فثمة اتفاق واضح على الخلاف بين طبيعة العلم، وطبيعة الدين من حيث وسيلة المعرفة في كل منها، ومن حيث طبيعة المعرفة هل هي ذاتية أم موضوعية.

وهنا ينبغي أن نسأل كيف تتخلق المشاكل بين العلم والدين؟ تتجلى المشاكل حين يسعى رجال الدين إلى توظيف منتجات العلم في تعضيد الإيمان بالنص الديني فيلجأون إلى التفسير العلمي للقرآن، متجاهلين أنّ القرآن الكريم نص ثابت في حين أنّ العلم نشاط متغير ونظرياته متطورة في حركة الزمن، وبالتالي فإنّ توظيف المنتج العلمي لخدمة مسألة تعضيد الإيمان، قد يؤدي إلى الشك في النص ذاته؛ لأن العلم متغير ولا يثبت على حال فترات طويلة.

كما أنّ رجال الدين يضعون أنفسهم قيمين على تقييم النظريات العلمية من منظور الحلال والحرام، والأخلاقي واللاأخلاقي، وقد يوظفون الدين في اضطهاد بعض رجال العلم، وذلك لأنهم يعتقدون أنّ سلطتهم الكبيرة على أرواح الناس تتيح لهم حق تقييد حركة العلماء في جانب، ومن جانب آخر فإنّ بعض العلماء، والعديد من النخب المثقفة علمياً، قد تتجه إلى محاكمة الدين بمعتقداته الغيبية، والفكر الديني القائم عليه من خلال الأفق العلمي القائم على الدليل والتجريب، وقد يؤدي هذا إلى التشكيك في معتقدات الدين الراسخة في المجالات التي يرون أنّها تخالف رؤيتهم الدينية في قلوب الجماهير؛ لأن أصول الاعتقاد الغيبي مجالها القلب والعاطفة، ولا يمكن إخضاعها بالكلية للعقل والتجريب، وقد يكون العلم بمحاكماته العقلية والتجريبية سبباً رئيسياً في مروق العديد من المؤمنين إلى طريق الإلحاد.

 

ومن هنا أكد معظم أعلام الفكر العربي أنّ الخلاف بين العلم والدين هو نتيجة للخلاف بين رجال الدين ورجال العلم حول ملكية السلطة في المعرفة والتوجيه، وأنه ليس هناك خلاف بين الدين في ذاته والعلم في ذاته.

ومن جانب آخر فإنّ الخلاف بين العلم والدين يستمد قوته وعنفه من أنّ الدين حظ الكثرة، في حين أنّ العلم هو حظ القلة فيقول طه حسين “إنّ الخلاف بين العلم والدين لا يستمد قوته وعنفه من الفرق الجوهري بين العلم والدين فحسب، وإنما يستمد قوته وعنفه من مصدر آخر، وهو أنّ الدين حظ كثرة، والعلم حظ قلة، فسواد الناس مؤمن ديان، مهما يختلف العصر، والطور، والمكان والعلماء، والمتفلسفون قلة دائماً، فليس غريباً أن تظهر الخصومة قوية عنيفة بين هذه القلة التي نسميها العلماء أو الفلاسفة، وبين السواد.

الانفصال يؤدي إلى التكامل والازدهار وعلاقة الانفصال بين العلم والدين أحد مسارات التقدم الغربي الحديث

ومما سبق نلاحظ أنّ علاقة الاتصال بين العلم والدين من خلال تدخل رجال الدين في مجال العلم، أو محاكمة رجال العلم والنخب العلمية لأصول الاعتقاد الغيبي في الدين ينتج من خلاله العديد من المشاكل التي تسبب خسائر في كلا المجالين، وبالتالي فإننا إذا نظرنا إلى مجال الدين على أنه مجال العاطفة والوجدان، والذي يجيب للعامة والخاصة عن أسئلة وجودية جوهرية في حياتهم، فإننا نقر للدين بمجاله الفاعل في بناء القوة الروحية للإنسان في مواجهة أعباء الحياة ومشاكلها، ومواجهة المحن، ومواجهة الموت، والنهاية المحتومة له، وبالمقابل يكون نشاط العلم هو تفسير الغامض من ظواهر الطبيعة والإنسان بالتعقل والتجريب لفروض التفسير، هنا لابد أن نقر بعلاقة الانفصال بين العلم والدين، وبين مجال رجال العلم ومجال رجال الدين، وذلك رغم تكامل كلا المجالين في الحياة الإنسانية، باعتبار أنّ لكل منهم مجاله ومحيطه، ومن ثم يمكن القول بأنّ علاقة الاتصال بين العلم والدين قد تجر إلى مشاكل لامتناهية لكل منهما، وإلى الصراع بين رجال العلم ورجال الدين، فى حين أنّ الانفصال يؤدي إلى التكامل والازدهار، ولعلّ علاقة الانفصال بين العلم والدين هو أحد مسارات التقدم الغربي الحديث.

المصدر: حفريات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى