سلسلة نبش في الأخلاق 1- جينيالوجيا الكذب
قبل أن أجلس لكتابة هذا الموضوع أرقتني أسئلة كثيرة لمرحلة من الزمن من قبيل:
لماذا يكذب الإنسان؟ وهل يمكن تصور مجتمع دون كذب؟ ما هو الكذب؟ هل الكذب كذب لأنه كذب في ذاته؟وهل الكذب وحدة مستقلة غير قابلة للتقسيم أم هو مستويات وأجزاء؟؟ هل الكذب واحد منذ الأزل أم هل هو يتطور ومن تم يكون كذب الحاضر مختلفا عن كذب الأمس السحيق؟؟ هل تطور الكذب؟ وإن كان الجواب بالإيجاب هل ذلك التطور دليل تقدم أم هو دليل انحطاط؟ بمعنى آخر هل إتقان الكذب رقي أم انحطاط أخلاقي ؟ وهل يمكن الحديث عن كذب نافع وكذب ضار؟ هل يمكن الاستغناء عن الكذب في الحياة اليومية وخاصة في الحياة السياسية.؟ هل يعد الصمت والسكوت و التظاهر كذبا؟؟ هل يمكن اعتبار المجاملة كذبا؟ هل نحصر الكذب في القول أم هل يمكننا الحديث عن كذب في الأفعال ؟….
أسئلة كثيرة من هذا القبيل خامرتني وربما تخامر غيري وأنا مقتنع أنه يعسر على مقال مهما طال أن يجيب عنها بتفصيل، لذلك سنحاول النبش في فلسفة الكذب عسى التفاعل مع الموضوع يفتح نوافذ لإغناء النقاش ؟
الكذب لغة هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع وفي الاصطلاح له تعاريف كثيرة حسب مجالات مقاربته (قانونيا، اجتماعيا، نفسيا…) عرفه جاك دريدا بقوله هو (فعل إنجازي يتضمن وعدا بقول الحقيقة وخيانة ذلك الوعد… ووراء تلك الإنجازية اعتبارات ثقافية، دينية، أخلاقية وقانونية…) ومن تم فهو حسب جاك دريدا ” إخلال بالوعد الذي أعطاه الكاذب ضمنيا للآخرين بقول الحقيقة لهم” . والكذب بهذا المعني ملازم لوجود الإنسان، وكلٌّ يعد كاذبا بطريقة أو بأخرى، وقلما يوجد إنسان لم يمارس الكذب في حياته، غير أن واقعنا اليوم يكاد يصرخ بكون التاريخ ربما لم يشهد كذبا بالحجم والشكل والطرق التي يعرفها اليوم لتعقد الحياة وتعدد أساليب وتقنيات التواصل وتراجع منظومة القيم، مع ابتكار وسائل تقنية/إعلامية همها تغليط الرأي العام وتسخير بنية إعلامية معاصرة مؤسسة على تمويه الحقائق لأغراض سياسوية أو اقتصادية، فأنشأت من أجل ذلك وكالات ومؤسسات كل مؤسسة تدعي أن لها خطها التحريري وخلفياتها التحريرية مما يحتم عليها تطويع المعلومات، المعطيات والوقائع وفق هذا الخط وهذه الخلفية وتوهيم المتلقي بخلاف ما هو موجود بمساعدة متخصصين في علم النفس والاقتصاد و تحليل المعلومة، ولو بفبركة الصور وإعادة مونتاج الأشرطة عن قصد مسبق دون نسيان أن طبيعة الكلام تحمل في طياتها إمكانية الكذب والخداع…
من تم لابد أيضا من الإشارة إلى أن الكذب غيُر الخطأِ، وأن الكذب ليس نقيض الحقيقة وإنما نقيض الصدق: فيمكن أن يكون القول متضمنا لأخطاء كثيرة أو كله خطأ، ويتم تقديمه للناس ولا يعد ذلك كذبا لغياب نية وقصد خداع الآخرين ولاعتقاد واقتناع القائل بأن كلامه ليس خطأ، كما يمكن أن يكون القول الصحيح كذبا إذا كان الهدف منه تضليل الآخرين. ليتضح إذن أن الكذب مرتبط بالنية، الاعتقاد والإرادة، فقد نكون كاذبين عندما نقول حقائق ونحن نؤمن أنها خاطئة… لذلك أصرح منذ البداية أنني قد أكون مخطئا في ما سأنقل لكم، لكني متأكد أن ما سأقوله ليس كذبا لأن لا نية لي في خداع أحد، وحتى إن فهمتم شيئا أنا لا أقصده فلست كاذبا لأن نيتي حسنة.
أخلاقيا الكذب قيمة مذمومة وكل القيم مطلقة، لكن الكذب عكس ذلك ، فإذا كان للحقيقة مثلا وجه واحد فإن الكذب متعدد الوجوه وهذه خطورته، فيمكن مقاربته بحسب السن (كذب الأطفال/ كذب البالغين) وبحسب الجنس (كذب الرجال/ كذب النساء)، ويمكن مقاربته مؤسساتيا ( كذب الصحافة، كذب السياسة، الكذب في الأسرة، كذب المثقفين…) وكل مقاربة تستحق دراسة خاصة، لكن رغم ذلك فبالقدر الذي تنفر النفس من الكذب تجد نزوعا نحو نوع آخر من الكذب هو الكذب الفني الذي يمارسه (فنانون في الكذب) بركوب الاستعارة ضمن الإبداع والأدب بكل أجناسه الشعرية والنثرية، من خلال تقديم عوالم مخالفة لما هو موجود على أرض الواقع كما في القصص، الملاحم ، الأساطير، المسرحيات وغيرها من أشكال الإبداع المتفق فيها مسبقا على الكذب بين الفنان والمتلقي.
بيد أن هذا الهامش مسموح به للمثقف والفنان، فإن كذبهما قد يصبح مثقلا بالعار عندما يصمت المثقف عن الحقائق أو يتجاهل – عن قصد- إنارة المظلم في المجتمع، أو يبيع القيم مقابل مصالح شخصية ضيقة، فيساهم في تكميم الأفواه، وتزوير الحقائق، وتغليط الرأي العام، ويتضحم حجم هذا العار عندما يغدو الكذب مؤسساتيا ترعاه الدولة وتخلق مؤسسات بميزانيات ضخمة للتلاعب بالحقائق وتزوير المعطيات تحت ذرائع “المصلحة العليا ” ” الأمن القومي” “استقرار البلد”… فيغدو وقتها الحديث عن “الحق في الكذب” خاصة في السياسة يشرعن فيها الساسة الكذب، و يتعمدونه بطرق متعددة منها:
– الكذب عن طريق إخفاء حقائق كأن يقدم رئيس دولة أو وزير مسؤول عن قطاع – عن قصد وبشكل واع – أرقاما وإحصائيات “علمية” بهدف إخفاء تدهور اقتصادي أو تعليمي مثلا…
– الكذب بإظهار أشياء غير موجودة قطعا في الواقع والكل يتذكر كيف حاول كولن باول وزير خارجية أمريكا إقناع العالم بوجود أسلحة دمار شامل في العراق باعتماد صور ووثائق وتقديم عينات لمواد كيماوية جعلت العامة تصدقه وتجد تبريرا لغزو العراق…
– إنكار شيء موجود وهذا النوع متداول بين الساسة والحكام الذين ينفون في كل حين وجود معتقلين سياسيين في بلدانهم، وجود التعذيب في سجونهم ، و وجود معتقلات سرية على أراضيهم ولعل نفي وجود معتقل “تازمامارت” مثال واضح على الكذب بإنكار شيء موجود في الواقع …
إن مثل هذه الأشكال من الكذب وغيرها من الأشكال المتداولة في أقوال الساسة هي ما حدا بالمنظرة الألمانية حنة أرنت إلى اعتبار الكذب في السياسة (إحدى الوسائل الضرورية المشروعة ليس فقط لكل من يمتهن السياسة أو يمارس الديماغوجية بل وكذلك لممارسة الحكم )
وإذا كانت بضدها تتميز الأشياء، فالذي يجعل الكذب مذموما هو قدسية الصدق، فمادام الحق مطلوبا والصدق مرغوبا ، فالكذب بالضرورة مرفوض، والتـزوير مرذول، لكن هل يمكن الحديث عن كذب نافع وكذب أبيض بريء، ما دام لا يتضمن أذى، بل قد تكون فيه منفعة لطرف ما، أو درء مفسدة عن آخر؛ كالكذب على مجرمين يلاحقون أحد أصدقائك أو أقاربك – وأنت مقتنع ببراءته- لما يسألونك هل لجأ إليك في بيتك؟ أو مثل كذب الآباء على أبنائهم لاعتقادهم أن ذلك “الكذب أبيض” لا ضرر فيه…. العاطفة والطبع يبدوان ميالين إلى قبول هكذا كذب، لكن معظم الفلاسفة والديانات يرون عكس ذلك فكانط يدعو إلى الصراحة وقول الحقيقة مهما كانت الظروف ويتلخص الأمر الكانطي و النهي عن الكذب في عبارة ( لا تكذب مهما كانت الظروف) وضرورة التحلي بالصراحة عند قوله: (عليك أن تكون صريحا ونزيها وحسن النية في كل تصريحاتك) وهو ما أكده جاك دريدا عندما قال (لا وجود للكذب النافع (يجب على الإنسان أن يقول الحقيقة ويلتزم بقول الصدق في كل الحالات وكيفما كانت نوعية الافتراضات، ومهما كان الثمن، وكيفما كانت الظروف التاريخية) وهو نفس ما ذهب إليه أوغسطين الذي يعتبر أن (الالتزام بالصدق في التصريحات واجب قطعي يلزم على الإنسان القيام به اتجاه أي كان ومهما كان الضرر الذي قد ينتج له عن ذلك)
وعلى نفس النهج ألفينا الديانات ترفض الكذب فكان موقف الإسلام من الكذب التحريم يقول تعالي في سورة غافر “إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب” لذلك كان مآل الكاذب اللعنة في الدنيا ( لعن الله الكاذب ولو كان مازحا) و جهنم في الحياة الأخرى ففي الحديث المتواتر : ” من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.” وفي حديث آخر متفق عليه : ” إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار”
هكذا يتضح أن الكذب إذن مرفوض قانونيا ممنوع أخلاقيا ومحرم دينيا، ولا مبرر لمن لا يرفض الكذب لأن قبوله وتشجيع تفشيه في المجتمع سيؤدي لا محالة إلى تقوض المجتمعات وهدم الروابط الاجتماعية والأسرية، وفقد الثقة في الأخر، يقول جاك دريدا (عندما لا ننبذ الكذب بطريقة لا مشروطة ستكون النتيجة زوال المبدأ المؤسس للروابط الاجتماعية وبالتالي سيصبح من المستحيل استمرار المجتمعات ) صحيح أن بعض أنواع الكذب يكون تأثير رنين ذبذباتها سطحيا بسيطا، لكن تأثير أنواع أخرى يكون مزلزلا عميقا خطيرا غير قابل للتلاشي، لذلك كان المبدأ العام هو رفض الكذب.
– معجم المعاني الجامع مادة “كذب”
– راجع جاك دريدا تاريخ الكذب ت. رشيد بازي المركز الثقافي العربي. ط1 2016
– عن كتاب تاريخ الكذب
– تاريخ الكذب ص. 47
– سورة غافر
– تاريخ الكذب ص 51