الرئسيةرأي/ كرونيكشواهد على التاريخ

خلافا للمهدي وعمر كان يبقي على ضوء الشمعة بعيدا عن تيار الهواء..عبد الواحد الراضي مول البيبة والكويديمة و60 عاما بالبرلمان

الكوكاس
بقلم الاعلامي عبدالعزيز كوكاس

خلافا للمهدي وعمر والفقيه البصري وغيرهم من الذين آمنوا بالاحتراق من أجل ضوء القضية، كان عبد الواحد الراضي يغتسل بالماء مع كل خطبة في قبة البرلمان ليتجنب نواقض الوضوء ويُبقي ضوء الشمعة بعيدا عن مجرى تيار الهواء، وهو الجالس على مائدة العشاء بالصحبة السامية، لقد كان صادقا في أنه يريد للمغرب أكلة ديمقراطية مصنوعة بالصحبة بين الحركة الوطنية والقصر، لو تقدم الراضي إلى مقطرة القيادة داخل الاتحاد الاشتراكي، في غير الألفية الثالثة، لقامت ثورة تنظيمية داخلية، لكن مغرب الأمس كان قد ولى إلى غير رجعة والاتحاد الاشتراكي ذاته انقسم شذر مدر إلى اتحادات بدون القوات الشعبية، وانتصرت حكمة الراضي الثابتة حول الحوار بين القصر والحركة الوطنية وظل ذلك رمز قوة وضوح فكرته البراغماتية.

ليس في حياة عبد الواحد الراضي أي طوفان ينبئ بسفر تكوين جديد، مسار هادئ سلس على مقاعد مريحة لم يستسلم الرجل يوما لخدعة الطوفان، فبدأ كما لو أنه نفض يديه من أحلام جيله، وارتهن لواقعية المصالحة بين الماء والنار، بين نعيم القصر وجحيم المعارضة.. في مسار حياة الأستاذ الراضي تتجسد كل تجليات وتفاصيل “المجتمع المركب” الذي تحدث عنه الحكيم بول باسكون، جذر القبيلة وحداثة المؤسسات، عراب القبيلة وعراب القصر في مؤسسة حديثة، انحدار من أصول قروية والحياة في كنف ثقافة أوروبية.. إقطاعي واشتراكي في آن واحد، أستاذ جامعي مديني وفلاح قروي قبلي..

طعم البدايات


في مدينة سلا ذات الجذور الضاربة في التراث الباذخ للحركة الوطنية ولد عبد الواحد الراضي يوم السابع من رمضان عام 1935، من أسرة تتحدر من أصول قروية، بادية بني احسن بالغرب، حيث يغير البعض نكاية نون حسن بالكاف، بين حرفي الكاف والنون بدل الطفل الراضي “راشية جديدة” كما يقول الناس الغيوان..

وقدر له أيضا أن يرحل عنا في أول أسبوع من رمضان، وبين الولادة والرحيل ثمة مسار حافل من الأحداث التي كان الرجل في قلبها صانعا أو مساهما أو مقترحا أو منفذا…

اختارت الوالدة المرحومة لرضيعها اسم عبد الواحد تيمنا بأب السي علال الفاسي ليكون صبيها علامة وفقيها، وبتحوير قليل من تجاوز المباشر إلى مباشرة التجاوز، فإن عراف معبد دلف كما في أسطورة أوديب لم يكذب وتحقق الحلم للأستاذ عبد الواحد الراضي في غيبة والديه اللذين تركاه في زحمة الوقت ورحلا إلى دار البقاء وعمره لم يتجاوز11 سنة..

في أرجاء سلا وبين دروبها العتيقة اكتشف الراضي الكلام المحتبس في الحنجرة، هناك صحبة إخوته الأربعة عكف على الدرس والتحصيل إضافة إلى سفره الملازم إلى القرية بسيدي سليمان لتلقي أصول الثقافة التقليدية المرتبطة برغام الأرض، يشهد السجل الدراسي للراضي بالمواظبة وحسن السيرة والسلوك، إذ بعد حصوله على الشهادة الابتدائية في 1949 وتقدمه الدراسي، جرب حظ اختزال سنة دراسية في ثانوية مولاي يوسف، وغورو مشتل زراعة أطر الحركة الوطنية والتقدمية في آن واحد. بحكم تفوقه سيقفز على السنة الأولى ثانوي بثانوية الليمون بالرباط حيث فضل ربح سنة على الحصول على منحة، فهو لم يكن يعاني عسر الحال.

على يد المعلم عبد الرحيم بوعبيد، دخل الشاب الراضي على خط رموز وألغاز مرحلة صعبة من المخاض الوطني، وعبر وشم السنة البيضاء سنة 1944، سينخرط في صفوف الشبيبة المدرسية وخلايا التلاميذ مع الاستقلال، وفي حمأة معركة البناء الوطني لمع نجم الشاب الراضي في العمل الجمعوي فهو من الأطر الشابة التي كانت إلى جانب المهدي بن بركة في مشروع طريق الوحدة، المنجز الواقعي الذي تاه في غبار أوهام الصراع السياسي على شعلة برومثيوس، التي احترق العديدون بلهيبها.

في ظل التشظيات، رغم خطبه النارية التي أعلت كعبه منذ ملتمس الرقابة في 1964 إلى تجربة 1977 داخل قبة البرلمان حيث كانت النخب السياسية تجرب أبجديات مختبر العمل المؤسساتي خارج دهاليز السرية وحجبها الكثيفة، لم يكن الأستاذ عبد الواحد الراضي يمس الأسلاك الكهربائية العالية الضغط، وظلت جل حواسه متيقظة من أجل عدم استشعار إنذار رادارات الضفة الأخرى… بين نعيم القصر وجحيم المعارضة ارتهن الرجل لواقعية المصالحة بين الماء والنار.

وفيما ظل ينفث نيران النقد على الكراسي الوثيرة للبرلمان، كان يدافع بقوة عن منطق الاعتدال والمشاركة وتشييد جذور الثقة بين الحكم والمعارضة، كما مثلها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يومها كان الراضي يبدو مثل طائر يغرد خارج السرب، فقرون السجن التي وزعت بالقسطاس المريح على رموز الاتحاد وعشرات الاختطافات والتصفيات التي حملت وشم المرحلة في ظل زمن القطيعة، كانت توقظ فورة الشباب في وجه الأستاذ الراضي الذي عانى الأمرين، لكنه ظل ينفض أذنيه كل مرة من الإشاعات المسمومة ونعوت ذوي القربى التي كان لها طعم مر ووقع أشد من الحسام المهند، وكان يمسح رأسه ليسقط ما علق به من غبار المرحلة أحيانا ترفعا وأحيانا تهكما من صبية السياسة الذين لم يعرفوا أبجديات السياسة التي هي فن الممكن برأيه، لكنه كم شعر بالسعادة حين وجد جماعات تأتي زرافات ووحدانا لتتبنى حكمته وبراغماتيته، وإن بأساليب أكثر شرا ودناءة في بيت حزبي أصبح أشبه بوكر الأفاعي، مليء بالأحقاد، خال من الذكريات والدفء.

تفوقه الدراسي قاده إلى تخصص علم النفس حيث أنجز دراسة حول التنشئة الاجتماعية انطلاقا من التربية في الكتاب، وهو نص تأسيسي برأي البعض، تميز بعمق الرؤية ومنهجية التحليل قبل أن يتحقق التراكم في هذا الباب، لكن الراضي الذي حصل على لقب دكتور دون تقديم أطروحته، ضمن سلك ما سمي بدكاترة إفران في بداية الثمانينيات، لم تغريه جاذبية الأستاذ الجامعي، وكان كمن يهيئ نفسه لما يستقبل من الزمان.

البرلمان لا الطوفان

في كل بلاد الدنيا تقتات الثورات لحما آدميا، إلا في المغرب، فالحلم وحده أو مجرد النية فيه، في الزمن الرصاصي غير المأسوف عليه، كان يقود إلى المحرقة، لذلك كان الراضي يمسك عن الكلام الذي لا يبقي سوى الرماد، مثل من يتذرع بنخر في ضرسه، لمجاراة حكمة الصمت، كأنه كان يعي بعد كلام تشيكايا أوتامسي شاعر الكونغو الذي قال: “الحرية بدون عذابات نزوة، تتعلم الشعوب هذا على نفقتها الخاصة”. ومنذ ذلك الحين بدأ يصنع، بصبر وثقة، أشرعة سفينة الاتحاد الاشتراكي والتفاهم مع النظام وتكسير جدار اللاثقة.

وكان أسبق من الشهيد عمر بن جلون في استيعاب حكمة جدلية الفشل، فشل النظام في القضاء على الاتحاد الاشتراكي، وفشل هذا الأخير في تليين عريكة الحكم، ودافع عن الاعتراف المزدوج، محافظا على هدوئه رغم الانتقادات الجارحة التي ووجه بها، سر ذلك يكمن في المصالح الذاتية التي كان سليلا لها، وأيضا في نمط الحياة المزدوجة الذي كان يعيشه، لقد كان الراحل الراضي يطل من نافذتين فهو عراب القبيلة محاط بكبار صغار الفلاحين رغم مسؤولياته الجسيمة، كان يعيش التفاصيل الصغرى للقبيلة، مشاكل الروتين، نزاعات الأرض، زفاف، مأتم.

إنه فلاح مرتبط بالأرض وإقطاعي ملك الكثير رغم اشتراكيته المعلنة، وبحكم زواجه من فرنسية فقد ظل قريبا من نمط الحياة الأوروبية بما تعني من براغماتية واعتدال وانفتاح وإيمان بالمشاركة في المؤسسات، وهو ما التحق به حزب القوات الشعبية، بفضل هذا العمق الرمزي يبدو أن ليس للراضي خصومات سياسية، فهو رجل الحوار بامتياز، ظل يجد الأعذار للكل، لا يتشفى ولا يحقد، ويحتفظ بعلاقات ودية مع كافة التلاوين السياسية من أقصى اليسار إلى أغرب يمين، ظل صديقا للكل كأنه يسمع لمناد قصي: اغفر لمن غدروا ومن كفروا ومن ضاعوا ومن كذبوا ومن هربوا ومن أشروا ومن بطروا ومن سرقوا ومن مرقوا… وبسبب ذلك أيضا لم يغادر الرجل قبة البرلمان منذ أول انتخابات تشريعية حتى رحيله، وكان يبدو مثل موظف يخشى عقوبة مغادرة العمل أقصد البرلمان. Abondement de poste

إلا أنه وبخلاف جل الحربائيين لم يغير دائرته الانتخابية التي ظل يترشح فيها منذ 1963، وكان أول رئيس جماعة قروية وسط الاتحاد ذي النخبة المدينية، وفي ذلك يحكي البعض طرائف صاحبت ترشيح الراضي ببني احسن، فقد جندت السلطة فقيها مخزنيا كان أخوه قائدا بالمنطقة بحيث أنه خلال الحملة الانتخابية كانت سيارة القائد تخرج في مقدمة موكب الفقيه المنافس مما جعل الراضي يخشى سوء العاقبة، فاستنجد بالشهيد بن بركة بشقته بديور الجامع قرب مقهى موريطانيا، حيث أطل عليه الشهيد الذي كان يحلق ذقنه، وبعد أن استمع لشكواه من سلوك السلطة، أمره بلهجة صارمة بالدفاع عن اسم حزب القوات الشعبية ومقعده بالمنطقة بلا خوف..

من الشبيبة المدرسية إلى بناة الاستقلال، ومن ملتمس الرقابة في 1964 إلى مساهمته في تأسيس النقابة الوطنية للتعليم العالي، كان الراضي يبدو كما لو خلق للعمل النيابي حيث بزغ نجمه وعلا سهمه، حيث اقتنصه الحسن الثاني الذي كان يتابع لغته الدارجة الأنيقة وهو يتحدث عن غلاء السكر ومعيشة المغاربة بالبرلمان الذي سكنه إلى الأبد.

“البيبة والكويديمة”

اشتهر الراحل الراضي عند عامة الناس بـ”مول البيبة والكويديمة”، ونال إعجابهم في صولاته الخطابية تحت قبة البرلمان في 1977 بعد تجربة حالة الاستثناء، كانوا يعثرون على أنفسهم في خطاباته العميقة لقد كان نجما بامتياز في مقارعة عبد الحميد القاسمي من التجمع الوطني للأحرار وبعض الخطباء المفوهين لليمين الذي كان يقتات من الحلمة الاصطناعية للسلطة..

القدرة على البوليميك وسرعة البديهة كانت تثير إعجاب البسطاء، لكن الرجل ظل حذرا من الأسلاك المكهربة لذلك أثار انتباه الحكم الذي أصبح له وليا حميما، إذ اختاره الملك الراحل سنة 1984 ليكون رئيسا للاتحاد الإفريقي ثم وزيرا للتعاون في حكومة 84 التي كان فيها الراحل عبد الرحيم بوعبيد وزير دولة، وكان أول من أُخبر بإطلاق سراح الأموي، ومن جهته كان وسيطا ناجحا وحمال رسائل في الاتجاهين، وغداة توقيع اتفاقية السلم الاجتماعي في باخرة مراكش مع الحكم، جر على نفسه انتقادات واسعة لكنه دافع عن أفكاره موضحا ومعللا، من قلب البرلمان قاد ادريس البصري، الذي كان في عنفوان قوته، الأستاذ عبد الواحد الراضي إلى أروقة السلطة العليا ودهاليزها، وإن لم يشر إلى ذلك في مذكراته حول المغرب كما عاشه، لكن الرجل استطاع التخلص من وساطة البصري وسار في موكب الكبار، يرافق الحسن الثاني في مفازات الصيد ويقود جزءا من أسرار الدولة، وينقل للقصر إرغامات وطموحات الحزب ويضع بعض توابل الحكم في طاجين الحزب، لقد ظل فعالا ومنتجا.

علاقة الراضي بالوزير المخلوع خضعت لمد وجزر، فمن الجلسات في الفنادق الفخمة إلى التراشق الحاد والملغز، يتذكر العديدون لحظة استقبال المغرب لبعثة من كبار أطر البرلمان الأوروبي التي حلت بين ظهرانينا لتطلع على دور البرلمان في تحصين الديمقراطية المغربية المراهقة، حيث كلف الملك الراحل عبد الواحد الراضي بالوفد وهو ما لم يكن ليرضي وزير كل شيء على ذلك الزمن، وفي إحدى الجلسات قدم البرلماني المعمر عرضا اعتبره الخصوم والأصدقاء بذرة جمال في وجه البرلمان ونال إعجاب أعضاء الوفد الأوروبي، وهو ما أغاض الوزير الإمبراطور الذي قاطع الراضي بشكل فج وغير مبرر قائلا بلغة موليير إنك بصدد تكرار نفسك، فرد عليه الراضي بسرعة البديهة وبلغة متهكمة: “إن التكرار أسلوب بيداغوجي.. أليس كذلك الأستاذ البصري؟”

لقد تدرج الراضي في كل مسالك البرلمان وأصبح خبيرا بالدهاليز السرية للمؤسسة التشريعية، وأورثه الانخراط في سيرورة العمل الانتخابي ذلك المكر الكبير الذي توجه سنة 1998 رئيسا لمجلس النواب.

القفاز الحريري

حفاظ الراضي على مسافة سلام مع كل أجنحة الحزب يقرأ في اتجاهات متعددة، فبالنسبة للمقربين منه فإن الراضي رجل الحوار والتواصل والتفاوض، فحتى المشاورات الرسمية التي كانت تجري بين القصر والاتحاد تحت الظل الممتد لبوعبيد، كان يباشرها الراضي، لأنه كان رجلا ذكيا يمثل صوت العقل والحكمة داخل الحزب.. وهو ما جعله حاضرا في كل لجان المساعي الحميدة، التحقيق حول موت محمد باهي، التدقيق في تزوير البرلمانين…

وكلما اشتعلت بقع النيران هنا وهناك، كان الراضي، مثل إطفائي، يتدخل لإخماد فتيل الأزمة كما في المؤتمر الحاسم للشبيبة الاتحادية في بداية الألفية الثالثة، لكن خصومه الذين أقروا بأن الراضي لم يكن طرفا في الصراع الدائر وسط الاتحاد الاشتراكي، يختلفون في تفسير أسباب ذلك، ويعيدونه إلى سلبية الرجل الذي لا يتخذ القرارات الحازمة في لحظات الصراع حول المواقف والمبادئ ويستدلون بما حدث في المؤتمر السادس بعد انسحاب الأموي، فقد قال اليوسفي بالفرنسية: إن حزبنا يعيش أزمة، فرد اليازغي: إن الحزب كان يعيش في أزمة، وعندما سئل الراضي عن رأيه وضع يديه على رأسه قائلا: “راسي كيحرقني”، بما يعني أنه كان يبتعد عن وجع الرأس في جو متوتر.. إنه الراضي الذي يحرس على إرضاء كل الأطراف.

لكن في مركز قبيلته للناس حديثا ذا شجون عن الراضي وإقطاعياته التي اتسعت بلا حدود، وعن عدم تطور الجماعة التي كان يرأسها من الرباط لتشكل نموذجا لبرلماني ورئيس جماعة لم يقدم برأي الكثيرين نموذجا إيجابيا لتدبير ترابي ناجع بحكم النفوذ الذي كان يتمتع به لدى صناع القرار..

°يعاد نشرها باتفاق مع الكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى