منها الاعتراف الجماعي بالأخطاء…محمدالساسي يكتب: النقاط العشر لبناء اليسار
عملية إعادة بناء اليسار تتطلب، ربما، النهوض بسلسلة من الالتزامات، منها على وجه الخصوص :
أولاً – تقديم عرض سياسي جديد : إن مشكلة اليسار ليست، فقط، مشكلة بلقنة، حتى يمكن التغلب عليها بتكتيل أو تجميع الهياكل القائمة بأسمائها ومسمياتها، وليست مشكلة تواصل أو ضعف في تسويق المشروع أو خصاص في الوضوح الإيديولوجي. إنها مشكلة نخب وتعهدات لم يتم الوفاء بها، واستسلام لحالات من الضعف الإنساني. ولذلك يتعين البدء بإنجاز توافق على أرضية نضالية تعيد الاعتبار للسياسة كتعاقد وكخدمة نبيلة، وتضع حداً لسنوات من الغرق في مستنقع البراغماتية المطلقة وخدمة الاستراتيجيات الفردية والتسامح حيال طبيعة الوسائل المستعملة وانتظار الإشارات…
ثانيا – الاعتراف الجماعي بالأخطاء : علينا الإقرار بأننا أضعنا سلسلة من الفرص التاريخية ودخلنا تسويات قَوَّتِ السلطوية عوض أن تضعفها وسمحت لها بفتح أقواس وإغلاقها، وتنازلنا عن مطالب ديمقراطية أساسية.
المسؤولية عن الأخطاء قد تكون متفاوتة ولكنها، في كل الأحوال، جماعية، ولا مجال للتشفي أو السقوط في ردود فعل حاقدة وانتقامية.
جزء من اليسار فشل في تحويل “التناوب التوافقي” إلى انتقال ديمقراطي وانتهى به المطاف، في ما بعد، إلى قبول المشاركة في الحكومة من أجل المشاركة، فقط، وفي خضوع شبه تام لبرامج الآخرين.
وجزء آخر من اليسار فشل في خلق البديل ولم يتجاوز، كثيراً، حدود نقد تجربة الجزء الأول.
ثالثا – الثقة في الشباب وفي المستقبل : أبان حراك السنين الأخيرة أن مجتمعنا يزخر بطاقات شابة مبدعة في السياسة وذات اقتدار وإقدام وحصافة. والمفروض أن حكمة الرموز التي قادت المراحل السابقة، بنجاحاتها وإخفاقاتها، ستدفعها إلى جعل مساهمتها، في عملية إعادة البناء، قائمة، أساساً، على التبريك والدعم والتحفيز، وإفساح المجال أمام الأجيال الجديدة لتتولى هذه الأجيال، نفسها، قيادة مسلسل الانطلاقة اليسارية الجديدة.
رابعاً – التمسك بالتواضع : وهذا يعني أن أي إطار تنظيمي من الإطارات القائمة لا يمكن له أن يدعي بأنه هو من سيتولى الإشراف على عملية إعادة بناء اليسار وبأن “الوحدة” المرتقبة ستتم داخله.
هناك حاجة، ربما، إلى تجميع البُنَاةِ المتطوعين مع عُدَّةِ وعتاد البناء في عنوان جديد يصبح قبلة لاحتشاد النشطاء المدنيين والفعاليات التقدمية الحية والمناضلين المسكونين بهاجس صيانة نقاء الفعل السياسي والملتزمين بالمثال اليساري وبالقواعد المتعارف عليها، عالمياً، لتنظيم المنافسة الديمقراطية وتغليب المصلحة العامة.
خامساً- الدفاع عن الاختيار الثالث أو الطريق الثالث : أي ارتضاء التعبير عن الفئات من الشعب المغربي، وما أكثرها، التي لا تجد نفسها :
– في مشروع اليمين الأصولي المحافظ الذي يرفع شعار الإصلاح، وقد ينجح في اتخاذ إجراءات إصلاحية محدودة ولكنه، في العمق، يكرس الجمود الفكري والديني ويمنح السلطوية كل ما تريد من أدوات قانونية ومؤسسية لخنق الأنفاس وقمع الحريات، مقابل منافع ذاتية لحزبه، ويُبْقِي على استعمال الوصفات القديمة في معالجة مشاكل المغرب الكبرى رغم فشلها في الماضي، ويتعمد الامتناع عن بذل أي جهد يضمن تقدم المجتمع، طمعاً في أصوات انتخابية زائدة، ويستمر في طرح تعارض مفتعل بين الهوية الوطنية والدينية، من جهة، والقيم الإنسانية، من جهة ثانية، ويمارس الاستعلاء وبيع الأوهام والجمع بين المتناقضات.
– ولا في مشروع تجديد السلطوية والتحكم، الذي يرفع شعار الحداثة، وقد يظهر بمظهر المدافع عن بعض مظاهرها المحدودة، ولكنه، في العمق، يتجاهل جوهرها السياسي ومتطلباتها المؤسسية والأخلاقية ويتصرف على وجه مخالف لها ويحولها إلى مجرد سلاح تاكتيكي لمحاربة الإسلاميين فقط، ويمارس معارضة لامسؤولة ومتحاملة، ويمنح نفسه، أو يقبل بأن يُمنح، امتيازات مخلة بمبدأ التكافؤ في الفرص بين الفرقاء السياسيين.
سادسا- النضال من أجل إرساء نظام الملكية البرلمانية، الآن، ورفض أي مشروع لتأجيل أو تعليق أو تقسيط الديمقراطية أو لاعتبار الاستقرار الهش بديلاً عنها.
سابعا- محاولة تشخيص روح حركة 20 فبراير، كما تجلت في مبادرات نواتها الأصلية، عبر العمل على رفع الوصاية عن الشباب، والاستمرار في هدم جدار الخوف وجدار الصمت، واحترام ذكاء المواطنين، ورفع وتيرة النضال ضد الفساد والاستبداد وضد استعمال السلطة في خدمة الثروة، والاستفادة من تجربة الحركة وفتح المسالك القادرة على ضمان امتداد روح الحركة إلى أكثر ما يمكن من الحقول والميادين والمؤسسات.
ثامنا- ضمان نظافة الوسائل في السياسة : وذلك من خلال الحرص على تجنب استعمال الوسائل المخالفة للمبادئ الأخلاقية ولمنطق السياسة كخدمة عمومية وآلية تعاقدية. ولهذا، يتعين رفض جلب أعيان الانتخابات المنحدرين من أحزاب إدارية، ورفض خطط الحصول، بأي ثمن، على أكثر ما يمكن من المقاعد، ورفض احتياز امتيازات غير مستحقة أو المس بحقوق الآخرين أو القيام بتحالفات هجينة أو التطبيع مع الأحزاب الإدارية قبل حصول مؤشرات ملموسة على طي صفحة ماضي هذه الأحزاب من خلال مسلسل للحقيقة والاعتذار وجبر الأضرار وتقديم ضمانات على عدم تكرار الانتهاكات التي تورطت فيها الأحزاب المعنية واستبعاد مشاريع التحكم من أعلى في الأحزاب وسياسة إرشاء النخب.
تاسعاً : احترام المعايير المتعارف عليها، في المجتمعات الديمقراطية لشغل موقع المعارضة أو موقع المشاركة، وذلك بربط هذه الأخيرة بضرورة توفر أغلبية منسجمة ومتفقة، مسبقاً، على برنامج مشترك، معلن عنه قبل الانتخابات، ودستور يمنح الحكومة وسائل تطبيق برنامجها ويضع القرار بين أيدي المنتخبين حتى يُضمن ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعلى أساس أن يشخص البرنامج المطبق على الأرض التوجه التقدمي اليساري وألا يتم، في الممارسة، تجاهل الشعارات السابقة وأن يتم القطع مع تسييد “برنامج الدولة القار”.
قرار المشاركة أو المعارضة يحسم فيه الناخب ويُستخلص من المنطق الموضوعي لخريطة النتائج. وإذا فرض الناخب على اليسار أن يبقى في المعارضة، فيتعين أن يمارسها بحس أخلاقي وبروح المسؤولية، متجنباً سلوك التحامل ومتتبعا لكل حقول اتخاذ القرارات التدبيرية ورافضاً تحويل المعارضة إلى أداة في خدمة مراكز النفوذ.
عاشراً- بناء حزب من طراز تنظيمي جديد : حزب يعترف بالتيارات ويقبل بتعايش الرأي والرأي المخالف، داخله، ويمنح أعضاءه ضمانات بأن اللوجستيك الحزبي لن يُوضع في خدمة طرف دون طرف، ويقبل بنوع من الرقابة الخارجية على تدبير مساطر مؤتمراته وسلامة سير التباري الداخلي.
كاتب النقاط العشر، هو بالذات أحد المنظرين الذين ساهموا في بلقنة العمل السياسي بالمغرب. بانتقالهم المتوالي من عدة إطارات سياسية، دون تقديم اضافات مقنعة. كما أنه من خلال النقاش مع بعض الأصدقاء حول هاته النقاط العشر، تبين لي منها، إنه لم يستطع تقديم إضافة منعشة وجاذبة لنقاش عميق للحالة السياسية في البلاد في ارضبته الجديدة.