“الادراك العام المعمم” للمجلس الوطني لحقوق الانسان والحاجة للترافع لا للكلام
أصدر المجلس الوطني لحقوق الانسان، مذكرة حول مشروع القانون الجنائي رقم 10/16، بتاريخ 28 أكتوبر 2019، قدم من خلالها وجهة نظره حول مجموعة من الموضوعات، خاصة منها المتعلقة بالحريات الفردية، التي حسمت على مستوى المنتظم الدولي، كحق المرأة في الجسد وعدم تجريم العلاقات الجنسية الرضائية بين البالغين، وأيضا فيما يتعلق بالتعذيب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب…
وبناء عليه فإن كل ما جاء في المذكرة تتفق عليه الحركة الحقوقية المؤمنة بكونية حقوق الانسان وشموليتها، كما أن المذكرة الحالية تعتبر استنساخ لأجزاء من مذكرته (أي المجلس) الصادرة نهاية 2016، بناء على طلب “إبداء الرأي” الموجه من طرف رئيس مجلس النواب بتاريخ 11 يوليوز 2016.
إلا ان مذكرة المجلس الوطني لحقوق الانسان الحالية، تثير الكثير من الإشكاليات القانونية والمسطرية، والتي تستوجب توضيحها، من أجل تحديد مجالات اشتغال المؤسسة، وأيضا قياس مدى وجود فعلا للفعل الاستراتيجي لدى المجلس؟
أولا: غياب السند القانوني للمذكرة
المجلس الوطني لحقوق الانسان مؤسسة دستورية، تشتغل بمقتضيات قانونية محددة، ولا يمكنها أن تمارس مهاهم أو وظائف خارج ما رسم لها المشرع في القانون رقم 76.15.
وهنا أستسمح القارئ بالعودة إلى القانون المنظم لأعمال المجلس الوطني، وخاصة المادتين 24 و25منه.
المادة 24 من القانون 76.15، تعطي للمجلس الوطني الحق في إنجاز دراسات تتعلق بتشريعات قانونية أو تنظيمية جاري بها العمل، ومدى ملاءمتها مع القانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني بشكل عام.
والمادة 25 من القانون تعطي للمجلس الوطني الحق في تقديم رأيه، بمباردة منه، في إطار الإحالة الذاتية، بخصوص مشروع أو مقترح قانون يناقش في البرلمان.
إن المذكرة المقدمة خلطت بين الدراسة والرأي، ومزجت بين المادتين 24 و25 من القانون، وهو أمر “غريب” وينم عن “تسرع” من أصدرها، إذ لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب أنهت المناقشة التفصيلية لمشروع القانون الجنائي بتاريخ 02 يوليوز 2019، مما قد يطرح السؤال هل غاية المجلس هو التعديلات في مجلس المستشارين.
القول بالخلط الذي قام به المجلس في مذكرته أن كل ما يتصل بملاحظاته وتوصياته بخصوص باب “انتهاك الآداب”، وإضافة فصل خاص “بالعنف في المجال العمومي …” وتقسم القانون الجنائي إلى قسمين الجرائم التي تمس السير الصحيح للمؤسسات والجرائم التي تمس الحريات والحقوق، كلها يدخل في إطار دراسة يمكن أن يقدمها المجلس وفق المادة 24 من قانون المجلس المنظم لاختصاصاته، لكون هذا المحور لم يكن من مشمولات التعديلات في القانون الجنائي المعروضة على البرلمان، وباقي التوصيات والملاحظات فإنها ضمن مشمولات المادة 25من القانون 76.15، أي يمكن أن يجعلها المجلس كرأي بخصوصها.
إن هذا الخلط غير قانوني ولا يمكن دمج “دراسة” و”رأي” في مذكرة واحدة وتحريك المادتين 24 و25 من القانون في ان واحد
إن الغريب في أمر هذا الخلط المبني على عدم “الإدراك العام المعمم” لمحرر “المذكرة” أنه لم يذكر في كل أجزاءها، الحيثيات القانونية التي تم الاستناد عليها لصياغتها، وعلى أي نص أو مادة من قانون المجلس الوطني لحقوق الانسان الذييمنحه إعدادها وتقديمها لباقي للبرلمان.
ثانيا: الحاجة للترافع وليس للكلام
نميز بين الترافع المؤسساتي القائم على القوانين المنظم لعدد من المؤسسات، والترافع المدني الذي تشتغل به جمعيات المجتمع المدني، باستثمار كل الفضاءات والفاعليين وحشد الدعم من أجل قضية معينة، فإذا كانت الأولى لها قوة اعتبارية إلا انه مقيد نصوص قانونية، في مقابل ان الترافع المدني رغم المساحات الواسعة التي يشتغل فيها إلى أن ضغطه يبقى في حدود التوازنات السياسية والاجتماعية.
مناسبة هذا القول، يتعلقبأن تقوم مؤسسة معينة بلعب دور المجتمع المدني، وأن تحل محله، مما قد يفقدها من قيمتها ووضعها الاعتباري، فالمجلس الوطني لحقوق الانسان له رصيد كبير من التقارير والدراسات، والرأي الاستشاري المقدم سنة 2016 بخصوص القانون الجنائي أشمل وأجود مما طرحه في “مذكرته الأخيرة”، كما أنه يتوفر على كم هائل من التقارير الموضوعاتية والدراسات المتعلقة بالحريات الفردية والمساواة، فلا داعي لإعادة إنتاج ما هو كائن بشكل مشوه، بل يقتضي الامر تخطيط استراتيجي للترافع حول الحقوق والحريات.
فهل يعقل في مذكرة المجلس الحالية، ذكر مرات عديدة ما أنتجه المجلس الاستشاري لحقوق الانسان من دراسات ، وأكثر من مرة توصيات هيئة الانصاف والمصالحة ومخرجات الحوار الوطني حول العدالة، ومذكرات المجتمع المدني، وفي سطر “يتيم” ذكر شيء متعلق “برأي المجلس الوطني لحقوق الانسان سنة 2016 بخصوص القانون الجنائي”؟؟؟.
ختاما:
لن ندخل في اللغة المستعملة في المذكرة، سواء أسلوبها الانشائي أو صيغتها الأدبية المفتقرة للحس الحقوقي، ولا إلى خلط بين ديباجة دستور 2011 وتصديره، ولا إلى ضمير المتكلم وأحيانا الغائب،ولكن سيبقى “الادراك العام المعمم” إشكالية عميق في المنظومة الحقوقية الوطنية والدولية التي تتطلب فك شفراتها وطلاسمها.