ثقافة وفنون

هشام جعيط مكرّماً في باريس

“ظاهرة التكريم في تونس يخص بها المفكر والمبدع بعد موته”. جاءت تلك الكلمات التي ألقاها، المفكر التونسي، الدكتور هشام جعيط، أثناء تكريمه من معهد العالم العربي، في باريس، يوم 4 إبريل (نيسان) الماضي، ومنحه وسام وميدالية المعهد، ممزوجة بالسعادة والامتنان وتحمل جزعاً، في آن؛ فهذا الحدث المهم واللافت، الذي يعيد الاعتبار لمفكر موسوعي، وعقل نقدي، وصوت جسور في الثقافة العربية، ساهم في تفكيك انغلاقاتها، وتكريس مبادىء المنهج العلمي في قراءة تاريخها وتراثها، حدث متأخراً، بينما يعيش جعيط في عقده الثامن.

بيْد أن التكريم الذي أقيم في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، بتونس، وحضره رئيس معهد العالم العربي، معجب الزهراني، منحه السعادة للتقدير العلمي الذي حظى به، من الجامعة، التي درس فيها، وفي المدرج الذي حمل اسمه والتعريف به.

الفترة التي أنتجت الإسلام السياسي بمفهومه الواسع، جزء عضوي من انشقاق المسلمين تحت وطأة الصراعات السياسية

وحضر الحفل لفيف من أساتذة جامعيين تونسيين وعرب؛ من بينهم المفكر السوري، محمد شحرور، الذي ألقى، وفق برنامج الحفل، محاضرة حول قضايا المرأة في دول العالم الإسلامي، وآخرين مثل، لطيفة الأخضر، وحياة عمامو، وحمادي الرديسي.

رمزية التكريم

جعيط في كلمته، لفت إلى الرمزية التي يحملها التكريم الثنائي، من مؤسستين مختلفتين، ساهمتا في تشكيل وعيه وفكره وشخصيته، وبناء أدواته العلمية؛ وهما معهد العالم العربي وجامعة تونس؛ فالأولى، احتضنته في فرنسا، أثناء بعثته، ودراسته فيها، حيث نهل من علومها، وجامعة تونس تعيده إلى جذوره وبداياته الأولى، وانتمائه الحضاري والتاريخي، إلى عالمه العربي والإسلامي.

رفض جعيط، كما درج في الكثير من المناسبات والأحاديث الصحفية، الحديث عن السياسة، والثورة التونسية، مستقبلها ومآلاتها، غير أنّ الفيلسوف والمؤرخ الثمانيني، أفصح عن تأملاته المستمرة، في واقع المجتمعات العربية، والبحث في أسباب تخلفها الفكري والتكنولوجي، كما قال، والتنقيب عن عوامل ذلك، وضرورة ولادة مثقف عربي، قادر على إحداث تحول جذري.

وأوضح في كلمته، متابعته ونقده لظاهرة العودة بقوة، إلى عمليات التوظيف المكثفة والمتعسفة للدين، كونها وسيلة سياسية وعسكرية، وكرد فعل على عالم تحكمه دول قوية، تمارس طغيانها ضد دول ضعيفة وتابعة، ومن ثم وصف عودة الديني بأنها “غير مستقيمة”؛ لأنها لم تكن عصارة تفكير سليم وتأمل عميق.

تحرر التاريخ الإسلامي من التعصب

كشف جعيط عن تلك الجدلية القديمة بين الدين والسياسة، وجذور تشكلها، منذ طرحها في كتابه: “الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام”، بالبحث في أصول سرديات الإسلام السياسي، بالعودة إلى الفتنة الكبرى وأحداثها، وفصول الصراع على الحكم، في عهد الخلفاء الراشدين، وتحليل أسبابها الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية والنفسية.

“الفتوحات الإسلامية لم تقم بأمر من الرسول “محمد”، بل جاءت لأغراض اقتصادية، بحثاً عن الرزق الوافر، لما عاشه عرب الجزيرة، آنذاك، من مجاعة”. كانت تلك واحدة من التأملات، التي أفصح عنها جعيط، أثناء مداخلته، والتي لم يشرع في تدوينها، حتى اللحظة، وهي جزء من اجتهاداته المعرفية، التي يحاول صياغة تاريخ إسلامي، يحرره من التقليد، ووطأة التعصب، وتثبيت المعرفة والمنهجية، بدلاً من التهافت والسطحية.

وإلى ذلك، لخص جعيط مسيرته العلمية، بأنه كمفكر ومؤرخ، انصب جهده العلمي، على إحياء التاريخ الإسلامي، ودراسة سيرة نبي الإسلام، الذي أنتج حولها ثلاثية موازية للسيرة النبوية.

وظل النبي محمد، عليه السلام، مغيّباً عن الدراسات الدينية التاريخية، بحسب المفكر التونسي، وذلك بسبب انشغالات المثقفين العرب، ووقوعهم تحت وطأة النزاع التقليدي، المتواصل بين الحداثة والأصالة، دون انتباه من المسلمين إلى تحليل دينهم، على غرار ما فعل المسيحيون في أوروبا.

وعبر جعيط في المقابل، عن استيائه من الشعوب العربية، لأنها لا تقرأ تاريخها، في الوقت الذي ينبغي قراءة التاريخ، بغية إعادة تركيبة، بشكل موضوعي، خارج القراءة التمجيدية السهلة، أو القراءة الاستشراقية المتعالية، بحسب توصيفه.

وطالب جعيط بالتأكيد على أهمية العلمانية، لكنه، نوه إلى “علمانية إسلامية”، غير معادية للدين؛ تضمن حرية الضمير الانساني في اعتقاده وإيمانه. وتهيئة كل المساحات للحفاظ على مكانة الدين والعقل معاً وحمايتهما؛ وقال: “إن موقفه متزن بين العلمانية وإعمال الفكر في الدين”.

وميض من السيرة: النشاة والدراسة

يعد جعيط، المولود في (ديسمبر) 1936، أحد أبرز المفكرين العرب، الذين تميزوا بتقديم مشروع إسلامي، متحرر من الأفكار المتعصبة، وتقديم العقل والرؤية النقدية على النقل، والتخلص من سلطة السلف واعتماد قيم التراث، وذلك بالرغم من نشأته المحافظة، حيث كان والده من كبار شيوخ جامع الزيتونة، وقد درس الفقه وعلوم اللغة.

بيْد أن والده، قرر أن ينضم ابنه وهو في سن الخامسة من عمره، إلى “المدرسة الصادقية”، حيث تعلم اللغة الفرنسية، مثل غيره من أبناء العائلات البرجوازية، في ذلك التوقيت، والتي شكلت مصدراً إضافياً، غيرت من مصادر قراءاته ومعارفه؛ فقرأ عن الثورة الفرنسية، وانحاز إلى مبادئها، فجعلته يتمرد على حياته التقليدية وأسرته المحافظة.

وحاز صاحب “الفتنة”، على شهادة البكالوريا في تونس، ثم سافر إلى باريس، فالتحق بدار المعلمين العليا، وحصل على شهادة الدكتوراة في التاريخ الإسلامي، من جامعة باريس أوائل الثمانينات، من القرن الماضي.

التمرد على الأفكار التقليدية

وضمن هذا المحيط المتنوع، على مستوى الانتماء العائلي، ودراسته، تشكل لديه وعي مستقل وثري، ساعده في بلورة أفكار جديدة وثورية، دعمتها الحركة الوطنية، التي كان يقودها الحبيب بورقيبة، في ذلك التوقيت، للمطالبة بالاستقلال ومناهضة الاستعمار، حيث ترافقت مع الثورة الاجتماعية، التي تتوق للحرية والانعتاق من أشكال العبودية، والقمع السياسي والاجتماعي.

وكانت الكتابات التي تتماس مع أفكار التحديث الديني، تفتح لديه منعرجاً جديداً، في حياته، حيث اطلع على كتب طه حسين والعقاد وأحمد أمين.

“لا جدال في أن قيم الحداثة رفيعة وأن علينا أن نأخذ بها، أي أن نقوم بتحول ثقافي كبير، ولا نقيم أي اعتبار لأصلها الجغرافي، بل فقط لوجه الخير فيها؛ لأنه ليست هناك حداثة غربية، وحداثة إسلامية، وأخرى صينية، وأخرى هندية أو إفريقية، فهي واحدة في جميع أبعادها، وأن يجري الكلام على الخصوصيات، لدحض قيم الحداثة، فهذا نفاق كبير وتضليل عظيم”، تلخص هذه السطور، التي يذكرها جعيط، في كتابه: “الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي”، رؤيته الكونية للقيم الإنسانية، والمعرفة التي لا تصادرها حضارة أو دولة، أو تحددها أي مساحة جغرافية، حيث يؤمن بانفتاح المعرفة وعموميتها على الواقع والوجود الانساني.

النظرة الاستشراقية في فكر جعيط

تعد مرحلة باريس في حياة المؤرخ التونسي، هي نقطة الارتكاز والانطلاق، نحو مشروعه، في قراءة وتأويل التاريخ الإسلامي، والذي بدأ بالأساس، عبر فحص نظرة الغرب وأوربا، نحو الإسلام، وبخلاف من درسوا في باريس، حيث عمدوا إلى دراسة التاريخ الروماني وفرنسا، في العصور الوسيطة، لكنه، وبالرغم من معرفته باللغة اللاتينية، وإتقانه لها، حدد دراسته للماجستير، عن كتاب فقهى، فى الاقتصاد لقيروانى بعنوان: “أحكام السوق”، للفقيه أبو زكريا الأندلسي، والذي كشف أمامه بيلوغرافيا العالم الإسلامي، وكيفية تناول المستشرقون، لهذا العالم وتاريخ المسلمين، وكان بحثه باشراف المستشرق الفرنسي “كلود كاهان”.

وتكونت لديه في تلك الفترة رؤية نقدية، حول تلك الرؤى المتفاوتة للمستشرقين، والتي يرفض جعيط توصيفها وحصرها، بأنها كلها معادية تماماً للإسلام أو مؤيدة له، لكنه، يصنف كل نظرة بحسب السياقات والانحيازات، الواردة فيها.

وفي كتاباته المبكرة التي صدرت، في فترة إقامته بباريس، مثل “أوروبا والإسلام”، والذي صدر بالفرنسية، ثم ترجم إلى العربية، عمد إلى نقد وتفكيك النظرة التقليدية، التي تحتقر العالم الإسلامي، وتبرز نظرة تقليدية ومناوئة له، عبر تقديم صورة الغرب المتفوق، لكن، جعيط، ساهم في تحليل تلك الرؤية الاستشراقية، من خلال تحرير الذات العربية، من الصور النمطية التي فرضها الآخر، على المجتمعات الإسلامية والعربية، وطرح رؤية لذواتنا خارج تلك الهمينة، التي تضطرك إلى احتلال مواقع دفاعية، للتصدي لعمليات الهجوم والتشنيع.

جذور التعصب وميلاد الإسلام السياسي

يدعو جعيط إلى التفريق عند قراءة التاريخ الإسلامي، بين الإسلام، كما يعكسه المخيال الجماعي للمسلمين، والذي يرسم صورة مثالية لواقع المجتمعات الإسلامية القديمة، والثانية، التي يصفها بـ”إسلام الأصول”، كما يرد ذكرها، في كتابه “الفتنة”، الذي ناقش فيه الصراع الذي حدث عقب وفاة النبي، على الحكم، والذي سيحكم، كما يقول، إلى حد بعيد في مستقبل المجتمعات الإسلامية في المستقبل.

وبحسب، جعيط، فإنّ الفترة التي أنتجت الإسلام السياسي، بمفهومه الواسع، جزء عضوي من انشقاق المسلمين، تحت وطأة الصراعات السياسية، بين السنة والشيعة والخوارج؛ حيث امتد وتحول الجدال، الذي كان سائداً حول الخلافة، إلى العصر الحديث، في مقابل “علمنة” الدولة وتحديثها، حيث مازال “ينشق الوعي الإسلامي الحديث إلى طرفي صراع؛ أحدهما يؤمن بـ”علمانية الدولة” وآخر، مع إسلامية الدولة والمجتمع”.
المصدر: الموقع الاعلامي حفريات من إعداد كريم شفيق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى