مجتمع

تفنوت: كلام في رحيل ابن حينا القديم../….الرفيق العذب  عبدالرحيم الخاذلي….2/1

الراحل عبدالرحيم الخالدي

كلام في رحيل ابن حينا القديم../….الرفيق العذب عبدالرحيم الخاذلي…./ ماأكبر الإنسان…مااعظم الأحلام…/…

كما جرت العادة ومنذ ماينيف عن سبع سنوات غير عجاف…بحثت عنه هذه الدورة بين أروقة معرض الكتاب …وبالضبط بجوار أو بداخل “دار الطليعة ” اللبنانية حيث اعتاد أن يكون هو وبعض من رفاق الحلم والفكرة الاشتراكية البهية…

يعرضون آخر إصدارات مجلة “التحرر” وما جرى طبعه من جديد الكتابات ذات الطبيعة النظرية والسياسية التي تعلن عن هويتها الاشتراكية الحمراء دون لف ولادوران…/ غير أني لم أجده هذه المرة؛ فاحسست بالحدس المنزعج أن أمرا جبارا تسلط واقفا أمامه فمنعه عن هذا الموعد السنوي الذي لا يفلت المجئ إليه بصحبة الرفاق…

حي بين المدن…ليس اسما علما كما هوحال إسم الاحياء الأخرى..إنه الإسم الدال على الموقع في الخرائط ….جغرافية كانت أو حربية…الموقع الذي يكون من الواجب على ساكنه والمنتمي لأركانه أن يصير مختلفا

لقد كان آخر إتصال لي به يعود إلى مايقارب الشهرين حين جرته نيران نكسة صحية إلى معركة قاسية كادت أن تختل فيها موازين القوة بين صلابته شبه اللاهوتية وبين اصرارها على الإيقاع به دهليز الغياب…إلا أن السماء كانت قد قررت الوقوف إلى جانبه مؤقتا …لينسل من عجينها كما تستل الشعرة من العجين…في اتصالي الأخير بهذا الفتى المعدني

وعبر الهاتف قابلني الصوت الجهوري الذي اعتدت سماعه منذ البدايات الأولى… صوت ملئ بالصدى البحري وبمستلزمات الصبر الذي لا يعترف بالاستحالات حتى ولو كانت من طبيعة قاتلة…عاد بي سريعا؛ وبقليل من الكلام النقي ليذكرني بمجد الكلمات الأولى وبعمق الحروف التي جمعتنا صداقة ورفاقة ونضالا رحيم…

وكم كان مصرا على مصارعة الشك المرادف لليأس وهو يحدثني عن العلاقات العائلية التي جمعتنا وعن رابطة الرفاق والاصدقاء في ذلك الحي الذي شاءت الصدف أن يحمل اسما يثير غرابة السامع له لأول وهلة…حي بين المدن…ليس اسما علما كما هوحال إسم الاحياء الأخرى..إنه الإسم الدال على الموقع في الخرائط ….جغرافية كانت أو حربية…الموقع الذي يكون من الواجب على ساكنه والمنتمي لأركانه أن يصير مختلفا…ومفتوحا على كل المدن المحيطة به وعلى كل ما يأتي منها…إنه موقع الإتصال والصراع والمصارعين من شاكلته…/لم يترك لي الرفيق وقتها فرصة الكلام …وكأنه كان يشم رائحة مصير أخاذ…نزاع…مشاء…مفترس..نهم…يحيط بأسوار روحه …فانتزع الكلام انتزاعا ليعلن لي أنه لن يرحل ولن يسقط ،،بل إنه أعطاني وعدا بأنه سيراني في أقرب الأيام…/

-وهاهو الوعد قد تأجل، ولم يرني ولم أره!!! -فهل هو اليوم في حضرة وعد آخر؟؟ -لا اعرف؟؟ لكن الذي اعرفه اليوم، وسأعرفه غذا وبعد غذ معرفة اليقين المجرب هو أنني لازلت أومن إيمان الصغار الأشد تحررا من الكبار أن الثوريين والمصلحين الجوهريين لايموتون أبدا…قد يصدر الموت حكمه l’oracle يوما من الأيام العابرة وينتقل إلى صفحة أخرى، وإلى حي آخر…لكن البقاء له ألف شكل وشكل، ،ومئات الآلاف من صيغ الوجود …

ورفيقنا هذا “العامل الذهني ” (بلغة الفيلسوف الفرنسي الشيوعي “لويس التوسير” الذي كان يعشقه كثيرا ) كان يؤمن فلسفيا بهذه القناعة، ولا يعتبرها مجرد هرطقة كلامية صالحة فقط للتعبئة السيكولوجية في زمن البزار…

-وكما قلت للعديد من الرفاق _بعد أن نزلت علينا صاعقة رحيله:” إن عبد الرحيم الخاذلي لم يأت  إلى الفكرة الإشتراكية وقيمها، من فوق، أو كما يقال من عل، أو بسبب نزوة خاطفة اختطفته بعد أن تذوق عسل نص فلسفي سياسي مدغم بمفاهيم جمالية متعالية..لقد قدم إليها صاعدا من الأسفل..من نحلة الجرح القديم…ومن تفاصيل الأحياء العتيقة..ومن محنة هذه الأرض وبشرها (وبالمناسبة فكلمة “الأرض” هاته تعجبه وتجذب شهوته المعرفية والوجودية كثيرا ) …حيث الناس يصنعون تاريخهم الشخصي والجماعي..عبر اكتساب مايسميه الآباء المؤسسون لنظريات الثورة الحديثة بالوعي المادي… التاريخي..الكوني … -أنا اليوم حزين يا اصدقائي ويااخوتي ويارفاقي…فما جمعني بهذا الفرس الوديع الجامح كثير و كثير…فلقد التقينا في ظرف لا يلتقي فيه الناس بسهولة على فكرة مزعجة يسبقها حمقها البين….ومع ذلك التقينا اصحابا مشاكسين..عشاق فتنة وطيش وسخرية لغوية شيطانية…هدامون للبداهات الأبوية…وللتفاهات الأسطورية والسلط القبلية المتعجرفة…فانتهى بنا المطاف إلى أن أصبحنا رفيقين بما يعنيه ذلك من شراكة ذهنية ومعرفية إنسانية وسياسية…وكل الذين عايشوا سنوات نهاية السبعينيات ومطالع الثمانينيات من القرن الماضي يعرفون هذا، ويعلمون بأواصرالارتباط الأخوي والرفاقي الذي كان بيني وبينه… -وأنا حين أتذكره اليوم، فإنما أتذكر شريطاكثيفا ممتلئا بالواقعات والحادثات حلوهن ومرهن…شريط يكشف” جنيريك” بداياته عن لقاءات متفرقة كان فيها عبدالرحيم إبن أبيه العظيم المضياف قائد الطاكسي…الرجل الأنيق المضياف…وكان فيها البحاث عن معرفة تجعله يستوعب هذا العالم المتحرك في دنياه الصغيرة(مدينته ) ودنياه الكبيرة (بلاد المغرب “العميق” )، كما صار يسميه حين اصبح طالبا دارسا في شعبة السوسيولوجيا) ..

وفي هذا المسار الشخصي الملحاح لتلميذ وطالب يعشق “الكلام ” (بالمعنى الارسطي) في شؤون البلاد كسب عبدالرحيم شبكة واسعة من المعارف والصداقات المدرسية/الجامعية وكذا السياسة النقابية الحركية…

– في إحدى أيام سنة 1978-1979 التقيته وبالصدفة ضيفا زائرا معتادا لبيت “الفقيه..الشيوعي ” القديم …رفيقنا أستاذنا المعبئ…”اوبلا القاوقجي “…عضو الديوان السياسي لحزب التحرر والاشتراكية (حزب التقدم والاشتراكية منذ عودته إلى الشرعية).

…(…..ولقد اكتشفت في تلك الجلسة أن عبد الرحيم الخادلي كان صديقا محبوبا لدى فقيهنا الشيوعي بنفس قدر حبه لابنه” جلال”)….

صديق الحي منذ زمان…كنا نقضي الساعات الطوال معا في استرجاع أحداث الماضي السياسي والنبش في أخطاء حركاتنا الوطنية والديمقراطية..ومافعلته وماكان عليها أن تفعله يومها لاستعادة المبادرة، واستئناف حلقات الصراع ضد الاستبداد الفردي…وكان رفيقنا لايكل ولا يتعب في طرح أسئلته السقراطية الجارحة والحزينة حول مألات الإستقلال الناقص والشكلي…وعن لماذائية بقاء البلاد دولة متخلفة مملوءة بالمظلومين والفقراء..وحول مسؤوليات القوى المناضلة فيما اتجهت إليه أمور مغرب مابعد الإستقلال المعطوب… _

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى