رأي/ كرونيكفي الواجهة

في سياق رحيل عبدالوهاب بلفقيه…موت غير محقق

رحم الله الراحل عبد الوهاب بلفقيه. وتعازينا الحارة لأسرته ومعارفه وأصدقائه.

لا رغبة لدي في ترديد الخلاصات المبرمة حول انحطاط السياسة وانحراف السياسيين، وغيرها من الأفكار المسكوكة. اريد فقط ان أقف عند الوجه الإنساني الدرامي لما جرى. فالسياسي هو أيضا بشر تحركه الطموحات والأهواء والأطماع، والتطلعات النبيلة والأقل نبلا. يفرح، ويغضب ويتألم ويضعف، وينتقم…. ومن المفيد ان نتذكر بين حين وآخر مناطق الظل هذه في حياة السياسي.

بونيت4
بقلم الكاتب والباحث الأدبي عزالدين بونيت

عبد الوهاب بلفقيه كان سياسيا ماهرا في التعامل مع مواطنيه، يعرف كيف يحوز ود ومساندة كثيرين منهم، لا يرون فيه الا مظاهر الطيبوبة والتواضع وكونه خدوما وتلقائيا، في تعامله. ولذلك ظل يحوز ثقتهم في الانتخابات، ويحصل على المقعد الانتدابي. ولأنه سياسي، فهناك خصوم منافسون، بل وأعداء لا يرون فيه الا وجها تغطيه المساوئ من كل نوع. وهذا امر معتاد ومتوقع في حقل السياسة، لا داعي لنتصنع إدانته.

لا أعرف الراحل معرفة شخصية. ولكنني اعرفه معرفة عابرة، فرأيته بشوشا غير متشنج، بسيطا في اختزاله للمواقف والتحاليل والقرارات. يذكرني ببعض أصدقائي السياسيين الذين يشبههم في كثير من الخصائص السياسية والإنسانية.

حزنت كثيرا لمقتله، حزنت لأنني كنت ألمس تدفق طموحه وحماسه، وانخراطه في تنشيط الحركية السياسية في محيطه المباشر وفي جهته. ومثل هذه الشخصيات تكون مفيدة جدا في مواقعها، لأنها تسهم بقسط وافر في تنشيط الحياة العامة واستقطاب الاهتمامات ودرء الملل السياسي الذي يسببه غياب مثل تلك الكاريزمات المحلية.

ومما ضاعف من حزني استحضاري لتلك الطريقة المنحطة التي وقعت بها إهانته وإهانة فريقه من المنتخبين، من طرف قيادة الحزب الذي ترشح تحت رمزه، نتيجة التسويات المعقودة مركزيا. لقد شعر بلفقيه بكونه استعمل مثل بيدق صغير في آلة من الحسابات السياسية التي تخدم مصالح القيادة المركزية، ولا تعير اهتماما لتطلعات وطموحات القيادات المحلية. لقد شعر هو ومن معه، بأن قيادة الحزب استخدمتهم بانتهازية مبالغ فيها. وعبر الرجل في إحدى آخر تدويناته عن ألم الطعنة التي أحس بها، معلنا يأسه من السياسة. وهذا هو ما انعكس بوضوح أثناء انعقاد أشغال دورة انتخاب مكتب الجهة، التي قاطعها الفريق، خاصة وأنها انعقدت في ظل حادث إصابة بلفقيه بي إطلاق النار الذي أودى بعد ذلك بحياته.

ومما زاد من شعوري بالحزن ان الفرق الحزبية الأخرى المكونة مجلس الجهة، لم تأبه لهذا الحادث، ولو بحركة رمزية، تعبر عن قليل من الأصالة الإنسانية، واستمرت في عملية تشكيل المكتب دون ان يسائلها هذا الحادث، ولو من باب التضامن والتريث والمطالبة بإلقاء الضوء اولا على ظروف الحادث. لقد خيمت على أشغال ذلك المجلس بلادة في الحس الإنساني والمسؤولية الأخلاقية ما بعدها بلادة.

لقد اطلق مقتل المرحوم بلفقيه، وهو حادث غير مألوف في ماجريات حياتنا الانتخابية العنان لعدد من الافتراضات حول ملابساته. وزاد من تغذية الشكوك في اسباب الحادث وفي طابعه السياسي، الكسل واللامبالاة، بل والاستهانة التي تعامل بها الإعلام العمومي مع الحادث، حيث ظل لابدا في مكانه لا يحرك ساكنا، ولم يشر الى الحادث من قريب ولا بعيد، كما لو أنه لم يحدث.

وهذا النوع من السلوك غير المهني وغير المسؤول هو الذي يسهم في تغذية الشكوك ويتيح للأخبار الزائفة وتصفية الحسابات والاصطياد في الماء العكر وتغذية النعرات القبلية، مرتعا مفتوحا. الشخص الذي قتل لم يكن شخصا عاديا لكي نتجاهل حادث إصابته بالرصاص، ونعتبره حادثا صغيرا او هامشيا. لقد كان احد ابرز المرشحين لرئاسة الجهة التي مات فيها مصابا. وقد أصيب عشية انتخاب رئيس ومكتب الجهة. فالرهانات السياسية متداخلة مع الحادث ولا مجال لتجاهله، في نشرات نزعم أننا نخصصها بالكامل لمتابعة انتخابات مكاتب الجماعات الترابية.

لقد كان تعامل الإعلام العمومي مع الحادث وصمة عار في جبينه، لأنه تعامل مع الموضوع، كما لو كان انتخاب احد المرشحين اهم بكثير من مقتل المرشح الذي كان منافسا له، في نظر من يزعمون انهم يقدمون تغطيات للمشهد السياسي الجهوي والمحلي.

لكل هذه الأسباب، حق للمشككين ان يشككوا في محتوى بلاغ النيابة العامة، خاصة وأنه هو الآخر صيغ برطانة لا تقل فجاجة عن بقية عناصر هذا المشهد الحزين، رطانة لا تراعي سياق الحادث الذي تبلغ عنه، فتستعمل مفردات وتعابير تتعامل مع الضحية كما لو كان خصما للقانون. المتوفى كان قيد حياته يسمى عبد الوهاب، وما زال الى اليوم، وسيظل رغم انف النيابة العامة يسمى عبد الوهاب. وكلمة الهالك، حتى ولو كانت مجرد وصف قانوني، الا انها في المتعارف عليه بين العامة تستعمل أساسا في حق من لا نريد الاعتراف له بجدارته برحمة الله التي نرجوها في العادة لكل متوفى.

استعمال الرطانة القانونية في بلاغ موجه الى العامة وليس الى اهل القانون حصرا، استعمال في غير محله ولا سياقه، وهو مما قد يزيد من صب الزيت على نيران التشكيك وأقاويلها.

هل ينبغي ان نصدقى النيابة العامة ونجاريها في ما مالت اليه من استنتاجات وافتراضات اولية حول احتمال ان يكون الحادث ناتجا عن دافع الانتحار؟

شخصيا ليس لدي ما يدعوني الى رفض فرضية النيابة العامة، خاصة وانها هي نفسها تعتبر هذه الفرضية غير محسومة وتضطلع بمزيد من التحقيق في الوقائع. وليس هناك سبب اكذب فحوى ما افادت به النيابة العامة، من ان الحادث وقع في بيت المتوفى، وان الوقاية المدنية نقلته من هناك الى المستشفى العسكري حيث اجريت له عملية جراحية لم تفلح في إنقاذ حياته. لا اميل الى تكذيب هذه المعطيات لأن اسرة الفقيد نفسها لم تكذبها، وهي المؤهلة اكثر منا جميعا لمعرفة ظروف وتفاصيل ما جرى.

كما ان معطى وقوع الحادثة في داخل بيت المتوفى ثابت بشهادة افراد الوقاية المدنية التي نقلت الضحية الى المستشفى من هناك. ولا شك ان الجيران والمارة شهود على هذا المعطى. ولا اتوقع ان تغامر النيابة بتزييف هذا المعطى لتغيير معالم ومجرى التحقيق، كما يزعم غلاة المتشككين. فمثل هذه المعطيات التي ورد ذكرها في بلاغ النيابة العامة يصعب التعتيم عليها وبها، لأن ذلك يحتاج الى تواطؤ كل من الأسرة والوقاية المدنية والأطباء العسكريين، والجيران والمارة الذين لا أحد يجهل درجة فضولهم المعتاد. هذا هو الأمر المستبعد جدا وليس ما ورد في البلاغ.

في انتظار استكمال التحقيقات وكشف كل خيوط هذه القضية، اتمنى صادقا ان يتحلى كل اعضاء مجلس الجهة بقليل من النبل، ويبادروا الى تدارك البلادة التي عبروا عنها بتغافلهم عن مقتل زميلهم، واستمرارهم في استحقاقهم الانتخابي. اتمنى ان يقيموا حفلا تأبينيا يليق بالراحل، يذكر افضاله وحسناته، ويتغاضى عن أخطائه ومساوئه، ويحفظ ذكراه، وسترجع ماء وجوههم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى