خطاب ترامب: النرجسية الخرقاء
تختلف السياسة الأمريكية عن نظيرتها الأوروبية في كونها، رغم تبادل السلطات بين الديمقراطيين والجمهوريين، تظل تتجسد، خارجيا، من خلال مقومين مركزيين: تحقيق الحلم الأمريكي في الهيمنة على العالم. والتنافس على أيهما أكثر دعما وتأييدا للصهيونية في الشرق الأوسط. وهذا المقوم جزء من ذاك. لذلك لا نجد فرقا بين الحزبين المتناوبين على السلطة السياسية في أمريكا.
فلا يسار ولا يمين يختلف عن الآخر في رؤية العالم، وتقديم بديل مختلف. إنهما معا تجسيد واختزال لليمين المتطرف في أوروبا. لكنهما حسب شخصيات الرؤساء لا يختلفان إلا في طريقة تصريف أفعال الكلام، التي تتبدى من خلال خطاباتهم حسب المقام والسياق قوة وعنفا، أو ليونة ونفاقا.
نلاحظ هذا بجلاء بصورة أوضح مع تداعيات «طوفان الأقصى». كان ترامب قد حرك قبل خروجه من البيت الأبيض مسألة تطبيع بعض الدول العربية مع إسرائيل، وكانت السعودية قاب قوسين أو أدنى. وجاء الطوفان، الحدث الأكبر، في ظل بايدن، فتوقف المسلسل، ووضع على الرف. وظلت أمريكا والغرب يدعمان إسرائيل في حربها الإبادية والاستئصالية للقضية الفلسطينية.
ورغم ما كان يلوح من خلافات مؤقتة مع نتنياهو، وبالخصوص حول الأسلحة، تحت تأثير رد فعل الضمير العالمي، الذي كان يمثله الطلبة في أمريكا، أو بعض المواطنين في الغرب، الذين كانوا يتظاهرون استنكارا للجرائم الصهيونية، فقد كانت المشاركة الأمريكية وبعض الدول الغربية في تدمير غزة واستهداف المدنيين واضحة ومكشوفة. وقد أعطى هذا الدعم فرصة لنتنياهو، وهو يعمل في أوج الحرب التي يخوضها هروبا إلى الأمام، إمكانية جرجرتها في اتجاه تصعيدها واستمرارها، إلى حين انتخاب ترامب الذي كان يعول على شعبويته في إطلاق يديه لتحقيق ما كان يتحدث عنه كل منهما عن الشرق الأوسط الجديد، وإسرائيل الكبرى.
أبرزت المقاومة الفلسطينية صمودها واستبسالها في المواجهة والتصدي، وما كان لاغتيالات القيادات الفلسطينية واللبنانية، عكس ما كانت تتوقع الآلة الصهيونية، إلا تقديم التعبير الصريح على أن القضية الفلسطينية لا تتعلق بشخصيات، ولكن بشعب ووطن وأرض، فكان التماسك والتضافر أكثر قوة مما مضى، رغم قساوة الظروف، وضغط الإكراهات، وبدأ ذلك يؤتي أكله على مستويات عدة. فرضخت الصهيونية للهدنة مع حزب الله، ولم تتمكن من إعادة مستوطنيها إلى الشمال، كما كانت تعد بذلك بالقوة الجهنمية التي فرضتها على الجنوب.
وفي السياق نفسه ظلت المقاومة الفلسطينية تثبت جدارتها في التصدي لكل ادعاءات تحقيق أهداف «النكبة الكبرى» التي وعد بها نتنياهو. فلا الرهائن استرجعوا، ولا حماس تم القضاء عليها. وظلت غزة تقدم الدليل على أن كل أوهام الصهيونية تتبخر باطراد. وكانت العودة إلى جباليا وغيرها في كل مرة دليلا على أن خططها فاشلة. وكان الاستنزاف، وتأكيد أن تحرير الرهائن بالتدمير الوحشي لا يمكن أن يؤدي إلى أي نتيجة.
جاءت الحملة الانتخابية الأمريكية، وهي ما كان ينتظرها نتنياهو لتحقيق حلمه وأهدافه. كانت خطابات ترامب الدعائية «تصرح» بضرورة إنهاء الحرب، واستعمل عبارة «جحيم» الشرق الأوسط، التي ظلت ملتبسة، وأمر بإيقاف الحرب مخاطبا نتنياهو بلهجة صارمة. لم يكن أمام نتنياهو إلا الاستسلام، طائعا في رأيي، رغم معارضة بن غفير وسموتريتش، اللذين هددا بالاستقالة.
لقد وجد نتنياهو في تلك اللهجة الصارمة القشة التي يتستر بها أمام صمود المقاومة، الذي أكد له بالملموس وعلى مدى خمسة عشر شهرا أنه لن يحقق أيا من مبتغياته وأهدافه مطلقا. فكان التستر من خلفها لبعث مفاوضيه من أجل الهدنة، ليس إحراجا له لأنه ضد تعنته، ولكن كان إنقاذا له من الاستمرار الذي لن يكون لفائدة طموحه في أن يكون الرئيس الإسرائيلي الذي حقق لإسرائيل ما لم يفعله سابقوه.
بدأت الهدنة مع تنصيب ترامب، الذي عمل على توقيع روزنامة من المراسيم في حفل التنصيب، الذي كان في تصوري دالا على اختصار ما وصلت إليه أمريكا من بدايات التدهور، فعمل خطابا أشبه بالخطب العصماء، التي تجسد أولا نرجسية خرقاء في رؤية العالم، وثانيا في ادعاء استرجاع العصر الذهبي الأمريكي.
بدا ذلك سيميائيا في طريقة خطابه، ولغته، وحركاته. وكلها دالة على افتعال قوة لم يبق ما يبرر استمرارها في واقع متحول بدأت فيه أمريكا تبدو قابلة للتجاوز في أزمنة قريبة. استمعت إلى خطابه جيدا، فبدا لي أنه عبارة عن «أحلام يقظة» مستثمر جشع يخطط للعالم كما يحلو له. له أن يدعي أنه سبب الهدنة، وأنه من أوقف الحرب. لقد بات جليا للعالم أن تلك الحرب باتت مهزلة صهيونية ـ أمريكية، ولن تحقق أهدافها بما تم التخطيط له.
له أن يدعي أنه جاء لإنهاء الحروب، ولكن الواقع يثبت حضوره لإشعال حروب أخرى يستهدف فيها الأمة العربية وشعوبها، ويقدم خدمات واضحة للصهيونية عجزت عن تحقيقها عسكريا.
لا يختلف ترامب عن بايدن ونتنياهو إلا في الخطاب، وسيميائياته بخصوص القضية العربية الأولى.
لقد بدأ، وهو المدعي إيقاف الحرب، بإعلان هشاشة الهدنة مع حماس، وأنه ليس متأكدا من صمود وقف إطلاق النار؟ وبإلغاء العقوبات على المستوطنين، ثانيا، وبفرض العقوبات على موظفي المحكمة الجنائية الدولية، ثالثا، وبرفع الحظر عن الأسلحة الموجهة إلى إسرائيل، رابعا.
وها هو أخيرا كمنعش عقاري متكالب، يطالب الأردن ومصر باستيعاب الفلسطينيين. وكمتسول حقير يطلب من السعودية استثمارات بمليارات الدولارات. هذه هي النرجسية الخر