هزائم اليسار المغربي أخطر من سقطة الإسلاميين
خلفت نتائج انتخابات 8 سبتمبر 2021، موجة ارتياح كبرى لدى فئات شعبية واسعة في المغرب، اكتوت بنيران السياسة اللاشعبية التي راكمها حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة منذ عقد كامل. ارتياح تم التعبير عنه بأشكال مختلفة، عكست بعضا منها مواقع التواصل الاجتماعي.
التحكم عن قرب
رد فعل جماهيري سيكولوجي طبيعي من المحكومين ضد من يحكمون، أضيفت إليه نقمة ترسبت ضد إسلاميين اكتشف أنهم “مزيفون”، يدخلون في زمرة من “يقولون ما لا يفعلون”، أو هم في الواقع “يفعلون ما يؤمرون به من خلف ستار”، إذ تلاحقهم تهمة الائتمار بتعليمات “حكومة الظل”، وهي هنا هيأة مستشاري الملك.
سبق أن أثير هذا “الائتمار” في المنابر والمنتديات، بل إن الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية نبيل بنعبد الله، وكان يشغل في سنة 2016 حقيبة وزارة السكن بحكومة عبد الإله بنكيران، أفصح عن رفضه لسياسة “التحكم”، حين نعت مستشارا بارزا للملك بأنه “تجسيد للتحكم”. ما أدى إلى استياء القصر وصدور بلاغ عن الديوان الملكي، جاء فيه أن تصريحات بنعبد الله تتسم بـ”الخطورة”. و”تتنافى مع مقتضيات الدستور والقوانين التي تؤطر العلاقة بين المؤسسة الملكية وجميع المؤسسات والهيئات الوطنية بما فيها الأحزاب السياسية”.
كل هذا يمكن اعتباره أمرا طبيعيا في الحياة السياسية، لكن أن ينشغل اليسار كل هذا الوقت بالاحتفال بهزيمة “الإسلاميين” والشماتة في سقوطهم المريع، دون أن يجد الفرصة للالتفات إلى أطرافه وخلفه والتطلع إلى الأمام، لمساءلة الذات عما حصده الطيف اليساري في الانتخابات، إذ من دون ذلك سيتحول الأمر إلى حالة غير سوية تخالف العقل والمنطق.
احتراق الشمعة وضياع الرسالة
عندما نتكلم هنا عن أحزاب اليسار، يكون القصد منها الأحزاب الراديكالية، ممثلة في حزب النهج الديمقراطي، وقد عودنا على مقاطعته الدائمة للانتخابات. وأحزاب فيدرالية اليسار الديمقراطي الثلاثة، التي انشطر تحالفها عشية الانتخابات، لتطل على الناخبين برأسين، أحدهما احتفظ بالتسمية وبرمز “الرسالة”، والثاني عاد إلى رمزه الحزبي الأول “الشمعة”.
وفي مراحل معينة من الحملة الانتخابية لم يتردد حلفاء البارحة في التنابز بالألقاب وتوزيع الاتهامات فيما بينهم. مناضلو حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي مع حزب المؤتمر الوطني الاتحادي المستمرين في التحالف، وقدموا لوائح مشتركة، رموا نبيلة منيب، الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد، بالانتهازية والتسلط، وأحيانا بالعمالة لجهات معادية للطموحات الشعبية، وبانتهاك مبادئ وأهداف التحالف ومطامحه النبيلة.
ومن جانبها ردت المعنية بغضب شديد على منتقديها، كونهم يستعجلون الاندماج من دون أن يتم بناؤه على أسس فكرية وتنظيمية متينة. وعابت عليهم استغلال اسمها في الحملة الانتخابية لرمز “الرسالة”، في إحالة إلى الشعبية التي راكمتها منيب في الواجهة الإعلامية بصفتها منسقة لتحالف اليسار الديمقراطي.
ولا يزال التراشق ساريا بين المكونات السابقة للفيدرالية المعطوبة، ورفعت من حدته تداعيات الإخفاق في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة.
كانت أعلى درجات طموح أحزاب “اليسار الراديكالي المشارك” في الانتخابات هو تحسين وضعها التمثيلي في المؤسسات، بالحصول على مقاعد إضافية، بدل اثنين في البرلمان السابق. وقد استدعي هذا استحضار قولة للزعيم الراحل عبد الرحيم بوعبيد، لما صرح بأن “المقاعد لا تهمنا”، تعبيرا حارقا عن سؤال صدقية اللعبة الانتخابية في عهد الحسن الثاني، وسياسة التزوير والقمع والتنكيل التي برع فيها وزيره القوي في الداخلية إدريس البصري خلال “سنوات الرصاص”.
لقد كان عبد الرحيم بوعبيد يأمل في “أن يدخل المغرب غمار تجربة ديمقراطية تحميه من الهزات العنيفة، وإيجاد أجوبة عملية للخروج من المأزق”. كما كتب القيادي ووزير الثقافة الاتحادي السابق محمد الأشعري، خصوصا وأن البلاد كانت بصدد معركة استرجاع الأقاليم الصحراوية.
فما الذي تغير اليوم في المشهد اليساري مع العهد الجديد؟ وما هي الخلاصات والاستنتاجات التي استخلصها اليسار من تجاربه السابقة؟
البيانات الصادرة عن أحزاب اليسار المشار إليها، رغم إدانتها الخروقات التي طبعت سير العملية الانتخابية، بتسجيل استعمال المال لشراء الأصوات، و”الحياد المشبوه للإدارة والسلطة”. فقد أظهرت ما يشبه رضى أغلب هؤلاء الفرقاء الحزبين، لدرجة تصح فيهم الآية القرآنية: “كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ”.
هكذا احتفلت نبيلة منيب بفوزها بالهتافات والزغاريد التي صدحت في أرجاء المقر الرئيسي للحزب في الدار البيضاء بزنقة أغادير، فرحا بمقعد برلماني عن اللائحة الجهوية بالدار البيضاء. رغم أنها الممثلة اليتيمة للحزب الاشتراكي الموحد في مجلس النواب.
وبادر بيان صادر عن الهيئة التنفيذية لفيدرالية اليسار لتهنئة “كل المناضلات والمناضلين على المجهودات الجبارة التي قاموا بها خلال الحملة الانتخابية النظيفة التي جسدت قيم اليسار والروح الوحدوية بأفق إعادة بناء حركة اليسار”.
هكذ تكلم اليسار بلغة الباطرونا!
وفي الوقت الذي اعتذرت نبيلة منيب عن اللقاء مع رئيس الحكومة المعين، في مشاوراته لتشكيل الحكومة المقبلة. سارع عبد السلام لعزيز، الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي، إلى الاستجابة بصفته منسقا وطنيا لتحالف فيدرالية اليسار الديمقراطي، والتقى مع عزيز أخنوش، ليخرج بعد اللقاء بتصريح تضمن موقفا بالغ الإثارة، يزعم أن رجل الأعمال الأول في البلاد، و”المتهم بمراكمة ثروته من الريع”، “تتقاطع وجهة نظره مع وجهة نظر اليسار في القضايا الاجتماعية”.
أغضب تصريح عبد السلام لعزيز أغلب أهل اليسار، منهم منفي سابق بفرنسا، هو اليساري محمد المحجوبي، الذي لم يخف استنكاره، مستعجبا من تبدل اللغة ولم يمض على الانتخابات إلا أيام، “ليحل الود والتوافق في وجهات النظر مع نفس الشخص الذي دفعت به الدولة العميقة لتصنع منه وزيرا أول؟”.
وتساءل المتحدث: “أين هي المواقف المبدئية اليسارية من طبيعة الانتخابات المغشوشة، ومن “القاسم الانتخابي” الذي اعتبر من طرف تحالف الفيدرالية على أنه عملية “ريع سياسي”. ثم أين هو تقييم “اليسار” بأن الحكومة لا تحكم، وموقف اليسار من عزيز آخنوش واعتباره واحدا من رجالات الدولة العميقة بامتياز”.
ورأى آخرون أن تصريح عبد السلام لعزيز يدخل في باب “الاغتراف من سياسة ميكيافلية وانتهازية بحتة”. وأكد سواهم أنه بمثل “أداء” عبد السلام لعزيز يفقد اليسار مكانته الاعتبارية في المجتمع، لينال غضب الشعب والنخب، بل إن اليسار أضحى “موضع شكوك” في مساهمته في تعطيل حركة شباب “20 فبراير” بترويضها، إذ فتحت مقرات الحزب الاشتراكي الموحد والكونفدرالية الديمقراطية للشغل أمام الحركة في عز الانتفاضة، لتنطلق عمليات استقطاب محموم وسط شباب الحركة من لدن أحزاب فيدرالية اليسار. وكانت النتيجة تلاشي الحراك المنبثق عن الربيع العربي.
بمجرد الإعلان عن النتائج الصادمة، أعلنت “حركة تصحيحية” عن نفسها داخل حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي. فيما ظهر تيار جديد في الحزب الاشتراكي الموحد. ولم يأت التيار، الذي سمي بـ”اليسار الجديد”، ولا من تزعموا الحركة التصحيحية بجديد. وكأنها مجرد محاولة للتنفيس ليس إلا، أو لامتصاص الوهم الذي تملك البعض بقدرة “اليسار المشارك” نيل ما يساعده على تشكيل فريق برلماني على الأقل. (يتطلب 20 نائبا).
فيما ساد صمت حزين في صفوف المؤتمر الوطني الاتحادي، الذي صدم أعضاؤه في اليوم الأخير من الحملة الانتخابية، برحيل الزعيم محمد نوبير الأموي مؤسس الحزب وقائد المركزية العمالية الديمقراطية للشغل، التي يعد منخرطوها النقابيون الأساس الصلب لقاعدة المؤتمر الاتحادي.
الحزب الاشتراكي الملكي
لا تختلف أسباب انتكاسات اليسار المغربي في عمومها عما أصاب اليسار العربي والعالمي. منها ما يعود إلى ضراوة القمع ومصادرة الحق في الرأي وحرية التعبير، بشراسة استهدفت بالأساس تنظيمات اليسار واليساريين، وطالت أحيانا عائلاتهم وبعض المتعاطفين معهم. ما أنهك اليسار وأدى لتراجعه عن محاولات التغيير الحقيقي في المجتمع.
في السبعينيات اقتدى الحسن الثاني بسياسة الرئيس المصري أنور السادات، ملأ السجون بالمعارضين اليساريين ووضع المليشيات الإسلامية في مواجهتهم بالثانويات والجامعات، بل إن الإسلاميين نفذوا عمليات اعتداء بلغت حد اغتيال بعض اليساريين، مثل المحامي عمر بنجلون والطالب المعطي أيت الجيد.
في وقت من الأوقات عمل نظام الحسن الثاني على رفع شعار الاشتراكية، عندما أكد أنه مع “اشتراكية تغني الفقير ولا تفقر الغني”. ثم أعطى مستشاره أحمد رضا اغديرة الضوء لصهره (حينها)، لمشروع “الحزب الاشتراكي الملكي”، بقيادة محامي الدولة محمد زيان. (هو نفسه صاحب “الحزب المغربي الحر” اليوم).
في مستهل الثمانينيات برعاية مباشرة من المستشار أحمد رضا اغديرة تأسس حزب الاتحاد الدستوري، ولمزيد من الخلط والتضليل، حضرت لفظة “الاتحاد”، مع لقب المعطي “بوعبيد”، الاتحادي السابق. للتشويش على حزب الاتحاد الاشتراكي وزعيمه البارز عبد الرحيم بوعبيد. ثم تبين لاحقا أن الأنجع هو تدوير أطر اليسار وإعادة “رسكلتها”، وأمامنا اليوم نموذج الاتحاد الاشتراكي بقيادة إدريس لشكر، رائد “خدام الدولة”، كما سمى نفسه عندما تم فضح استفادته مع زوجته من أراضي للدولة بسعر بخس، في تحقيق أنجزه الصحفي عمر الراضي، الموجود حاليا رهن الاعتقال بسجن عكاشة بالدار البيضاء.
ولمزيد من إتقان اللعبة، جرى في 2009، بإيعاز من النظام، إنشاء “حركة لكل الديمقراطيين”، بمساهمة يساريين بارزين ومعتقلين سياسيين سابقين، قبل تحويل الحركة إلى إطار سياسي باسم “حزب الأصالة والمعاصرة”.
خطوات لاستعادة الأمل
بخلاف ردود الفعل المتشنجة، أو التي اختارت التعبير الغاضب عن موقفها في المجالس المغلقة، يمكن التعامل مع مبادرة اليساري محمد بولعيش ضمن ردود الفعل الواعية والمسؤولة، خصوصا أن المعني “عايش اليسار لما يفوق نصف قرن، ولا زال ملتصقا به قناعة وإيمانا وأملا”، و”رسالته المفتوحة إلى قيادات اليسار ومناضليه” (حوالي 4000 كلمة) تعد وثيقة سجالية لتحريك النقاش، أرادها مؤلف كتاب “السير على الأشواك” تعبيرا عن شعور بالمسؤولية “تجاه يسار نريده جامعا، وغيرة وخوفا عليه من الضياع والتيه ومزيد من التشرذم والانحراف، وتجاه مناضلين أعتبرهم مسؤولين أيضا عما حصل وما سيقع إن تركوا الحبل على الغارب”.
حاول بولعيش القيام بتوصيف موجز لواقع اليسار، وتشخيص أعطاب اليسار المزمنة، ذكر فيه عددا “من الأخطاء والانحرافات، والسلوكات الخارقة للقوانين والأخلاق اليسارية، والكيل بمكيالين حسب درجة القربى العصبوية، ومدى رضا القيادة أو غضبها على من سيطوله سوط العقاب… ولم نسمع ولم نشاهد إلا لماما وبأشكال محتشمة جدا من يحتج أو يرفض أو يستنكر أو يندد، أو يدين ويطالب بمحاسبة أو إقالة المارقين المخطئين المنحرفين، ضدا على ما ينبغي أن يتحلى به المناضل اليساري من جرأة وشجاعة ومبدئية وبعد نظر ودفاع عن الحق”. ليخلص في الختام إلى اقتراح خطوات عملية باتجاه المعافاة وتجنب الانكسار المميت.
جيل الضباع والضياع
لقد تأثر جيل الستينيات والسبعينيات بالأجيال السابقة، خاصة بمن خاضوا معركة الاستقلال، وبانتفاضة “ماي 68″ الطلابية بفرنسا، وبحرب الفيتنام، ونكسة 67. وتجاوب أكثر مع الثورة الفلسطينية والمقاومة في لبنان.
لكن الجيل الحالي بعد تعديل المناهج التعليمية وتحوير مادة الفلسفة، واشتداد الأزمات المعيشية للأسر المقهورة، يجد نفسه أعزلا، بلا وعي سياسي حقيقي، منقطعا عن تاريخه القريب ورموزه الديمقراطية والتقدمية، متأثرا بسلبيات ثورة المعلوميات وضغط الرقميات، مستهدفا بسياسات الإقصاء وبرامج التيئيس ومخططات الرعب والبطالة لتعميق تخلفه. والنتيجة جيل متذمر معادٍ لقيم العقلانية والأمل والإيمان بالتقدم والمشاركة. ألم يحذر الراحل محمد جسوس، (أحد الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع المغربي المعاصر)، من هذا المآل عندما نبه إلى ” إنهم يريدون خلق أجيال جديدة من الضباع”.
فكيف بإمكان اليسار المغربي مخاطبة الجيل الحالي، والعمل على تخليص المجتمع من تناسل المزيد من الضباع والتضبيع؟
وكيف السبيل إلى توحيد البيت اليساري قبل تنظيفه أولا من الوصولية، وتجاوز حالة التشرذم والانقسام والاندثار والأفق المسدود؟