حول العالم

دراسة:لعبة “بوتنام”..محركات أزمات فرنسا من تحالف “أوكوس” لأزمة الغواصات إلى تأشيرات المنطقة المغاربية

يُعد من دروب التبسيط افتراض أن الأزمات المتكررة للدبلوماسية الفرنسية في الفترة الأخيرة مرجعها اتخاذ باريس لقرارات غير رشيدة على مستوى السياسة الخارجية، أو حتى عدم قدرتها على قراءة المشهد بالصورة التي تمكنها من حسن التموضع وإعلاء مصالحها على المستوى الدولي. فالنظرة المتعمقة لأزمات الدبلوماسية الفرنسية المتكررة، بداية من أزمة بيع الغواصات لأستراليا وتحالف “أوكوس”، مروراً باشتعال فتيل الأزمة مع بريطانيا حول حقوق الصيد، وزيادة الاحتقان مع حلفاء فرنسا التقليديين من دول المغرب العربي بسبب حالات الترحيل وأزمة التأشيرات، وأخيراً التراشق المباشر مع مالي بعد إعلان باريس نيتها تقليص قواتها المشاركة في الساحل الأفريقي؛ كل ذلك يبرهن على أن هناك بعض الأزمات وليدة عوامل هيكلية تتعلق بديناميكيات النظام الدولي نفسه وأخرى متربطة بموازين القوى وأهداف النخبة الحاكمة على المستوى الداخلي.

ماكرون وباي

وهنا تكتسب نظرية “روبرت بوتنام” أرضية جديدة بافتراضها أن السياسة الخارجية هي نتاج للوضع الداخلي والعوامل الهيكلية الدولية على حد سواء، واصفاً إياها بـ “اللعبة ذات المستويين” A game of two levels، وهي المقاربة التي يجب فحص أزمات الدبلوماسية الفرنسية من خلالها. وفيما يلي استعراض لأهم العوامل والتفاعلات المرتبطة بكل أزمة من تلك الأزمات الفرنسية على حدة، فضلاً عن تداعياتها المحتملة على باريس من جانب وعلى الأطراف المنخرطين بها من جانب آخر، وهو ما نستخلص منه أن تزامن صعود بعض العوامل الدولية الهيكلية على السطح مع فرض بعض الاعتبارات الداخلية لنفسها بصورة ملحة، هو ما ذهب بفرنسا إلى هذا الوضع المتأزم.

أزمة الغواصات الأسترالية وتحالف “أوكوس”:

1- التفاعلات المرتبطة بالأزمة:

لا يمكن تناول أزمة بيع الغواصات النووية الأمريكية – البريطانية لأستراليا فيما يعرف بُتحالف “أوكوس” بمعزل عن التنافس العالمي مع الصين في “الإندو – باسيفيك”، وهو الهدف المُعلن من دول التحالف.

بيد أن سحب الصفقة الغواصات من فرنسا يحمل رسالة سياسية ضمنية أخرى مفادها أن الأنجلوساكسون لا يثقون في حلفائهم الأوروبيين فيما يتعلق بتحجيم الصين ومقاومة نفوذها التجاري المتنامي.

وما أذكى هذا الشعور بعدم الاطمئنان نحو الاتحاد الأوروبي وعلى رأسه فرنسا كأكبر قوة عسكرية به، هو اتجاه باريس لبعض المواءمات السياسية مع بكين فيما يتعلق بمناطق نفوذ الأولى التقليدية في أفريقيا، في مقابل إفساح المجال لبعض صادرات الصناعات الفرنسية في جنوب شرق آسيا. علاوة على وجود اعتقاد بريطاني بأن فرنسا تحاول تنويع أوراق الضغط في حوزتها منذ الخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى وإن اقتضى الأمر إيجاد مساحة تقارب نسبي مع الصين أو روسيا في ملفات التجارة والطاقة، وهي خطوط حمراء بالنسبة لكل من بريطانيا والولايات المتحدة. ويعزز من صدق هذه الفرضية هو قيام الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بالإعلان عن صفقة الغواصات المُشار إليها قبل يوم واحد من إعلان الاتحاد الأوروبي عن سياسته طويلة الأمد لمنطقة “الإندو – باسيفيك”.

2- التداعيات المُحتملة:

أ- امتداد الاستقطاب بين فرنسا من جانب والولايات المتحدة وبريطانيا من جانب آخر إلى الاتحاد الأوروبي:

لم يخف الممثل السامي للاتحاد الأوروبي والشؤون الخارجية، جوزيب بوريل، تضامن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي مع فرنسا في أزمتها في مواجهة تحالف “أوكوس”، حيث أعلن ذلك صراحة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر الماضي؛ وذلك في دلالة واضحة لامتداد هذا الاستقطاب للاتحاد الأوروبي كمنظمة.

ب- اتجاه الولايات المتحدة للحلول البرجماتية في التعامل مع فرنسا:أزمة الغواصات

لطالما استخدمت الولايات المتحدة العديد من الإشارات العاطفية المُعتادة بين الحلفاء عند الحديث عن فرنسا والاتحاد الأوروبي، غير أن أزمة الغواصات الأخيرة دفعت الإدارة الأمريكية لمحاولة اللجوء إلى بعض الحلول البرجماتية لتخفيف حدة الأزمة، ويأتي على رأس هذه الحلول دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون لزيارة واشنطن والإعلان عن صفقة مشتريات عسكرية تعوض جزئياً الخسارة الفرنسة من صفقة الغواصات. كما التقى الرئيسان الفرنسي ماكرون ونظيره الأمريكي بايدن، يوم 29 أكتوبر 2021، في العاصمة الإيطالية روما، على هامش قمة مجموعة العشرين، وذلك في أول لقاء بينهما منذ أزمة الغواصات. وقال ماكرون: “علينا أن ننظر إلى المستقبل”، فيما قال بادين إن الولايات المتحدة ليس لها حليف أقدم ولا أكثر ولاء من فرنسا.

ج- انتصار مؤقت لبريطانيا: إن تحول صفقة الغواصات عن فرنسا ما هي إلا اعتراف ضمني بعدم ثقة الجانب الأمريكي في التكنولوجيا النووية الفرنسية، وهو يعزز بدوره الوزن النسبي لبريطانيا في هذا المجال، مؤكدة التكهنات التي ترجح من زيادة الأهمية النسبية لبريطانيا بالنسبة للولايات المتحدة بعد “بريكست”.

الصراع على حقوق الصيد مع بريطانيا:

1- التفاعلات المرتبطة بالأزمة:

إن الخلاف الذي نشب بين بريطانيا وفرنسا حول حقوق الصيد لبعض الصيادين الفرنسيين في بحر المانش لا يعتبر أزمة آنية وليدة سوء التنسيق بين البلدين، بل يعتبر انعكاساً لنمط معقد من العلاقات يحكم الدولتين بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فمن ناحية، يجب على الحليفين التقليديين التمسك بمظهر التعاون والتنسيق الخارجي من منطلق تشابه التهديدات الوجودية لكليهما، لكن في الوقت نفسه فإن كلاً منهما يتصيد للآخر الأخطاء الفعلية من أجل إثبات رجاحة وجهة نظره تجاه الاندماج الأوروبي.

وهذا النمط المتقلقل من العلاقات ظهر جلياً مع عدم رفض بريطانيا منح تصاريح الصيد لبعض الصيادين الفرنسيين في بحر المانش، ولكن مع اشتراط ضرورة إثبات قيامهم بالصيد في هذه المناطق قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو أمر بالغ الصعوبة يعطي لبريطانيا قول الفصل في تحديد أنشطة الصيد في تلك المنطقة. ومن ثم، فإن بريطانيا تنخرط في مفاوضات حول إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي من منطق عقابي، يتصيد لفرنسا بالأساس الأخطاء، وهو أحد أسباب المباشرة لأزمات الدبلوماسية الفرنسية في محيطها الإقليمي القريب.

2- التداعيات المُحتملة:

أ- حشد أوروبا في مواجهة بريطانيا:

كنتيجة طبيعية للتفاعلات الإقليمية المرتبطة بأزمة الصيد، بدأت فرنسا عن طريق وزيرة البحار الفرنسية، آنيك جيراردان، حشد الدول الأوروبية لاتخاذ إجراءات عقابية تجاه المملكة المتحدة. وترتكز باريس في دعوتها لاتخاذ هذه الإجراءات على العلاقات التجارية، خاصة تلك التي تجمع ألمانيا وإيطاليا بالمملكة المتحدة، وهو ما ينبئ بتوسيع دائرة الضغوط الأوروبية المتفرقة على بريطانيا في المستقبل القريب.

ب- محاولات فرنسية لرد فوري:

قد لا تمتلك فرنسا كثيراً من كروت الضغط الفورية على بريطانيا، ولكنها قد تتجه لبعض الإجراءات غير المُعتادة في علاقاتهما الثنائية، مثل إنهاء عقود بعض الخبراء البريطانيين العاملين بالجهاز الإداري في الدولة الفرنسية، أو عدم تخصيص منح دراسية للدارسين البريطانيين في الجامعات الفرنسية، وهي إجراءات غير مؤكدة في ظل تخوف باريس من انتهاج لندن لنهج مماثل حال إقدامها على مثل هذه الإجراءات.

ج- محاولات للتهدئة بين باريس ولندن: أعلنت الرئاسة الفرنسية، يوم 31 أكتوبر 2021، أن الرئيس ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، عقدا اجتماعاً ثنائياً على هامش قمة مجموعة العشرين في روما، واتفقا على العمل على خفض التصعيد في الخلاف بشأن حقوق الصيد. وتعهد الزعيمان بخطوات ملموسة “في أقرب وقت ممكن” والعمل على “إجراءات عملية وعملياتية” لخفض التوتر بين البلدين.

أزمة التأشيرات الفرنسية مع دول المغرب العربي:

1- التفاعلات المرتبطة بالأزمة:

حلم الهجرة

قد تكون مسألة ضبط الهجرة غير الشرعية في فرنسا من المسائل ذات الأولوية منذ زمن بعيد أمام الحكومات المتعاقبة، إلا أن توقيت إثارة قضية تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين والمغاربة إلى النصف والتونسيين بنسبة 30%، يرتبط بشكل وثيق بالاستعدادات للانتخابات الرئاسية المقبلة في فرنسا. فقد بدأت الانتقادات تحتد من قِبل مارين لوبان ومرشحي اليمين في مواجهة ماكرون والذي لم تنجح حكومته في تحقيق وعودها بترحيل كل من يصدر بحقهم قرار ترحيل من الأراضي الفرنسية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن 15% فقط من هذه الترحيلات تتم بالفعل نتيجة تعنت حكومات الدول المُستقبلة، خاصة المغرب والجزائر، في استصدار الموافقات القنصلية اللازمة لعملية الإجلاء.

2- التداعيات المُحتملة:

أ- تصعيد لكن دون آثار فعلية:

ماكرون وتابون

محمد السادس ماكرون
أرشيف

إن قيام كل من الجزائر والمغرب باستدعاء سفراء فرنسا لديهم للتشاور رداً على هذه الإجراءات يعتبر إجراءً تصعيدياً تقليدياً، ولكن من غير المتوقع أن تتحول هذه الإجراءات لقطيعة دبلوماسية حقيقية في ظل الاعتمادية الكبيرة لهذه الدول على فرنسا في تصريف العمالة الزائدة والتجارة والاستثمار. ونتيجة أيضاً لهذا الاعتماد المتبادل، من المتوقع أن يتم تخفيف هذه القيود تدريجياً أو ربما إلغائها تماماً بعد إجراء الانتخابات الرئاسية في عام 2022.

ب- الاستعداد لأي عمليات إرهابية مُحتملة:

تدرك بعض العناصر المتطرفة أن هذا القرار الفرنسي يمس بالأساس تجفيف منابع تصدير المجاهدين الإسلامويين الذين تمدد نفوذهم وانتشرت عملياتهم في السنوات الثلاث الأخيرة في فرنسا. لذلك، ترفع الحكومة الفرنسية درجة الاستعداد الداخلية لتوقع وقوع بعض الحوادث الإرهابية رداً على هذا الإجراء، وهو الأمر الذي من شأنه تعقيد الوضع الداخلي الذي سيؤثر بلا شك على توقيت الانفراجة مع دول المغرب العربي.

أزمة الانسحاب الفرنسي الجزئي من مالي:

1- التفاعلات المرتبطة بالأزمة:

مالي

يتشابك قرار سحب القوات الفرنسية بشكل جزئي من منطقة الساحل الأفريقي، وما يُعرف بعملية “برخان” في مالي، مع المراجعات الدورية التي تقوم بها وزارة الخارجية ووزارة الجيوش الفرنسية لتقدير الموقف العسكري الخارجي في ظل التبعات الاقتصادية لجائحة كورونا وبوادر ظهور أزمة طاقة عنيفة في أوروبا. ويتزامن ذلك أيضاً مع إقبال الفرنسيين على انتخابات رئاسية وشيكة، حيث تشكل إعادة القوات المشاركة في العمليات الخارجية أحد الوعود الأساسية المتكررة للمرشحين المحتملين لكسب تأييد عدد من أهالي وأقارب الأفراد المشاركين في هذه القوات.

2- التداعيات المُحتملة:

أ- ضغوط أفريقية أكثر حدة:

إذا كانت المغرب والجزائر لديها الكثير لتبكي عليه حال قررت التصعيد مع فرنسا، فإن مالي – نتيجة تفكك الدولة وانهيار دورها في مواجهة الأزمات الاقتصادية والإرهاب – ليس لديها الضغوط الكافية لجعلها تحسب كثيراً لخطوات التصعيد. وقد تجلى ذلك بوضوح في خطاب رئيس وزراء الحكومة الانتقالية في مالي، شوجيل كوكالا مايغا، الذي ألقاه أثناء أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، وذلك بوصفه لقرار السحب الجزئي للقوات للفرنسية بـ “الترك”، وهو ما استنكرته باريس بوضوح. ولم تكتف باماكو بالتصريحات فحسب، بل اتجهت للتعاقد مع قوات “فاجنر” الروسية لتوفير الحماية الأساسية للشعب المالي من الإرهاب في تحدى صارخ لفرنسا والأوروبيين، الذين يرون في تغلغل هذه القوات في مالي نوعاً من أنواع الاقتحام الروسي لمناطق النفوذ الأوروبية التقليدية في أفريقيا. ويعتبر هذا التصعيد تهديداً حقيقياً للنفوذ الفرنسي في ظل شبه غياب أي أوراق ضغط فرنسية على الحكومة المالية.

ب- توقع امتداد الأزمة لدول الساحل الأخرى:

قد يؤدي هذا الإعلان الفرنسي بتخفيض عدد القوات إلى تحسب الدول الأفريقية الأخرى المشمولة بالعملية “برخان” من خطوات مماثلة، خاصة تشاد حيث القيادة المركزية لهذه القوات. ومن المرجح أن يختلف رد فعل كل من تشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا والنيجر وفقاً للمصالح الحيوية التي تجمعها بباريس، وخاصة عدد العاملين بالشركات الفرنسية على أراضيها.

الحيرة

الخلاصة، أظهرت الأزمات المتتالية المُشار إليها أن فرنسا قد تكون في مجرد موضع رد الفعل لديناميكيات دولية وإقليمية لم تصنعها على غرار أزمة الغواصات الأسترالية وحقوق الصيد في بريطانيا، أو قد تكون أسهمت بشكل أو بآخر نتيجة عوامل داخلية بالأساس في صناعة أزمات أخرى مثل أزمة دول المغرب العربي ومالي. ولكن من المؤكد أن فرنسا كان لديها الخيار في الأزمات التي أسهمت في إيجادها في اختيار توقيت خوضها، وهي بذلك لها دور على الأقل في تخفيف حدة الانتقادات الموجهة لدبلوماسيتها ولو مؤقتاً عن طريق حسابات أكثر دقة للفرصة البديلة.

المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى