
من الكتابة التاريخية الوطنية إلى الكتابة التاريخية الاجتماعية3/1
بقلم: علال بنور
تروم هذه الدراسة، إلى النبش في بعض عناصر مكونات كل من المدرسة الوضعانية والمنهجية والوثائقية بأوربا في علاقتهم بمدرسة الحوليات الفرنسية، وفي علاقة هذه الأخيرة بالكتابة التاريخية المغربية. للبحث في هذه العلاقات يلزمنا طرح الاسئلة التالية: هل انطلقت مدرسة الحوليات بفرنسا من نقد المدارس التاريخية السابقة الذكر؟ وهل تراكم الكتابات التاريخية اليوم بالمغرب، يؤسس بالضرورة لمدرسة تاريخية؟ تأكد، من خلال دراسات ومقالات مؤرخي مدرسة الحوليات، أن مدرستهم تأسست بناء على الانتقادات التي وجهتها للوضعانية والمنهجية والوثائقية على التوالي، وظروف الأزمة الاقتصادية لسنة 1929 ثم الوضع العام ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
هذه المدارس، عرفت اشعاعا في أوساط مثقفي ألمانيا أواخر القرن التاسع عشر، مستمرة الحضور إلى بداية القرن العشرين.

كما ستوجه مدرسة الحوليات نقدا للمدرسة الماركسية، لكنها لم تدخل في جدال مع المدرسة الاقتصادية بالولايات المتحدة الامريكية ولا مع المدرسة الإيطالية التي عرفت بالتاريخ السلوكي المجهري.
تأسيسا على ذلك، نطرح سؤالين، هل أثرت مدرسة الحوليات في المؤرخ المغربي؟ هل استطاع المؤرخ المغربي باحتكاكه منذ السبعينيات من القرن الماضي بمدرسة الحوليات، تأسيس مدرسة تاريخية مغربية؟ هل يمكن للمؤرخ المغربي بانتقاداته وتفكيكه للاستوغرافية الكولونيالية تأسيس مدرسة تاريخية؟
قبل الحديث عن الكتابة التاريخية المغربية، في رصد مراحلها الكبرى مع الإجابة عن سؤال المدرسة المغربية، تدعو الضرورة المنهجية، الإشارة إلى بعض أساسيات المدارس السابقة الذكر.
1/ الكتابة التاريخية الأوربية بين القرنين 19م 20م:
المدرسة الوضعانية في التاريخ:
ارتبطت في بدايتها بعلم الاجتماع مع “اوغست كونت” خلال القرن التاسع عشر. تقوم على أساس المنهج التجريبي للمعرفة – ترفض التفسير الميتافيزيقي، مؤكدة على أن العلم وحده هو القادر على تشكل المعرفة الحق – تطبق نفس مناهج العلوم الحق على العلوم الاجتماعية، من أجل البحث عن قوانين اجتماعية – تشدد على ضرورة فصل الباحث عن احاسيسه وقيمه الشخصية اثناء الدراسة – ترى أن الحقيقة موجودة بمعزل عن الذات – تفضل البيانات الكمية لأنها قابلة للتحليل – تؤمن بالنزعة التجزيئية – التركيز على التاريخ السياسي والعسكري والدبلوماسي – متجاهلة دور المجتمع والظروف الذاتية – اختزالها التاريخ في قوانين جامدة. جردت الظاهرة الاجتماعية من رموزها وثقافتها – تجاهلها للسياقات التاريخية للوقائع والأحداث – حولت التاريخ إلى سجل جاف.
المدرسة المنهجية:
تركز على التحليل أكثر من النتائج – الاعتماد على الأدلة والبرهنة – الادعاء بالموضوعية والحياد – الاعتماد على تحليل الوثائق بطريقة نقدية – الاعتماد على التحليل السببي للأحداث – اعتمادها في تحليل الوثيقة على النقد الداخلي والخارجي – دراسة التاريخ عبر قوانين علمية – جمع الوثائق وتحليلها نقديا للوصول إلى الموضوعية – الاعتماد على الارشيفات – الدعوة إلى حياد المؤرخ أثناء اشتغاله على الوثائق – رفض تفسير التاريخ عبر الآراء الشخصية والعاطفية – تعتمد في تحليل وتفسير الأحداث على الأسباب المباشرة – الاعتماد على الهوامش لتوثيق المصادر والاستعانة بالرسوم المبيانية والجداول الإحصائية. إهمالها للعوامل غير المادية كدور الثقافة والفرد والذاتية – ادعاء الموضوعية بفصل المؤرخ عن سياقه الثقافي والفكري – تبسيط التاريخ.
المدرسة الوثائقية:
تقدس الوثيقة كأساس وحيد للمعرفة التاريخية – ترفض تدخل المؤرخ – ترفض المصادر الشفاهية والروايات الشعبية – الاهتمام بالجزئيات عند التحرير – رفض العلوم المساعدة للتاريخ – رفض السياقات الاجتماعية والاقتصادية مع رفض التفسيرات الكبرى للتاريخ – اعتبار الوثيقة الرسمية المصدر الوحيد الموثوق به لإعادة كتابة الماضي – رفض كل ما هو متعارض مع الوثيقة الرسمية – تعتمد النقد الداخلي والخارجي – ابعاد التدخل الذاتي للمؤرخ أثنا المعالجة لإعادة بناء الماضي كما حدث – ابعاد الاحكام الأخلاقية – الحياد والموضوعية المطلقة بمعنى على المؤرخ التخلي عن الآراء الشخصية والعاطفة الوطنية – الاعتماد على التحليل الدقيق للوثائق للوصول إلى الحقيقة الموضوعية – إعطاء أهمية للتاريخ الحدثي في بعده السياسي والعسكري والدبلوماسي – الاهتمام بتاريخ النخب – عدم الاهتمام بتاريخ الشعوب في بعدها الاجتماعي والاقتصادي، تبرر ذلك بعدم توافر ارشيفات و وثائق رسمية.
مدرسة الحوليات:
قبل أن تبرز كمدرسة تاريخية أسس روادها مجلة عرفت ب (مجلة حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي) التي اعتبرت الأساس والمنطلق لرواد مدرسة الحوليات والتي كان سندها (مجلة التركيب التاريخي) التي أسسها المؤرخ بير هنري سنة 1900 والتي كانت تضم أساتذة كبار منهم: اميل دوركايم المتوفى 1917 والجغرافي بول فيدال دو لبلاش المتوفي 1918.
تحولت مجلة حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي إلى مدرسة تاريخية، خلقت ثورة في الكتابة التاريخية.
ما هو السياق العام الذي ظهرت فيه مدرسة الحوليات؟ احتكاك روادها الأوائل بأفكار مؤسسي مجلة التركيب التاريخي، كما تزامن وجودها مع انطلاق الأزمة الاقتصادية لسنة 1929 م فاهتم مؤرخوها بطرح أسئلة والبحث عن أجوبة للازمة الاقتصادية، ثم مخلفات الحرب العالمية الأولى وبوادر الحرب العالمية الثانية، نتج عنها نهاية المركزية الاوربية.
وفي مستوى آخر ساهم الفكر الفلسفي الذي تبلور مع بداية القرن 20م إلى المساهمة في تغيير نظرة وتصور المؤرخ للقضايا الاقتصادية والاجتماعية في علاقتهما بالأنظمة السياسية، وبالتالي ساهم في فتح آفاق جديدة لموضوع التاريخ بعيدا عن التاريخ الحدثي والنظرة الأحادية للفاعل التاريخي، وفي إطار بناء مناهج تاريخية، انفتحت مدرسة الحوليات على العلوم المجاورة التي عرفت التجديد والتطور، لذلك ارتبط البحث التاريخي بتلك التحولات، وفي ذات الوقت، وجهت مدرسة الحوليات انتقادات للمدارس التاريخية خلال القرن 19م ،التي أشرنا إليها سابقا.

وهكذا، مرت مدرسة الحوليات بأربع مراحل: الأولى مرحلة التأسيس مع مارك بلوخ ولوسان فيفر اللذان أسسا مجلة “حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي” سنة 1929. الثانية مرحلة من حوليات مناضلة إلى حوليات منتصرة والثالثة مرحلة التاريخ الجديد، والرابعة، مرحلة العودة إلى النقد. أما فكريا، فإنها تصدت بالنقد إلى المدرسة الوضعانية والمدرسة المنهجية والمدرسة الوثائقية.
ما هي خصائصها؟ عارضت المدارس السابقة الذكر، داعية إلى توسيع مجال البحث التاريخي، كما رفضت الوثيقة المكتوبة كمصدر وحيد، بمعنى توسيع مفهوم الوثيقة – أقامت ثورة على التاريخ التقليدي الذي يقوم على التاريخ الحدثي والدبلوماسي والسياسي والعسكري، التي سماها عالم الاجتماع الفرنسي “فرنسوا سيميان” بالأصنام الثلاث: التاريخ السياسي والفردي والكرونولوجي – دراسة الذهنيات والمخيال الجماعي والطقوس الدينية والمشاعر والجسد والحب والخوف والجنون والأمراض والأوبئة والمناخ والأزبال والنظام الغذائي وعادات وتقاليد الأكل والموت إلى آخره من الموضوعات المتعلقة بالإنسان- رفضها المطلق للفاعل الوحيد في التاريخ – دراسة التاريخ في شكل بنيات.
وبذلك اقتحمت مدرسة الحوليات حقول الانثروبولوجيا والسوسيولوجيا والجغرافية والاثنولوجيا، كما اهتمت بالتاريخ الاقتصادي والكمي لفهم الظواهر الاجتماعية – وسعت من مفهوم الوثيقة إلى السجلات والصور والنقوش والرواية الشفاهية والذاكرة الجماعية – اهتمت بدراسة البنيات والربط بين الماضي والحاضر لفهم الحاضر، وليس فقط لتسجيل الماضي – نقد التاريخ السياسي واخراجه من القدسية – اصبح المؤرخ يعتمد على تعددية المناهج، فميزت بين التاريخ وتاريخ المؤرخ، كما طرحت أسئلة وفرضيات جديدة مع استخدام مقاربات متعددة – دعت إلى تجاوز المركزية الأوربية لدراسة تاريخ شعوب أخرى – دعت إلى التكامل المنهجي بين العلوم، فهناك من سماها بالعلوم المجاورة للتاريخ كالاقتصاد والجغرافيا والانثروبولوجيا واللسانيات وعلم الاجتماع لدراسة المجموعات البشرية – الاهتمام بالزمن التاريخي الذي أسس له فرناند بردويل – اهتمت بالتاريخ الهامشي المتعلق بالحياة اليومية للنساء والأقليات – خلقت امتدادات عند المؤرخين في العالم نموذج المؤرخ المغربي.
مرت مدرسة الحوليات كما سبق الذكر بأربعة أجيال :جيل التأسيس وجيل من حوليات مناضلة إلى حوليات منتصرة وجيل التاريخ الجديد وأخيرا جيل العودة إلى النقد .سنقف قليلا عند جيل التاريخ الجديد الذي أسس له “جاك لوغوف” ورفاقه من المؤرخين وباقي المتخصصين في العلوم الإنسانية ، والذي أنبنى على عدة قضايا نذكرها باختصار:
– توسيع الثيمات التاريخية – دراسة الحياة الاجتماعية بما فيها المهمشين والمرضى – دراسة التاريخ الكمي لفهم الظواهر الاقتصادية في علاقتها بالمجتمع – الانفتاح على العلوم المجاورة وهناك من يرفض هذا المصطلح فيستبدله بمصطلح العلوم المندمجة مثل الجغرافية والاقتصاد وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا والجداول والسجلات الإحصائية والصور والخرائط – العودة إلى تعريف الوثيقة، التي لم تعد هي تلك الرسمية المختومة بطابع إداري، فتوسع مفهومها إلى كل السجلات من الولادات والوفيات والضرائب والاحصاء والأثار والنقوش والصور والسجلات الشفاهية و الخارطة.
يتبع…






