
يحل شهر رمضان في مصر كزائر كريم طال انتظاره، فيحمل معه أجواءً من الروحانية والاحتفال المتوارث عبر الأجيال، و يمتزج في هذا الشهر الطقس الديني بالتراث الشعبي، فتصبح الشوارع أكثر بهجة، وتمتلئ المساجد بالمصلين، وتعم أجواء التكافل والدفء الاجتماعي في مختلف أرجاء البلاد، هذا المزيج الفريد من العادات والتقاليد جعل من رمضان في مصر تجربة استثنائية تضرب بجذورها في عمق التاريخ، حيث استمرت بعض المظاهر الاحتفالية منذ عصور الفاطميين والمماليك، بينما تطورت أخرى لتواكب العصر الحديث، لكنها جميعًا تحمل جوهر الشهر الكريم وروحه العطرة.
من أولى الإشارات الدالة على قدوم رمضان في مصر انتشار الفوانيس التي أصبحت رمزًا أصيلًا لهذا الشهر، و تحولت هذه المصابيح المضيئة من أداة للإنارة في العصور القديمة إلى عنصر زينة يعكس الأجواء الاحتفالية، منذ العهد الفاطمي، حيث كان الأطفال يحملون الفوانيس المضاءة أثناء التجوال في الشوارع، وهم يرددون الأناشيد الرمضانية، مما عزز ارتباطها الوثيق بروح الشهر الكريم.
اليوم، تتنوع أشكال الفوانيس بين التقليدية المصنوعة من النحاس والزجاج الملون، وتلك الحديثة التي تعمل بالإضاءة الكهربائية والموسيقى، لكنها جميعًا تظل جزءًا لا يتجزأ من الطقوس الرمضانية المصرية.
هذا و لا يقتصر الاحتفاء بالشهر المبارك على المظاهر البصرية، بل يمتد إلى واحدة من أعمق قيم المجتمع المصري وهي التكافل الاجتماعي، الذي يتجسد بأوضح صوره في موائد الرحمن، هذه الموائد، المنتشرة في الشوارع والأحياء الفقيرة وحتى في المناطق الراقية، تعد تجسيدًا حقيقيًا لروح العطاء والتضامن، تنظمها العائلات، والجمعيات الخيرية، ورجال الأعمال، حيث تُفتح للجميع بلا تمييز، ويجلس عليها الفقراء وعابرو السبيل جنبًا إلى جنب مع العاملين البسطاء، في مشهد يعكس تلاحم المصريين خلال الشهر الفضيل.
في الليالي الرمضانية، ومع اقتراب موعد السحور، يتردد في الأزقة والشوارع صوت مألوف يحمل نغمة خاصة توقظ النائمين، إنه صوت المسحراتي، هذه الشخصية التي تعود جذورها إلى العصر العباسي ما زالت تحظى بمكانة متميزة في الثقافة المصرية، رغم دخول التكنولوجيا ووسائل التنبيه الحديثة، لا يزال المسحراتي يتجول بطبلته الصغيرة، ينادي بأسماء الأهالي في بعض المناطق، ويحرص على منح رمضان نكهته التراثية التي لم تتغير رغم مرور الزمن.
إلى جانب العادات الشعبية، تتجلى الأجواء الدينية بوضوح خلال رمضان، حيث تشهد المساجد ازدحامًا غير معتاد بالمصلين، لا سيما خلال صلوات التراويح التهجد، و يمتلئ مسجد عمرو بن العاص، الأزهر الشريف، والحسين بالمصلين الذين يحرصون على الاستماع إلى التلاوات العطرة والمواعظ الدينية، كما و تزداد حلقات تلاوة القرآن، والندوات الدينية التي تناقش قضايا الإيمان والأخلاق، مما يضفي طابعًا روحانيًا مميزًا على ليالي الشهر الفضيل.
أما الموائد الرمضانية، فهي تحمل بصمة مصرية خالصة تعكس تنوع المطبخ المحلي الغني بالأطباق التي تميز هذا الشهر عن غيره من شهور السنة، يبدأ الإفطار عادة بالتمر والماء، يليه الخشاف، وهو مزيج من الفواكه المجففة والمكسرات التي تمنح الجسم طاقة بعد ساعات طويلة من الصيام. كما تتصدر أطباق الملوخية، المحشي، والمشاوي المائدة المصرية، بينما تظل الحلويات مثل الكنافة والقطايف عنصرًا أساسيًا يضفي مزيدًا من الحلاوة على الأجواء الرمضانية.
فيما يظل الفول الطبق الرئيسي في السحور، لما يمنحه من شعور بالشبع والطاقة طوال النهار، إلى جانب الطعمية، الزبادي، والمشروبات التقليدية مثل العرقسوس والتمر الهندي والسوبيا.
و في السنوات الأخيرة، أصبحت الخيام الرمضانية واحدة من أبرز مظاهر الشهر الكريم، حيث تحولت إلى أماكن تجمع يجمع بين الترفيه والأجواء الرمضانية الأصيلة، و تقدم هذه الخيام أطباق السحور والمشروبات التقليدية، مصحوبة بالعروض الفنية التي تشمل العزف على العود، والإنشاد الديني، وحتى الفقرات الكوميدية الخفيفة، ما يجعلها نقطة جذب للسهرات العائلية والأصدقاء بعد الإفطار.
رمضان في مصر ليس مجرد فترة زمنية للصيام والعبادة، بل هو احتفال اجتماعي وثقافي وروحاني متكامل، تتجلى فيه قيم الإيمان والكرم والتلاحم المجتمعي، ورغم التحولات العصرية والتغيرات الاجتماعية، يظل لهذا الشهر نكهته الخاصة التي تميزه عن أي وقت آخر، حيث تتداخل روحانيات العبادة مع بهجة التقاليد في سيمفونية رمضانية لا تُنسى.