رأي/ كرونيك

محمد عبد الكريم الخطابي و الهوية الوطنية.. اللغة و الهوية (الجزء 8) 2/1

 

محمد المباركي/ فرنسا

تمهيد:

هناك رجالات أفذاذ لا يمن الدهر بمثلهم إلا عبر أجيال، وكلما مر الزمان سما نجمهم و زاد نور فكرهم و مراسهم ضياء ليصبحوا نبراسا يقتدى به، مثل هؤلاء الأهرامات يبلى التاريخ و لا يبلى ذكرهم، لأنهم قبل أن يسكنون العقول تحتضنهم الضمائر الحية والأفئدة الصادقة.

محمد بن عبد الكريم الخطابي من طينه هؤلاء العظماء. ليس كونه قاد ثورة تحررية رائدة و أسس أول جمهورية شعبية في البلدان المستعمرة، بل لأنه أيضا رجل فكر و سياسة و من هنا يهمنا منظوره حول اللغة و الهوية.

بداية ثمانينات القرن الفائت بدأت دراسة عن شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي لأجد نفسي أمام زخم من المراجع تتطلب وقتا وافيا، الأمر الذي لم أكن أتوفر عليه أنداك، للإلمام العميق بجوانب هاته الشخصية الفريدة من نوعها. فهو فقيه عالم و قاض عادل، صحفي مقتدر و قائد عسكري محنك، زعيم سياسي ممتاز و مفكر واسع النظر. و عند الضرورة تاجر مقتدر لضمان الاستقلال المادي لعائلته و من رافقه في منفاه الطويل بجزيرة لارينيون شرق جنوب القارة الافريقية. لدراسة أعمال و فكر محمد بن عبد الكريم يلزم مجلدات و نحن هنا نحاول قدر المستطاع تلخيص منظوره في المسألة التي تهمنا أي اللغة و الهوية.

1 – نبذة وجيزة للتعريف بالرجل

ولد محمد بن عبد الكريم الخطابي بأجدير عام 1882 و به حفظ القرآن كأقرانه، ثم أصول اللغة العربية من نحو و صرف وغيرها عن والده، قبل أن يرسله الى مدينة فاس العاصمة الإدارية و العلمية للمغرب، لمتابعة تعليمه بجامعة القروين. حيث ربطته علاقة وطيدة مع ثلة من خيرة علمائها الوطنيين أمثال ادريس ابن سعيد السلاوي الذي ناصر الثورة الريفية إلى حين اغتياله من قبل الإسبان عام 1923. بعد دراسته بفاس عاد إلى مسقط رأسه لمساعدة والده في القضاء و الأشغال الإدارية الأخرى التي كان يتضلع بها. لكن علاقته بمدينة فاس ظلت قائمة مما مكنه من مسايرة الحركة التنويرية التي كانت في بدايتها و خاصة المقاومة القوية للدخول الأجنبي الفرنسي و محاولة تحديث دواليب الدولة عبر مبادرة وضع أول دستور بالمغرب عام 1908. كما أنه في خضم ذلك الجو كان قد تتبع عن قرب مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي انعقد من يناير الى أبريل 1905 و الذي تم فيه تقسيم المغرب بين اسبانيا في الشمال و فرنسا في الجنوب و طنجة كمدينة دولية، هذا الى جانب الامتيازات الجمركية و التجارية لباقي الدول الاستعمارية الأوروبية. ما يهمنا من سرد المرحلة الأولى من حياة محمد بن عبد الكريم هو من باب التأكيد على تكوينه اللغوي الأصلي الذي لم يتخلى عنه فكرا و عقيدة، رغم تفتحه عن اللغات الأخرى خاصة الاسبانية. ثم أنه لم يجعل أبدا تعارضا بين لغته الأم التي هي الريفية و لغة الوطن التي هي العربية. هذا من ناحية أما من ناحية الهوية فان الحس الوطني الذي تربى عليه في أحضان أسرته الصغيرة لما كان بأجدير أو الكبيرة لما ذهب للدراسة بالعاصمة فاس جعلته يتفتح على مشاكل البلاد و الأخطار التي تحيط بها.

مثل والده و العديد من الوطنيين الأوائل ظن محمد بن عبد الكريم أن معاهدة الحماية تحمل في طياتها بعض الدواء لأمراض التأخر التي يعاني منها المغرب على مختلف الواجهات. و أنها أي معاهدة الحماية ستسمحباحداث تغيير اداري ضروري مع خلق مرافئ صناعية و تجارية حديثة. بتلخيص كان كغيره من المخلصين لقضايا الشعب و الوطن يضنون أن في كل خيبة خير على منوال الآية الكريمة ” و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم”. لكن تبين له و للعديد من الوطنيين أنه لا خير في الاستعمار الذي لا يهمه سوى الاستلاب الثقافي و استغلال الخيرات البشرية و المادية للبلاد. بعد الاحتلال التحديث الإداري من أهل كان، عوض التحديث تم تقوية الرواسب الاستبدادية للمخزن العتيق.

كان سيكون من المحبذ التوسع في الموضوع عبر تقسيم حياة الزعيم الوطني و القومي إلى أربعة مراحل كما شخص ذلك الباحث المختص و المرافق لمحمد بن عبد الكريم الخطابي بالقاهرة ، عثمان بناني الذي خص الزعيم الوطني بأبحاث جادة و معمقة، منها أطروحته عن حياته و أعماله التي تم نشرها أخيرا.

-المرحلة الأولى من 1882 الى أواسط 1918، و هي مرحلة الطفولة و الشباب و العمل في الإدارة الاسبانية.

-المرحلة الثانية ن من أواسط دجنبر 1918 الى استسلامه في 27 ماي 1926، و هي فترة المقاومة المسلحة و بناء جمهورية القبائل الريفية التي عمت باقي المنطقة الشمالية للمغرب.

-المرحلة الثالثة، من 27 ماي الى حين لجوئه في مصر في31 ماي 1947 و هي فترة منفاه مع عائلته بجزيرة لا رينيون.

-المرحلة الرابعة، من استقراره بمصر الى حين وفاته بها عام 6 فبراير 1963.

حياة مليئة بالأحداث و العطاءات في مستوى يقل نظيره و هي ظاهرة يقل نظيرها. أمام الزخم الكثيرمن العطاء الفكري و الميداني لمحمد بن عبد الكريم، سنحاول قدر المستطاع و بتجرد كامل الالمام بجوهر فكره و عمله في ما يخص موقفه من اللغة الفصحي و اللغة الريفية و خاصة فهمه و ممارسته للهوية الوطنية و القومية.

من مزايا القادة الكبار كونهم يتحلون بقدرة فائقة لفهم الواقع و البحث عن حلول ناجعة للتقدم إلى الأمام و نظن أن الأمير كان على بينة من قيمة و قوة اللغة كسلاح لفهم الذات و الموضوع الذي يتواجد فيه و كذلك لرص الصفوف و إنجاح المقاومة

2- محمد بن الكريم و مسألة اللغة

من مزايا القادة الكبار كونهم يتحلون بقدرة فائقة لفهم الواقع و البحث عن حلول ناجعة للتقدم إلى الأمام. و نظن أن الأمير كان على بينة من قيمة و قوة اللغة كسلاح لفهم الذات و الموضوع الذي يتواجد فيه و كذلك لرص الصفوف و إنجاح المقاومة. من المعروف و المألوف أنه كان يتكلم مع عائلته و أقاربه بالريفية لغته الأم، و نحن نعلم أن الخلفاء المرابطين و الموحدين و المرنيين و الوطاسيين و شيوخ الحنصللين و غيرهم ممن سادوا، كانوا يستعملون اللغة الأمازيغية بين عشيرتهم المقربة للتواصل العادي، لكن في تسيير أمور الدولة من قضاء و تعليم و ندوات و مقابلات، كان المرجع هو اللغة الجامعة و لم يحد محمد بن عبد الكريم عن هذا التقليد.فسواء لما كان يمارس القضاء و الإدارة الى جانب والده أو بعد تقلده القضاء و قيادة الثورة و إرساء أسس الجمهورية الريفية، كانت اللغة الرسمية للدول الناشئة هي اللغة العربية و لم يحد أبدا عن هذا التوجه الواعي لرص الصفوف بين القبائل التي تتكلم الريفية و التي تتكلم العربية. وكذلك للتجاوب مع باقي ساكنة المغرب حيث الثورة الريفية لم تكن سوى الانطلاقة لتحرير عموم البلاد. فتوجهه الوحدوي لوطنه المغرب و لبلدان المغرب الكبير و نظرته للقومية العربية سيتضح بجلاء من خلال مواقفه أثناء الفترة الرابعة من حياته بمصر. فوعيه بأهمية اللغة كان حاضرا طوال حياته، سواء ما خص مشروعه التحرري الوطني أو القومي.

لم يكن المجاهد الأكبر متحيزا للفصحى كلغة جامعة وطنيا و قوميا،بل كان متفتحا على باقي اللغات. لقد كان يتقن اللغة الاسبانية حيث اشتغل مترجما لها كما احترف الصحافة أثناء وجوده بمليليه فترة الشباب. ثم أنه وجه بناته و أبناء أخيه و عمه فترةالمنفي بجزيرة لا رينيون أو في مصر تعليم اللغات الأخرى خاصة الفرنسية و الإنجليزية.

أية خلاصة نستنتجها من فكره اتجاه التعامل مع تعلم اللغات؟ انه نظرا لقدرة تفاعله مع الواقع و إمكانية استيعاب المستجدات المحدثة، كان و لا شك سيرى الظروف التي يمر بها المجتمع المغربي راهنا و مراعاة مصلحته في التقدم و التحرر، ليتجه لا محالة إلى تثبيت اللغة الفصحى كلغة جامعة مع حضانة اللغة الأمازيغية.

و كان أيضا و هذا هو الراجح، سيتفتح على تعليم و تدريس باقي اللغات و خاصة الفرنسية و الاسبانية و الإنجليزية. المشكل ليس هو تعليم اللغات، ونحن نعلم أن الكل يقر اليوم قدرة المرء تعلم عدة لغات في آن واحد و بشكل جيد من دون تأثير بعضها على البعض.

 تلقين و تعليم اللغات لخدمة العلم و المعرفة والحرية و الكرامة واجب أكيد نثبته في وعينا الوطني و القومي ما نرفضه هو استعمال اللغات الأجنبية لاستلاب الهوية الوطنية المبنية على التربة الثقافية الأمازيغية العربية.

و بخصوص اللغة الأمازيغية نظرا كون البعض يخطأ قصدنا عبر اجتهادنا في الموضوع، و يظن عن خطأ، أننا نتلافاها أو لا نعطيها حقها. العكس هو الصحيح. لأننا لا نريد استعمالها كحصان طروادة للعصف باللغة الجامعة على منوال حق يراد به باطل. و كذلك لا نريد تقزيمها كمن يريدون جعلها لغة الفلكلور و خلق عرقية وهمية تفرق أبناء الشعب الواحد الخال و الأمة الواحدة الخالدة.

إننا نتعامل مع لغتنا الأم الأمازيغية بكيفية عقلانية و منتجة، لذا عند تعاملنا معها، نحضر في وعنا الجماعي العامل الزمني و الخلفيات السياسية و المصالح الثقافية المتصارعة. قصدنا رص صفوف الشعب و الوطن و الأمة. انه اختيارنا الذي تعلمناه من فكر و مراس محمد بن عبد الكريم و غيره من الوطنيين المخلصين لمصير الشعب و الأمة. كما أننا نطرح تعليم اللغة الأمازيغية عبر مجموع أنحاء البلاد و ليس بمنطقة معينة مع احترام لهجاتها المتعددة التي تعبر عن غناها الثقافي و الحضاري.

حسب الدراسات العلمية الحديثة في بلدان الهجرة مثلا، تبين أنه عند تدريس الأطفال لغة و ثقافة آبائهم المهاجرين في الأقسام، ليس فقط لهم وحدهم كما هو الشأن المتبع بيداغوجية متأخرة، بل تدريس لغة المهاجرين و خاصة الثقافة المحيطة بها لعموم الأطفال و في سن مبك. النتيجة أن أبناء المهاجرين يقبلون على لغة بلد الإقامة بحماس و يزداد نشاطهم في كل ميادين الحياة و ليس فقط لثقافة الآباء، فينخرطون في ثقافة مجتمع الإقامة بحماس  مما يساعدهم على التثاقف و الاندماج الناجح. إذن تدريس اللغة الأمازيغية لعموم الناشئة أمر في غاية الأهمية و عامل لحفز و تطوير قدراتهم في مختلف الميادين. كل ما نرفضه صراحة هو جعل تعارض بين اللغة الفصحى الجامعة للوطن و الأمة و لغتنا الأمازيغية. لأنهما الرجلين للجسد المجتمعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى