الرئسيةشواهد على التاريخفكر .. تنويرميديا وإعلام

ولد في مثل هذا الشهر وتجاوز سنه المائة عام..بعبء قرن… إدغار موران يدعو البشرية: استيقظي!

ينبغي الإشارة، و”دابا بريس” تختار هذا المقال للاحتفال بعيد ميلاد، الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران، أن هذا المقال المأخوذ عن النهار  اللبنانية، نشر في 23-03-2022.

 

في نهاية العام المنصرم، احتفلنا في هذا المنبر أسوةً بمحافل ثقافية وإعلامية في فرنسا والعالم أجمع بمرور مائة عام على ولادة المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، واجتمعنا حول كعكة كتابه “دروس قرن من عمري” (دنويل، 2021)، عرضنا زبدة خبرة حياة مديدة وعميقة وعديدة الوجوه والمكونات، وضعت صاحبها في مفترق طرق الإيديولوجيا والمقاومة والفلسفة وعلم الاجتماع والعمل الميداني، ملتحماً بالثقافات واللغات هو المتعدد الأصول، مدافعاً عن حقوق الإنسان بلا قيد ولا شرط، بصفته مفكرا ملتزما وإنسانيًا متفتحاً لم تقيّده الدوغما يومًا، ومن بوصلة الوعي المركب خاض جميع معارك الحرية والتقدم والتنوير.

عبء مائة عام على كاهله لا تثنيه عن مواصلة الفكر والانخراط في معارك عالمنا الذي في غليان، لذلك لا مفاجأة إذ يرفع صوته من جديد بنبرة غضب واحتجاج في كتابه الأخير الصادر أخيرًا: ” Réveillons-nous” (لنستيقظ) (دنويل، 2022)، عبارة عن (مانفست) يحدّد فيه موقفه تجاه بلده فرنسا المرحلة الراهنة وهي في خضم هجمة كاسحة للتيارات اليمينية المتطرفة وترويجٍ للأفكار والشعارات العنصرية جاعلة المسلمين والمهاجرين كبش فداء فيها.

قلةٌ حقًّا في صفّ المفكرين والأدباء الآن في فرنسا من نسمع صوتهم في المعركة الحامية التي تدور رحاها بين جبهة الرجعية وإيديولوجية التمييز والإقصاء والترهيب بما يسميه أساطينها ب “الإحلال الكبير” للمهاجرين والأجانب (القصد، العرب تحديداً) والقوى التقدمية والجمهورية التاريخية، المشرذّمة، حالياً.

لكنّ موران، وهو منهج تحليلاته، لا يكتفي بمعاينة الظاهر وشجاعة الفضح وإدانة التعصّب العرقي وأنصار الليبرالية المتوحشة، بل يستحضر التاريخ الفرنسي بوجهيه المظلم والمشرق ومحيطها من الثورة الفرنسية بفصولها المتناقضة وخصوصا كونها نصيرة الحريات والأنوار.

ينبهنا أستاذ الفكر المركب في مدخل بيانه إلى مقولة دالة للفيلسوف الإسباني أورتيغا إي غسي: “نحن لا نعرف ما يحدث لنا وهذا بالضبط هو ما يحدث لنا”.

عينُه على فرنسا انتقلت من أمة إنسانية إلى شعب يضيق بالآخر، نعم لهذا أمثلة في الماضي عند عديد شعوب خاصة في فترة الأزمات، لكن الانفراجات جاءت، ومنذ تشريع اللائكية بقانون 1905، احتدت المواجهة بين فرنسا الجمهورية، مناصرة دريفوس، والاجتماعية، وأخرى داعية لعودة الملكية وحظوة الكنيسة وطرد اليهود. ثم مرحلة موالاة الفاشية ومناهضة الشيوعية، وبعد هزيمة 1940 وصول المارشال بيتان إلى الحكم والاستسلام للنازية. عقب التحرير اندرج اليمين التقليدي في خط قبول قواعد الديموقراطية متمسكاً بالنهج الرأسمالي، بينما مثلت الشيوعية للبعض سبيلاً للخلاص متغاضين عن شمولية النظام السوفياتي.

تعايش الطرفان الشيوعي والديغولي، ثم تغوّل اليمين المتطرف في نهاية حرب الجزائر، ظلّ ينمو في انغلاق للهوية الوطنية، ومناهضة للمهاجرين غذّته موجة الإرهاب. يلتحق بهذا أخيرًا الأزمات الاقتصادية المتكررة وضيق أفق الأمل، ثمّ الوضع الوبائي وتبعاته، ما ولّد مخاوف مريعة وردودَ فعل شوفينية موروثة عن الحقبة الاستعمارية.

مخاوف بل هيجان يمثله المُساجل إيريك زمور، يَعدُّه موران استمراراً لجان مورا، ومنظرَ اليمين الرجعي سبق أن اعتبر فرنسا مهدّدة بالغزو الأجنبي غافلاً عن تعدّدها الإثني ومتبنياً أسطورة القوميات الحديثة القائمة على التطهير الجنسي.

أزمة فكر

يرى موران أن الأزمة شاملة وأكبر من إشكالية الهجرة، ومن انهيار أو تفكك أحزاب اليسار، ومعضلة الديموقراطية، وتورّم الدولة البيروقراطية، ولا هي في منظوره أزمة حضارة وإنسانوية، بل يراها أبعد ممثلةً في أزمة فكر.

بدأت منذ هيروشيما ونقلت البشرية إلى عهد جديد، فامتلكت تسع دول السلاح النووي ومعه أصبح العلم مفتاح تقدم البشرية أداة لموت كل الحضارات، هكذا كشفت العقلانية العلمية عن وجه لا عقلاني.

مع تقرير البروفيسور Meadowsعن “حدود النمو” (1972) تشكلت الأزمة الإيكولوجية لكوكب الأرض، وتبيّن معها كيف أن التقدم التكنولوجي يقود بالعكس إلى الهلاك. زد عليه المهووسين باستدامة الحياة باختراعات لهزم الموت، وصولا إلى وضعية البشرية خلال كوفيد 19 وما جره عليها من ويلات متشابكة الأطراف وأعاد النظر في مفاهيم اقتصاية عولمية تزايد معها الانغلاق الهويّاتي والبحث عن ضحايا عابرين.

يعرّف موران الأزمة بأنها خلل يلحق نظامًا مستقرًا، ويمكن أن تُحلّ بطرق محافظة أو إصلاحية أو ثورية، كذلك بتركيب جديد بقديم، بيد أن المجتمعات الحديثة لا تتوفر على ضوابط مستقرة ترتبط بنمو اقتصادي مستمر ما يتسبب ذاتُه في الكارثة الإيكولوجية جوهر أزمة الحاضر، فيما وَقْفُ النمو يمكن أن يؤدي إلى انهيار مثل 1929 قاد نحو النازية فالحرب. أما الحل، فلا يأتي إلا بالتحكم في نمو لا يلوّث ويدمر، وبآخرَ مُنقذٍ وخلاق. داعيا ًإلى عدم الانصياع للمفهوم (الخطّي) والميكانيكي للآتي، وتعويضه بمستقبل نتوقعه، إذ لا يمكن الإفلات من الشكوك، وما المعرفة إلا سباحة في محيط من المجهول. لم يتوقف موران عن البحث عن حلول لمشاكل البشرية، وحول أزماتها الأخيرة وضع كتاب “لنغيّر الطريق” لتجاوز ما هو أكثر من ذي طابع اقتصادي والوصول إلى الطابع الأنتربولوجي المميز للمغامرة التي نعيش راهنا. كما أنها ليست إجراءات مراقبة السكان ما يُصلح أمورهم فهي إنما تصنع مجتمع الخضوع. كيف الاهتداء إلى ما يساعد البشرية على هزم مصاعبها المتفاقمة؟

إصلاح الفكر

يذهب موران من تشخيص الداء إلى اقتراح الدواء، ويكمن عنده في إصلاح الفكر بتجاوز منطق أرسطو المتطابق مع الحقيقة والخاضع لبراديغم ينظر إلى الكون مجزوءاتٍ معزولة عن سياقها، فيدعو إلى جمع المتعارض بتكامل، وإلى إصلاح التعليم بتبين أخطاء وأوهام المعرفة، وربط المعزول بنقيضه، والمنقطع بالمستمر. أما الأوطان فينبغي ربطها في ما بينها عائليا ودينيا وقوميات ودمجها في التراب الأرضي للوطن، وفي آن هو يؤمن بالتعدد ضمن الوحدة، وبأن التاريخ لا يمشي في مسار طولي، بل بانزياحات ما تلبث أن تصبح تيارات. من ثم لا توجد في نظره عقلانية أحادية البعد، هي عقلانية وشيطانية وماركسية وشكسبيرية؛ شأن الحقيقة متعددة المصادر بين الفرد والمجتمع والنوع. هي دعوة للوعي بأن البشر ثنائي، وأن الكائن غير مستقر ويؤمن بالتناقضات، قادر على الخير والشر معا. المطلوب إذن برنامج لإصلاح الفكر وإنقاذ البشرية، بالطبع يبدأ من بلده فرنسا ومن ثم أوروبا والبشرية جمعاء، شروعا بتأهيل سياسة للبيئة وأخرى للمدينة، وسياسة ثالثة للعلم القروي، واعتماد مبدأ التكافل.

يمكن اختصار البرنامج الإصلاحي لصاحب الفكر المركب في شعار الاستنهاض والنفير الذي عنون به كتابه:” réveillons-nous”(لنستيقظ) والمعنى أننا نيام، أول شروط اليقظة إصلاح المؤسسة التربوية انطلاقا من إنعاش اللائكية، وتقوية النقد والنقد الذاتي. يوازيه إصلاح الدولة بتشذيب بيروقراطيتها، فيما يبقى الجوهري عند مفكر مستنير لا يقنعه الظاهر انتهاج سياسة حضارية تواجه العيوب الفادحة للحضارة الراهنة لما علق بها من مساوئ قطعت أواصر التضامن العائلي، وغوّلت الرأسمالية بتسليع جماعي، وهيمنة الأدوات الأوتوماتيكية على التواصل والحياة اليومية. إن المبتغى هو سياسة لحضارة جديدة تعيد إنسانية الإنسان وألفتَه، وتُربّي على الاستقلال الذاتي وحسّ المسؤولية ونبذ الأنانيات.

لا يستهين صاحب النداء العالي للاستيقاظ بمصاعب برنامجه الإصلاحي، ومن يمكن أن يجرحوه بمثاليته، فيواجه الجميع هو من تشرّب حكمة وتجاربَ قرن من المعرفة والعُسر واختبارات الزمن بين حربين هائلتين ونضالات في مختلف الجبهات من أجل الحق الإنساني؛ لا يستسهل مهمة ما يدعو إليه فيشهَر سلاحا ناعما وناجعا، كأنه غاندي جديد، سلاح الأمل بواسطته نستشرف المستقبل ونمضي قُدما.

موراني
المفكر إدغار موران

نعم، إننا نصطدم بعجزنا أمام تحدي القضاء على الموت والشقاء، لكن لا ينبغي أن يَحُول هذا دون الإيمان بحتمية تحسين حياة الأفراد والجماعات والعلاقات عامة بين بني البشر. كذلك، الاقتناع بضرورة قيمة التنوع والتعددية، ولحم أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل في بنية مركبة، بما ينسجم مع المنهج المركب لهذا المفكر. لكننا نراه أيضا يفكر بمخيلة شاعر، فلا يكبّله العقل ولا تقييد العقلانية. وكما يعطي لنفسه فسحة الأمل فهو يُركّب للعقل جناحين حين يدعو إلى الإيمان باللاّ متوقع، هذا الأفق الشاسع من التطلعات والانتظارات، يراها في حدوث لحظات خارقة وحاسمة في تاريخ الإنسانية تغيّر مجراها تهتز لقوتها العقليات المستسلمة وتنبثق إرادات لإنقاذ الأرض مثل ما نادى به المفكر الفرنسي الجديد برونو لوتور في دعوته لما سماه” النزول إلى الأرض” لمعرفة مصير البشرية وهي عرضة للخطر وذلك بالعمل على تحويل النوع البشري إلى نوع إنساني، فالتقدم المادي يُخفي المهالك أيضا ولا أن تُعمي الإنسان عن عاهاته، وإلا فإن القوة، حسب باسكال، تورث العجز. بيد أن سلاح الأمل يقوده تصورٌ ورؤيةٌ للعالم شمولية، هنا حيث يعانق العقل الحلم مرة أخرى، ويذهبان يدا في يد لإنقاذ البشرية. لننتبه كيف أن إدغار موران يريد أن ينفي عنه كل نزعة رسولية، حين يحملنا المسؤولية داعيا إيّانا: لنستيقظ!

المصدر: النهار اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى