تحليل اجتماعي وثقافي لظاهرة رومانسية على ضفاف نهر السين
25/06/2025
0
بقلم: بثينة المكودي
في مدينة يُحتفى فيها بالحب كما تحتفى الفنون، لم تعد الوردة تكفي، ولا النظرة، ولا حتى القصيدة، في قلب باريس، حيث يتقاطع العشاق مع السياح، ظهرت خلال العقدين الأخيرين ظاهرة لافتة « أقفال الحب ».
على جسور المدينة، ولا سيما «بونت دي زار» الشهير، يضع العشاق قفلاً حديديًا منقوشًا بأسمائهم، ثم يلقون المفتاح في نهر السين، كما لو أن الحب يحتاج إلى رمز معدني ليصمد في وجه الزمن.
لكن ماذا تقول هذه الأقفال عن زمننا؟ ولماذا يسعى الناس إلى تخليد مشاعرهم بهذه الطريقة؟ وهل نحن أمام طقس رومانسي بريء أم عرض لسوسيولوجيا هشاشة الروابط الإنسانية؟
البداية: من جسر في صربيا إلى قلب باريس
رغم اقتران الظاهرة بالعاصمة الفرنسية، فإن جذورها تعود إلى بلدة صغيرة في صربيا خلال الحرب العالمية الأولى، حيث بدأت فتيات في تثبيت أقفال على جسر كرمز لوفاء أحبّتهن الغائبين في الجبهة.
لاحقًا، ومع رواية الكاتب الإيطالي فيديريكو موتزيا وفيلم “Ho voglia di te” عام 2006، الذي عرض مشهد قفل حب في روما، تحوّلت الفكرة إلى صيحة عالمية، لتبلغ باريس في عام 2008، وتُصبح رمزا رومانسيا يحجّ إليه الآلاف من العشاق حول العالم.
الصورة من ساكري كور بباريس
الرمز المعدني: عندما يصبح الحب مرئيًا
القفل في ظاهره بسيط “قطعة حديد تُقفل وتُرمى مفاتيحها”، لكن حين نُمعن النظر، نجد فيه محاولة لصناعة الأبدية في عالم سريع الزوال.
يعيد هذا الفعل إلى الواجهة أسئلة وجودية؛ لماذا نحتاج إلى تذكير العالم أننا نحب؟ لماذا لم نعد نثق في المشاعر إلا إذا دوّناها على معادن؟ وهل أصبح الحب ذاته في حاجة إلى أداء شعائري كي يُصدَّق؟
تحليل سوسيولوجي: قلق الحب في زمن السيولة
وفق عالم الاجتماع زيغمونت بومان، نعيش اليوم في مجتمعات تتسم بـ”السيولة” لا علاقات طويلة، ولا التزامات متينة، بل حب سريع، قابل للاستبدال.
هنا، يصبح “قفل الحب” رمزا مقاوما إنه طقس مدني تعويضي، يسعى إلى تجميد العلاقة في لحظة ما، كمحاولة لمقاومة التفكك والانفصال، هو إعلان علني عن رابط خاص، في فضاء عام.
كما يرى إميل دوركايم، فإن الطقوس الجماعية، حتى لو كانت حديثة، تعزز ما يُعرف بـ”التمثلات الجمعية”، ما يجعل من وضع القفل فعلا مندمجا ضمن سردية كونية” الحب يحتاج إلى شاهد، إلى أثر، ثم إلى قفل.”
ما بين الرغبة والسلطة: من يملك الحق في ترك الأثر؟
وجب الاشارة الى انه بالرغم من الطابع العاطفي للظاهرة، إلا أنها سرعان ما اصطدمت بالإشكال الحضري، فالأقفال التي تجاوز عددها مليونًا على بعض الجسور، تسببت في أضرار هيكلية، مما دفع سلطات باريس في عام 2015 إلى إزالة أقفال «بونت دي زار» وتعويض الدرابزين بزجاج شفاف.
وهنا يبرز سؤال سياسي وثقافي معا: هل للمرء الحق في ترك أثر شخصي في الفضاء العام؟ أم أن الحب، رغم كونه فعلا جماعيا، يجب أن يظل صامت في حضرة المدينة؟
قفل بين الرغبة واللايقين
ليست الأقفال دليلًا على الوفاء، بقدر ما هي تعبير عن حاجة معاصرة لتثبيت المشاعر في زمن لا يثبت فيه شيء. إنها ليست وعد بالخلود، بل انعكاس لقلق عاطفي متزايد، ورغبة بشرية في ترك أثر، ولو صغير، وسط مدينة لا تتوقف عن الحركة والتغيير.
ربما لا تمنع هذه الأقفال الفراق، لكنها تمنح أصحابها لحظة من الإيمان، ووهمًا جميلًا بأن الحب يمكن أن يُقفل إلى الأبد.
وإذا كانت باريس لا تزال تتساهل مع هذا الطقس في بعض زواياها، فلأنها، ككل المدن الكبيرة، تعرف أن ما يُكتب على الجدران لا يقل أهمية عمّا يكتب في الكتب، وأن ما يعلق على الجسور قد ينجو أكثر مما يقال في السر.
في النهاية، ليست هذه الأقفال مجرد خردة معدنية، إنها أرشيف عاطفي جماعي، بلغة صامتة لكنها فصيحة، تروي ما لا تقوله الوجوه”أن الإنسان، منذ القدم، يحاول أن يحتفظ بما يحب… بأي وسيلة، حتى لو كانت قفلاً على جسر.