الرئسيةثقافة وفنون

من هو هذا الكاتب الذي يجرؤ على الادعاء أنه يكتب من خارج ذاته…سعيد منتسب يكتب: إنكار السيرة الذاتية !

بقلم سعيد منتسب

هل هناك كاتب تغادره سيرته الذاتية حين يشرع في الكتابة؟ ومن هو هذا الكاتب الذي يجرؤ على الادعاء أنه يكتب من خارج ذاته، وأنه يرتفع كل الارتفاع عن جروحه الصغيرة؟
هناك من الكتاب من يؤمن بأن الكتابة تنبني أساسا على الوصول إلى “كبح المونولوغ الداخلي”، بينما يرى آخرون أنها ليست قصدا القارب الذي نمتطيه، بل اليابسة التي نتطلع إلى وطء أحجارها. غير أن هذه الفكرة لا تبدو في حالة جيدة إذا علمنا بأن الكتابة، أي كتابة، تتحقق أو يستمر تحققها، بالاتكاء على الذات. لا شيء بإمكانه أن يفك ارتباط الكاتب بذاته، وأفكاره التي يهجس بها، ومطامحه وشواغله، وأحاسيسه وأحلامه وتوهماته وخيالاته وتأملاته.

إن الكتابة ليست “صيغة سهلة”، ولا تتأسس بأي شكل من الأشكال على الخروج المبكر من الذات وتعقيداتها، أو على الاكتفاء بالحد الأدنى من الديكور ليظهر النص، حينئذ، طبيعيًّا وغيريا (موضوعيا). فالسعر باهظ إذا كان الكاتب يبتكر مبررات للتبضع من الأسواق المجاورة عوض أن يجعل من الذات مقدمة لكل إغواء أدبي. ولعل أي تصرف على هذا النحو لن يسمح باختراق الأشياء كما يجب، أي أن يكلمها بعُدّةٍ ذاتية مدربة. ذلك أن تعميق الاتصال بها (إبداء الرأي حولها وقياس أوقاعها وأحجامها وأشكالها) هو ما يُخرج النص من حشود المألوف نحو الغرفة العلوية للابتداع. أليس هذا الخروج هو المنطق الأسمى للكتابة؟
تبعا لكل ذلك، فإن إهمال الذات أو التنكر لها مجرد خدعة مستحيلة، وهذا ما ينتبه إليه أومبرطو إيكو حين يقول إن “كلّ رواية هي سيرة ذاتيّة. فعندما تتخيّل شخصيّة فإنّك بذلك تكسبها بعض ذكرياتك الشخصيّة. إنّك تعطي جزءا من ذاتك إلى شخصيّة مّا وجزءا آخر لشخصيّة أخرى. وبهذا المعنى لا أكتب أيّ نوع من السيرة الذاتيّة، لكنّ الروايات هي سيرتي الذاتيّة، وهناك فرق”.
يتحدث إيكو هنا عن شيء بالغ الأهمية في الكتابة هو الإلباس (الإسقاط)، ليس بالمفهوم النفسي الذي يجعل من العملية حيلة دفاعية لاشعورية تلصق النقائص والرغبات بالآخرين، بل بالمعنى الذي يجعل من العملية الإبداعية ملتقى واعيا لما راكمته الذات من خبرات وردود أفعال وأحاسيس وأفكار وخيبات وأفراح وأتراح. لا أحد يستطيع أن يضع أحشاءه على الرف ليكتب، وليس بوسع أحد أن يتأبط الصحراء لتنقاد له الأحداث والفضاءات والأزمنة والشخصيات. من المستحيل أن يجد الكاتب مكانا يعيش فيه خارج ذاته. إننا نكتب ونحن نستخدم تلك الارتباطات مع الذات والذاكرة دون أن نساوم في ما هو حقيقي أو زائف. إننا، بمعنى آخر، لا نحاكي، بل ننزاح ونعيد ترتيب الأثاث على النحو الذي يساهم في توسيع المكان. وهذا ما نسميه التوليف، ذلك أن الموضوع الخيالي، حسب ما يراه الفيلسوف إيف ميشو، يتطلب دائما التوليف. كما أن “الذاكرة يمكنها أن تكذب أو تنهار. فعندما يغيب عنها أن تعاين مختلف ما حدث ويحدث للفرد، فإنها تختفي، أو يجب عليها توليف ما حدث في مكان آخر: من قبل أولئك الذين يعرفونه، والذين يتذكرونه، في الذكريات أو السيرة الذاتية”. ولهذا نزعم أن التوليف شيء حيوي، ولا يمكن الاستغناء عنه أثناء الكتابة، ذلك أن الذاكرة تشتغل بالملء والإفراغ، بالنسيان والانتقاء، وأحيانا بالتوهم.
فبصرف النظر عن قوة إغراء الحقيقة، لن يجازف أي كاتب بتدمير فرصة تمكين نصه من الانسيابية بالاعتماد على ما لا يراه أو يحسه، حتى لو اضطر إلى النظر إلى نفسه من الخارج، أي حتى لو نجح في موضعة ذاته. فقد أثنى النقاد، مثلا، على ريموند وليامز بسبب “إحساسه بنفسه وقدرته على النظر إليها كما لو من الخارج، لكن المرء يستطيع أن يرصد أحيانًا نبرة دفاعية تقريبًا في الطريقة التي يسند بها التلميحات المتعلقة بالسيرة الذاتية بالتنصل من المسؤولية. وحين ناقش قرية طفولته الجبل الأسود في كتابه “الريف والمدينة”، عبّر وليامز عن خصوصية ارتباطه بها قائلًا: “يشعر كثيرٌ من الرجال بهذا، بأمكنتهم الأصلية”.
وهنا، يتبين أنه من الخطأ القفز على الخبرة الذاتية حتى لو كان الموضوع غير أصلي، ذلك أن الكتابة الناجحة هي التي تمنحه هذه الصفة، وهي التي تجعل “غير الأصلي” يتصرف في النص على نحو مختلف. إن الذات تخمن وتتوقع و”تقيس على الغائب” وتُزَوِّر وتُرَقِّع وتحجب وتخفي وتطمس وتُكثر.. إلخ. تفعل كل ذلك، لأنها تدرك أن سيرة ما تسبقها وترشدها إلى هذا الأفق أو ذاك. ومن هنا يحق لنا بقوة التخييل أن نتساءل: من أي أفق غير السيرة الذاتية، سواء أكانت ذهنية أم فكرية أم اجتماعية، تأتي استراتيجيات التوقع؟ وما الذي يتيح لأي جملة معبرا ممكنا للجملة التي تليها؟

هناك كتاب متمرسون يكتبون بـ”الإضبارات” و”الخطاطات”، ويصممون نصوصهم على مقاس قواعد موضوعة سلفا، لكن ما يمنح الإشارة الفعلية لكل نص هو المهمل في الزقاق الخلفي للسيرة. وهذا ما يسمح بالقول إن الذاكرة هي فرصة النص الوحيدة، وأنها هي الزاد الذي يسمح له باكتساب بعض الوزن، رغم أن الغاية ليست هي الانغماس في الطعام.

وتبعا لكل ذلك، إن ما يعطل الاتهام بالذاتية أو عدم القدرة على التخييل هو حقيقة النص التي تنبذ “الحقيقة” أو “الاقتفاء” (المحاكاة) لصالح حقيقة أخرى مضادة تطفو دائما من السيرة لتغمر كل الاستراتيجيات المصطنعة الأخرى. إننا نكتب بالسيرة حتى ونحن نريد التحرر منها. هذا هو الاختبار المذهل الذي تمنحه لنا الذات دائما.

المصدر: جريدة الاتحاد الاشتراكي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى