الرئسيةثقافة وفنون

من بين جبال الأطلس تنبعث موسيقاه ..كاتبة مصرية محمد رويشة و أوتار النغم المغربي المتكامل+فيديو وصور

بقلم الكاتبة المصرية مروة صلاح متولي

ينتمي محمد رويشة إلى الناس، إلى أرض البلاد وجبالها، إلى خنيفرة مدينته الأثيرة، إلى المغرب كاملاً بتنوعه ووحدته.

ومن بين جبال الأطلس تنبعث موسيقاه التي يعزفها على آلة لوطار، بنغمات تحمل ثقافة عريقة، وحضارة عتيقة من أقدم الحضارات الإنسانية. وينطلق صوته بغناء أمازيغي وعربي، هو في جوهره إحساس ناطق بلغتين، يجيد التعبير بهما ومن خلالهما، فالأمازيغية لغته الأم، والعربية جزء كبير من وجدانه، يتقنها في شكليها الفصيح والعامي، غناءً وإلقاءً، وكتابةً أيضا، حيث كان يؤلف بنفسه كلمات بعض أغانيه العربية. ومن يستمع إلى اللغة الأمازيغية في غناء محمد رويشة، يجد أن إيقاعها وموسيقاها الداخلية، يتشابهان بقرب مع إيقاع وموسيقى اللهجة المغربية العامية، أو الدارجة العربية في المغرب.

وتُعد اللغة الأمازيغية من أقدم اللغات التي تمكنت من البقاء، واستطاعت أن تحيا عبر آلاف السنين، فقديماً عاصرت الحضارة الفرعونية الحضارة الأمازيغية، ومع ذلك لم يصل إلينا من لغة الأجداد، سوى مفردات قليلة، وبعض الرموز الهيروغليفية، ولا نستطيع أن نتكلم اليوم بلسان قدماء المصريين.

ومن خلال صوت محمد رويشة، تظهر جماليات اللغة الأمازيغية سماعاً، وتساعد الترجمات العربية المتوفرة لبعض أعماله، على اكتشاف المعاني والتراكيب التعبيرية، والمخيلة التي تأتي منها الألفاظ والصور الشعرية.

في بداية الستينيات كان محمد رويشة لا يزال طفلاً يذهب إلى مدرسته، يتعلم ويلهو مع أقرانه، ولم يكن قد عرف بعد سوى حب الأم، التي عاش معها وحيداً بعد موت الأب. إلى أن التقى ذات يوم بحب آخر كان مقدراً. «اختارتني واخترتها» هكذا كان يقول الفنان الراحل عن آلة لوطار، التي لم تفارقه طوال حياته منذ اللقاء الأول، ومدى سنوات ومراحل المشوار الفني الجميل.

وفي سن الثانية عشرة، بدأ يحيي بعض الحفلات الموسيقية، مع مجموعة من الفنانين الكبار. ولوطار أو الوترة آلة موسيقية مغربية خالصة، يعود تاريخ وجودها إلى القرن الخامس عشر، وربما تمتد بجذورها إلى زمن أقدم.

وهي كمحمد رويشة نشأت وسط جبال الأطلس، فجمعهما المكان الثابت، والتقيا في زمان آخر متغير، حيث أتت لوطار إليه من زمن بعيد، وارتبط هو بماضيها، وخلقا معاً زمناً جديداً، وفناً حديثاً بتطوره، غنياً بأصالته.

كأنما تنطبق عليه كلمات الناقد الفني عزيز أحمد فهمي، التي كتبها يوماً في مجلة «الرسالة» عام 1939: «الفنون مخلوقات حية لا أجسام لها، وهي تعيش ما بين النفوس والأرواح، تُغازلها وتُعاشقها، فإذا طاب فن لروح تزاوجا، وكان من نسلهما بعد ذلك فن ونفس جديدان، في كل منهما ملامح من الفن القديم، وملامح من النفس الأولى».

آلة لوطار من أقدم الآلات الوترية في العالم، لها جسم خشبي وذراع طويلة وأوتار ثلاثة، أضاف إليها محمد رويشة الوتر الرابع. وأخذ يعزف على آلته الحبيبة، بطريقته الخاصة في تركيب أصواتها ومزج نغماتها، التي تزيد أسلوبه الموسيقي تميزاً وتفرداً.

التعبير النغمي

ولهذه الآلة صوت نادر فيه حرارة العاطفة واكتمال التعبير النغمي، وهي لا تشبه في شكلها وطبيعة صوتها أي آلة وترية أخرى، فهي ليست كالعود على سبيل المثال، أو كالسيتار الهندي، وبعيدة عن الكمان وعائلته من الوتريات، كما أنها لا تشبه بعض الآلات الوترية المغربية الخالصة أيضاً كالهجهوج. فإن هذه الأوتار المشدودة على الجسم الخشبي، بقوة اهتزازها ورنين نغماتها، لديها القدرة على خلق صوت لا يشبه أي صوت آخر.

وماذا إن كان هذا الصوت تُنتجه أنامل محمد رويشة الضاربة على الأوتار، فهو لم يكن موسيقياً عادياً، وإنما كان ذلك العازف الماهر الصنّاع، الذي يصل في عزفه إلى درجة من الإتقان يقل مثيلها في العالم، وتجعل أصحابها من المعدودين النوادر في تاريخ الموسيقى، ويرتبط اسم كل منهم بآلته الموسيقية، كفريد الأطرش والعود، ورافي شنكار والسيتار الهندي مثلاً.

إذ ما يكاد رويشة يهز أوتار آلته الحبيبة، حتى ينجذب المستمع على الفور إلى ذلك الصوت، الذي يجعله ينتقل بالخيال مكانياً وزمانياً، فالموسيقى غنية بالصور الشعورية، وهو لا يعزف على لوطار وحسب، وإنما ينسج حول هيكلها خيالاً كاملاً.

مع موسيقى لوطار يتناغم صوت محمد رويشة، وهي موسيقى ناطقة إذا أمكن وصفها على هذا النحو، وتتضاعف المتعة عندما يغني معها ويغني لها: «ناديتك بالليل وضي القمر، من قديم الزمان سموك لوطار، وأنت آلة تراث بلادي، وأنت آلة نغمة بلادي، فقلبها أسرار». لا تخفى هذه الأسرار على رويشة، ولا حواجز بينه وبين آلة لوطار، يعرفها وتعرفه، يطمئن إليها وتثق فيه وفي قدرته على التعامل معها، يسند رأسه إليها أحياناً، كأنه يلتمس لديها الراحة والحنان، ويتابعها ببصره أغلب الوقت، ينظر إلى أوتارها كما لو كان هناك حوار قائم بينه وبينها.

هذا التواصل البصري يعكس مدى افتتانه بلوطار، وتشوفه وتطلعه السامي إلى مكانة هذه الآلة، ويُظهر عزفه حيويتها المتجددة رغم قدمها البالغ، عندما ينطلق مع أوتارها وهو نشوان، يسكب عواطفه وروحه وإحساسه على كل وتر، فينطق وينبض بالحياة، ويملأ الوجود بالرقة الصوتية ولين الأنغام.

مقاومة الفرنسيين

بدأ محمد رويشة في طفولته بغناء بعض القطع الأمازيغية عن النضال والمقاومة ضد الفرنسيين. وطوال مسيرته الفنية حمل التراث الموسيقي لآلة لوطار، بالإضافة إلى أعماله الخاصة التي أبدعها مدى فترات حياته. وكان ارتباطه بمدينة خنيفرة كبيراً، يعود إليها دائماً بعد أسفاره وحفلاته حول العالم.

وهي بلا شك كانت مصدراً من مصادر إلهام هذه الموسيقى، وللطبيعة المغربية السخية انعكاسها على ما يعزفه رويشة، وعلى ما يغنيه أيضاً، وقد امتلأت رئتاه بهواء المكان، وامتلأت نفسه بالعمق التاريخي والثراء الحضاري لتلك الأرض.

وفي موسيقاه يجد المستمع قوة الجبال وشموخها، والنزول من قمم هذه الجبال إلى الأرض، والصعود إليها مرة أخرى. ويجد كذلك صعود الصوت كأنه يريد أن يلامس السماء، وفي أنغامه رقة المياه وانسيابها وجريانها في الأودية، والفضاء الواسع الملون باللون الأخضر بغطاء سماوي أزرق. ودفء الشوارع السكنية والأزقة ونعومة المنحنيات، والنغمات النقية الصافية الشفافة المشرقة كالشمس.


يغني رويشة عن الحب، عن الإنسان، عن أويقات السعادة الثمينة، ولحظات الحزن الممتدة، عن آلام الحياة ومشاقها، عن «العدو الكبير الذي هو الزمان» كما كان يقول في أحد حواراته التلفزيونية. يغني عن الغربة، عن مواجهة الألم وشجاعة المحاولة، عن نفوس البشر، وما يجعل الإنسان إنساناً بحق، عن الطبيعة والدروس التي تُعلمها لمن يريد أن يتعلم ويفهم ويتأمل، فيقول: «غرست وردة ولات جاردا، غرست شجرة عطات ثمرة، هادي غير نبتة، وآش نقول فيك إنتا، هادي غير نبتة، وآش نقول عليك إنتا». ويغني: «آه يا لحبيب راه الفراق صعيب» في لحن من أجمل الألحان بتقاسيمه على لوطار، وشكواها الباكية التي تصاحب صوته الرخيم العذب في ألمه الحزين.

وعن الغربة يغني: «خويا لمهاجر، اصبر وكابر، والهجرة تدوز، ويدوزوا محاينها» بلحن إيقاعي نشيط ومرح يخفف من أوجاع الغربة، وبكلمات بسيطة تحمل نصائح صادقة لكل مغترب. وعن الأم التي لا يعادل حبها في قلبه أي حب آخر، يغني أكثر من لحن رائع عميق المشاعر، كلحن «سمحيلي يا لميمة» ولحن «قولوا لميمتي تجيني». وبالأمازيغية يغني: «بديغ إسك أسيدي يا ربي» وهو لحن روحي رائع بمقدمته الموسيقية البليغة، التي تبدأ خجولة مترددة إلى حد ما، ثم تنطلق في مناجاة يقول فيها كما ترجمها إلى اللغة العربية بعض عشاقه على موقع يوتيوب: «باسمك يا سيدي ربي أبدأ قولي، جُد علي، فوحدك قادر على الاستجابة ووحدك قادر على العطاء». وفي لحن «بيبيو سغوي» يتجلى لون آخر من ألوان الطرب الأمازيغي، في غنائه عن الحب وشكوى القلب، وتقول بعض كلمات هذه الأغنية: «لطالما نشدت قربك حبيبي، ولطالما ظللت أنشد، فارحم قلبي».

الثراء الفني

عندما يتحدث محمد رويشة ففي حديثه ألحان من الرقي والتواضع والحكمة، وأناقة الفكر والكلام الأخاذ. وكما هو ممتع الاستماع إليه عندما يتغنى ويعزف، فمن الممتع أيضاً الاستماع إليه عندما يتكلم، وتأمل ابتسامته الوديعة وملامحه الطيبة، وهدوء الحكمة وخبرة السنين ورضا النفس الصافية، وكلماته القليلة البليغة التي ينطقها بصوت هادئ خفيض.

فهو ما عرف الموسيقى إلا ارتقاءً وسمواً، وعلى الرغم من أنه كان يجيد الحديث، وكان لديه من الثراء الفني والإنساني ما يمكنه من ذلك، إلا أنه لم يكن يسمح لشهوة الكلام أن تستبد به. ولا يحب التحدث كثيراً في حواراته التلفزيونية، ولا يستطيع أو لا يُفضل أن يبتعد لوقت طويل عن آلته الحبيبة. فتراه يمسك بلوطار وحده فجأة، دون طلب من أحد، ليعزف ويغني.

وكان يجيد التعبير عن أفكاره، ولعله لهذا السبب كان قادراً على الكتابة، فتجده يصيغ المعنى على أكمل وجه، ويسبك العبارات المختصرة المحكمة، ويوصل رسائله التي قد تحمل بعض الانتقادات للأوضاع والأمور الفنية، بنعومة وتهذيب بالغ. وعندما كان يلقي الشعر أو كلمات بعض أغانيه، يكون لقوله المنغّم الأثر الحلو الذي يخلق الإعجاب لدى المتلقي. هكذا كان محمد رويشة نموذجاً فنياً وإنسانياً فريداً، حفظ لنفسه الحياة في وجدان المغاربة وضمائرهم، وفي أعماق كل إنسان لامس قلبه بصوته، واتصلت بروحه موسيقاه.

للأغنية عند محمد رويشة تركيبتها الفنية وشكلها الخاص، وهي تبدأ عادة بتقاسيم يعزفها على لوطار منفرداً، ثم يصاحبه الإيقاع من خلال دقات المزاهر، ويدخل الصوت البشري، سواء كان غناء رويشة نفسه، أو الجوقة النسائية التي ترافقه عادة في بعض أغانيه، وتقوم بترديد بعض المقاطع بصوت أنثوي يتطور نحو الحدة دائماً، ويمتد بالأغنية إلى أعلى نغماتها. وكما أن في الموسيقى الكلاسيكية توجد دائماً النغمة الأولى والثانية، ثم تنفتح النغمة الثالثة على شيء جديد، كذلك يفعل الكورال الذي يردد المقطع في المرة الأولى والثانية، ليتغير الأداء كثيراً في المرة الثالثة.

ويكون هذا الأمر من نقاط التشويق المثيرة في الغناء على شكل العيطة الأمازيغية، والأداء المتوارث من جيل إلى آخر. وللمرددات دور كبير يختلف عن الدور التقليدي لأي جوقة تصاحب مطربا آخر، ومنهن نجمات في هذا الميدان، تنقل أصواتهن الحادة المتلقي إلى نوع آخر من السماع، وتخلق التقابل الصوتي مع صوت رويشة الرخيم، المجروح بحزن ما، لكنه يظل هادئاً، وإن علا فإنه يعلو رويداً رويداً، كما تُعمق هذه الترديدات المعنى، كأنها تجيبه بالبكاء والنحيب، وتؤكد الغرض المقصود من اللحن.

الأشكال الموسيقية

يجمع رويشة بين الإحساس الموسيقي والإحساس الشعري، ويجيد خلق عناصر الإمتاع والجمال في الأغنية، والإبانة عن قيمتها الفنية، وابتداع الألحان والأشكال الموسيقية. وقد مضى طوال حياته وهو يحمل تراث بلاده، ويبتكر موسيقاه، ويحقق حلماً فنياً ليحلم من جديد. ولا يخفى انفتاحه على الموسيقى الكلاسيكية الغربية، والموسيقى العربية القديمة والهندية أيضاً، بالإضافة إلى ألوان مختلفة من الموسيقى المغربية، بنغماتها وإيقاعاتها المتنوعة والنسب المختلفة لهذه الأنغام والإيقاعات، كاللون السوسي والمرساوي والأمازيغي والزياني، وإلى ما هنالك من ألوان أخرى. يحرص رويشة على الموازنة بين الغناء والموسيقى في الأغنية الواحدة، فلا يطغى أحدهما جمالياً أو زمنياً على الآخر، ويستمتع المتلقي بالإصغاء إلى الغناء بقدر ما يستمتع بالإصغاء إلى الموسيقى.

وكذلك يكون تتبع رويشة وطريقته في الأداء ممتعاً، والتنغيم الخاص بكل كلمة، وإلقاء مقاطع الأغنية، والتقاسيم والزخرفات والتلوين والأفكار الموسيقية المختلفة. وتُعد الأغنية الأمازيغية «إناس إناس» من أفضل النماذج التي يمكن التعرف من خلالها على شكل الأغنية عند محمد رويشة، ومن أجمل القطع التي يمكن سماعها والتمتع بما فيها من فنيات وجماليات متعددة.

تعتمد هذه الأغنية على التكرار كأحد جماليات الموسيقى، وتكمن البراعة في توظيفه دون أن يُحدث مللاً، فالسامع يصغي ويترقب هذا التكرار، وما يحققه من متعة جديدة في كل مرة، يقول رويشة: «إناس إناس، إناس إناس، مايريخ أداسيخ إزمان» وترجمتها المتداولة باللغة العربية هي: «قل له، قل له، ماذا يمكن أن أفعل لهذا الزمان».

ويلاحظ أن العبارات في هذه الأغنية مكثفة ومختصرة، تعبر بكلمات قليلة عن مشاعر وآلام كبيرة. فالشاكي من الزمان ليس لديه الكثير لكي يقوله، وربما يفصح عن كلمة ويحتفظ في مقابلها بعشرات الكلمات، التي يمنعه ألمه أو كبرياؤه من البوح بها. وللفظة الأخيرة في كل جملة وقعها دائماً، كما تتكرر لفظة «مايريخ» ثلاث مرات أيضاً، تكون المرة الثالثة أعلاها في طبقات الصوت النسائي الحادة عندما يرددها الكورال، أما غناء رويشة فيُظهر ملكاته الشعورية، والقوة الموسيقية لديه في توقيع النغمات، والمقاطع النغمية المتلاحقة، والعناصر اللحنية المختلفة، ويتصل صوته بالقلوب التي تتابعه وهو يكرر شكواه على مسامع الزمان.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى