رأي/ كرونيك

عبد الله العروي الآخر: المرشح البرلماني..المتسامح مع التطبيع..وصهر تاجر السلاح…(!) (2/1)

عبدالرحيم التوراني

“عبد الله الرافضي”.. هذا واحد من أسمائه المستعارة، هو صاحب السيناريوهات المنشورة تحت هذا الاسم في مجلة “أقلام” في أعدادها الأولى، فترة الستينيات، المجلة التي كان يديرها المحامي عبد الرحمان بنعمرو مع الأستاذين ابراهيم بوعلو والمرحوم أحمد السطاتي.

في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، كان من المثقفين الشباب البارزين الذين سينتبه إليهم الزعيم المهدي بنبركة ليستقطبهم حوله، لذلك فقد شاع أن عبد الله العروي هو صاحب الصياغة النهائية، باللغة الفرنسية، لنص التقرير السياسي والإيديولوجي الحزبي المقدم ضمن أوراق المؤتمر الوطني الثاني لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (1962)، والذي سينشر ضمن كتاب بعد اختطاف بنبركة في باريس (1965) من لدن زوج الأديبة غادة السمان الأستاذ بشير الداعوق، الصديق اللبناني للزعيم المهدي بنبركة، ضمن منشورات “دار الطليعة” التي أسسها المرحوم الداعوق في العاصمة اللبنانية، الدار التي لعبت دورا بارزا في الحياة الفكرية والثقافية العربية.
في بيروت دائما ستبادر “دار الحقيقة” سنة 1970 إلى نشر ترجمة مؤلف عبد الله العروي، الكتاب الذي شكل حدثا قويا سنة نشره أول مرة في1967، بتقديم بقلم المستشرق الفرنسي الشهير مكسيم رودنسون، الذي تساءل: ” لماذا لم يُكتب هذا الكتاب من قبل؟ لماذا لم يكتب قبل هذه المرحلة التي بدأت للتو؟”.
والحقيقة أن العروي كتب دراسته التركيبة للمجتمع العربي قبل حلول هزيمة يونيو 1967، رغم أن الكتاب يغوص في دلالات تلك الهزيمة بصورة مسبقة.
“الإيديولوجية العربية المعاصرة”، الكتاب الذي دعا فيه العروي إلى التحلي بوعي نقدي و إلى “تحاشي الانغلاق لتجنب المواقف التبريئية والاستعراضية الرخيصة، ليصبح العقل العربي جاهزاً ليوافي الغرب وليتمكن من خلال ذلك التعرف العقلاني، الواحد على الآخر ليدشنا عهد حوار حقيقي”.

***
لم يبتعد العروي عن حزب المعارضة القوي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بل ظل مرتبطا ببعض قادته ورموزه، ولا زال المجايلون يتذكرون السجال القوي الذي دار بين عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري على صفحات “المحرر الثقافي” سنة 1975، وهو النقاش الذي حرك الحقل الثقافي الراكد وأغنى جريدة الحزب باسم كبير.


إلى أن ترشح العروي ضمن مرشحي الاتحاد الاشتراكي في الانتخابات البرلمانية لاقتراع 3 جوان 1977 بدائرة العنق في الدار البيضاء. أذكر أني كنت من ضمن شباب الحزب الذين قاموا بالحملة لصالح التصويت على المرشح عبد الله العروي، وكان لي أقارب وأهل يقطنون بعمارات العنق.

لا زلت أحتفظ بصورة الأستاذ عبد الله العروي في ذاكرتي وهو يجول معنا عبر “باطمات” دائرة حي العنق وشوارعه. كان بعيدا عن أن يكون اجتماعيا، أستطيع التأكيد الآن إنه ليس كائنا اجتماعيا، وكنا نفضل أن يبقى وراءنا لنتقدم نحن ونخاطب الناس والناخبين بلغة قريبة منهم، لغة يفهمونها ويدركونها.

ولم يتأخر المرشح عبد العروي في الانسحاب والاعتذار، عندما رفع الشباب المرافق له في الحملة شعارا حول المعتقلين السياسيين المختطفين: “هوما فين.. هوما فين.. أولاد الشعب المخطوفين..”. كان يرغب في “حملة انتخابية سلمية” من غير تصادم ولو لفظي..(!).

ذات يوم من أيام الحملة الانتخابية فوجئنا بأن مرشحنا عبد الله العروي “اخترق البرنامج والمنهاج”، حين قام بطبع “بزاطم” لإهدائها للمواطنين، حافظات أوراق من الحجم الصغير طبع عليها اسمه كمرشح للاتحاد، مع الرمز الذي كان عبارة عن دائرة كتب عليها (تحرير، ديمقراطية اشتراكية)، كنا نعتبر مثل ما أقدم عليه العروي رغم بساطته، بمثابة “إرشاء”، ولم نكن نقدم، مثل باقي مرشحي الأحزاب الأخرى الهدايا للناخبين، مهما كانت بسيطة ومتواضعة، كنا نعتبرها “رشوة”، فحزبنا لا يقدم للناخبين الوعود ولا يطبخ لهم “الزرود”، بل نكتفي بالكلام عن برنامجنا، ونشرح لهم من نحن وماذا سيستفيدون إذا هم وضعوا في الصندوق يوم الاقتراع الورقة ذات “اللون الأصفر”.

كانت وزارة الداخلية المشرفة على الانتخابات أعطت الاتحاد الاشتراكي هذا اللون، قبل اتخاذ الرموز ويصبح رمزه الوردة الاشتراكية و اللون البنفسجي هو رمز الاتحاد، (أود أن أؤكد هنا على أنني أتكلم عن اتحاد اشتراكي آخر، اتحاد أصيل لا صلة له بالاتحاد الاشتراكي الذي اختطفه اليوم إدريس لشكر ولحبيب المالكي ومن لفَّ لفَّهما).
لا زلت أذكر قصة جميلة لصديقنا المبدع الكبير أحمد بوزفور بعنوان “الألوان تلعب الورق” مستوحاة من الانتخابات.

كما لا زلت أتذكر تغزل الكاتب الأول للحزب عبد الرحيم بوعبيد في اللون الأصفر، خلال كلمته في التجمع الكبير بملعب سيدي معروف بالدار البيضاء (نهاية ماي 1977)، نفس الملعب الذي وقف به المهدي بنبركة مخاطبا ساكنة المدينة في انتخابات 1963، اقتبس عبد الرحيم بوعبيد من القرآن الكريم تعبير: “صفراء فاقع لونها تسر الناظرين”، وتحولت فقاعة بقرة قوم موسى إلى ورقة الحزب الانتخابية. كان عبد الرحيم بوعبيد صاحب كاريزما وزعيما حقيقيا، رغم أن تكوينه الأول والأساسي كان فرنسيا، لكنه اجتهد على كبر، وتعلم على نفسه الكتابة باللغة العربية، وأصبح يدبج بها المقالات والافتتاحيات، بل صار خطيبا مفوها لا يرطن بالدارجة السوقية مثل التي يتقنها اليوم “زعماء الكرطون” ممن يرغبون في إعادة تربية الشعب المغربي.

لم يفز عبد الله العروي في الانتخابات، أو على الأصح تم إسقاطه، الحسن الثاني لم يكن يرغب في مثقفين ومفكرين مثل العروي داخل البرلمان، خصوصا المصطفين منهم مع المعارضة.

والبرلمان يصعد إليه بالتزوير أناس لا مستوى لهم وليس لديهم ما يقدمونه للشعب والوطن. وبقي التزوير هو السائد ولو اختلفت الأساليب، رغم قسم الملك الحسن الثاني في خطاب له، بأنه “حرم التزوير على نفسه”، باعتبار التزوير ظلما، وفقا لمنطوق الحديث الشريف: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي”، لكن الاتحاد بقي دائما ضحية، وظل يعاند ويقول على لسان عبد الرحيم بوعبيد: “المقاعد لا تهمنا”.

ولست أدري إذا كان الموقف صحيحا، أم كان على الاتحاد مقاطعة الانتخابات، (لعل الأمر سيكون مختلفا عما وصلنا إليه اليوم) كما كان يطالب بذلك الراديكاليون ممن سيطروا على أغلبية اللجنة الإدارية في المؤتمر الوطني الثالث بالمعرض الدولي في الدار البيضاء سنة 1978، فتم طردهم في ماي 1983، بسبب الموقف نفسه (عبد الرحمان بنعمرو، أحمد بنجلون، محمد بوكرين، يزيد بركات، أحمد يزي، امبارك المتوكل، عبد السلام الشاوش، خروج العربي، الطيب الساسي، عثمان النواري، محمد خويبي، بوبكر عرش، حميد السويدي، محمد بوشطو، ومحمد الفلاحي والآخرين، إذ بلغ عدد المعتقلين إثر الصراع الاتحادي- الاتحادي حول المشاركة في الانتخابات من عدمها (أحداث 8 ماي 1983)، 34 معتقلا اتحاديا راديكاليا، وهو رقم (يا لمكر الصدف؟!) يساوي عدد مقاعد الاتحاد في برلمان 1984.
***
ابتعد العروي عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بدا وكـأنه استوعب “ميساج” الحسن الثاني. لكنه سيحرم من تجديد جواز سفره سنة 1984 أو 1985، وتعرض مرة لمشاكل في مطار محمد الخامس، كما علمت من الصديق الصحفي عبد الله الستوكي، الذي بادر وأجرى اتصالات عن طريق قنواته الخاصة، ليبلغ للمسوؤلين أن ما يقومون به في حق مفكر كبير “أمر لا يليق”. هكذا تم التراجع عن إهانة المفكر وحصل على جواز جديد.
***
في سنة 1986، حلت ذكرى مرور ربع قرن على تولي الحسن العرش، وبث التلفزيون برنامجا خاصا بالمناسبة، تعاقب عليه عدد من الضيوف الكبار من أجل “تقييم المرحلة”، من بينهم مستشاري الملك أحمد رضا اكديرة وأحمد بنسودة، والاستقلالي المؤسس بوشعيب اليزيدي، والمفكر والمؤرخ والروائي عبد الله العروي.

كانت مداخلة العروي مفاجئة بالنسبة لي، تقريبا كلها مدح وكلام إيجابي بالنسبة لأعلى هرم النظام. ولأن مداخلة العروي لم تثر الاهتمام وردود الفعل التي كنت أتوقعها، فقد سافرت إلى الرباط وذهبت إلى زنقة البريهي حيث مقر التلفزيون، لأطلب من مدير البرامج، ولم يكن غير اليساري السابق الناقد السينمائي نور الدين الصايل، الذي جلبه الدكتور عبد اللطيف الفيلالي وزير الخارجية والإعلام.

نورالدين الصايل

طلبت من الصايل أن يمكنني من تسجيل بعض حلقات البرنامج المشار إليه، لم أطلب حلقة العروي وحدها، بل طلبت أربع حلقات، حتى لا أثير الشبهة، وقد أعطاني نور الدين الصايل مشكورا ما طلبته. ولا زلت أحتفظ بكاسيط الفيديو.
استخرجت من الكاسيط مداخلة العروي على الورق، على أساس نشرها في مجلة “السؤال” التي كنت أصدرها. لكن ذلك لم يتم بسبب توقف المجلة.
***
في سنة 1993، كنت ضمن الفريق الذي كلف بإصدار مجلة ثقافية باللغتين العربية والفرنسية، موجهة إلى المغاربة المقيمين في الخارج، مجلة تولت إصدارها وزارة الجالية المغربية المقيمة بالخارج ومؤسسة الحسن الثاني للمغاربة في الخارج. كان أول وزير لهذه الوزارة المستحدثة سنة 1991 هو رفيق الحداوي، الذي لا زلت أحتفظ له بصورة المثقف الأنيق ورجل الأخلاق القريب من التصوف.

وكان رئيس تحرير مجلة “ضفاف” هو الصديق عادل حجي، ومن المتعاونين كان معنا الدكتور محمد الناجي: أستاذ الاقتصاد والباحث السوسيولوجي، وعمر عزيمان: أستاذ الجامعة والوزير والسفير السابق ورئيس المجلس الأعلى للتعليم حاليا، وعبد الرزاق مولاي رشيد: أستاذ القانون بكلية الحقوق بالرباط، وفريد الزاهي، الذي سيتولى لاحقا مديرية المعهد الجامعي للبحث العلمي، والفرنسي ألان غوريوس. كما نشر في “ضفاف”، الأصدقاء عبد القادر الشاوي، ونور الدين أفاية وإدريس الخوري ومصطفى المسناوي وآخرون أعتذر عن نسيان أسماءهم الآن.

 

أذكر أننا اتفقنا على إجراء مقابلة صحفية مع المفكر عبد الله العروي، وحصلنا على رقم هاتف بيته، ثم قمنا بالاتصال به. لكنه صدمنا، حين أجابنا بلغة كلها تبجح وكبرياء وسخرية واضحة:
– وانتوما غير اللّي جا وخرَّج مجلة يقول نستجوب عبد الله العروي.
اعتذرنا منه وأنهينا المكالمة.

في إحدى المحاضرات التي نظمتها الجمعية المغربية لمدرسي الاجتماعيات واحتضنتها قاعة عبد الصمد الكنفاوي بحديقة الجامعة العربية بالدار البيضاء، امتلأت قاعة المحاضرات عن آخرها وظل الكثيرون واقفين على الجنبات، كما كان الأمر أيامها في أغلب الأنشطة الثقافية. كان المحاضر هو الأستاذ المفكر والمؤرخ عبد الله العروي، لدى المناقشة تكلم أستاذ من الحاضرين وطرح سؤالا، فما كان من العروي إلا أن رد على المناقش بكل استهتار واحتقار:
– سِرْ تقْرا أولا.. وتعلم كيف تطرح الأسئلة.. عادْ أجي اطْرحْ سُؤال… (!!!)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى