حواراتكورونا

حوار مع السوسيولوجي لعريني:ما أدهشني نسبية الوجود وهشاشة الإنسان الذي بدا حائرا من هول صدمة الفيروس

هذا الحوار هو ضمن  سلسلة حوارات تقترحهاتجريها  جريدة فور تنمية مع مفكرين ومثقفين وأدباء ومن أجل فهم أكثر وأعمق للتغيرات التي عرفتها المجتمعات بعد تفشي جائحة كورونا .
وفي هذا الإطار استضافت  الدكتور صلاح الدين لعريني أستاذ باحث في سوسيولوجيا الصحة وأنثروبولوجيا المرض نائب رئيس مركز بول باسكون للأبحاث السوسيولوجية، و”دابا بريس” باتفاق مع الباحث تعيد تعميم ونشر هذا الحوار، لكل غاية مفيدة.

الدكتور صلاح الدين لعريني أستاذ باحث في سوسيولوجيا الصحة وأنثروبولوجيا المرض نائب رئيس مركز بول باسكون للأبحاث السوسيولوجية

 اليوم نحن أمام “عالم مريض”، ما الذي استوقفك أستاذ صلاح سوسيولوجيا وأنثربولوجيا في هذه الفترة من عمر العالم؟

شكرا لكم على الاستضافة، وعلى مساهمتكم الإعلامية في التنوير العمومي من خلال حواراتكم الرمضانية هاته.

ما استرعى انتباهي في هذا الزمن الموبوء وأثار دهشتي حقيقة، هو نسبية الوجود وهشاشة الإنسان الذي بدا حائرا مرتبكا من هول الصدمة التي تسبب فيها هذا الفيروس الميكربيولوجي، صغير الحجم ودقيق البنية لكنه قوي الأثر، تجاوز مفعوله نظام الجسد، ليؤثر في النظام الاقتصادي والاجتماعي، ويخل بنظام الأشياء والمشاعر والأفكار والعلاقات في الحياة اليومية المألوفة، وإذ استمر الحال على ما هو عليه الآن سننتقل إلى منعطف أخطر في مسار هذه الجائحة هو التأثير في استقرار الأنظمة السياسية.

من جملة الأمور التي استوقفتني في هذه الفترة من عمر العالم، هو مسألة اللامفكر فيه، فعلى غرار النقد التاريخي الشهير الذي وجه بموجبه هايدجر نقده الجذري للميتافيزيقا الغربية ودعا إلى مجاوزتها بدعوى أنها فكرت في الموجود ونسيت الوجود،

يمكنني التأكيد أن اللامفكر فيه اليوم هو اللامتوقع؛ بحيث أن مشكلة الإنسان المعاصر والعلوم اليوم هو نسيان أو تجاهل أهمية التفكير في اللامتوقع بوصفه واقعة جديدة تتسم باللايقين وبالمباغتة والصدمة؛ بحيث أن واقع علاقة الإنسان بالطبيعة مسكون بالسيطرة والاستنزاف والاستغلال والترويض، مما قلص من مساحة اليقين والأمن والطمأنينة والاستقرار، ووسع بالمقابل من هامش اللايقين والخطر والخوف والاضطراب. وما أخشاه هو أن استمرار هذه العلاقة المتوترة التي تربط الإنسان بالطبيعة والدولة بالمجتمع والفرد بالفرد والدول ببعضها البعض، ستنقلب معادلة أمن-خطر، ليصبح العيش في الخطر والتعايش معه قاعدة والعيش في الأمن استثناء.

إن نسيان اللامتوقع هذا هو سمة العلوم عامة والعلوم الاجتماعية على نحو أخص، ففي مقاربة هذه الأخيرة للاجتماعي كموضوع لها، نجد اهتماما مكثفا اليوم بكل ما هو عام ومألوف ومرئي ومشترك في الحياة اليومية، وفي مقابل ذلك نجد نسيانا وتجاهلا وفي أحسن الأحوال حضورا باهتا للتفكير والبحث في كل ما هو خاص ومدهش وغير مألوف ولامرئي.
فعالم الاجتماع مثلا يغريه البحث في الوقائع والظواهر والأفعال الاجتماعية التي تكتسي خاصية العمومية والانتشار والقهرية والحتمية، والحال نفسه بالنسبة للمؤرخ الذي يهتم أكثر بدراسة الظواهر والأحداث التاريخية المشتركة والعامة، بغية استخلاص القوانين الكلية المتحكمة في منطق وحركة التاريخ العام، وهما بذلك يتجاهلان التاريخ والواقع الخاصين للامرئيين المتوارين خلف الواجهة الاجتماعية للخطاب الرسمي ممن يعيشون تحت قبضة السلطة وعلى فتات الثروة. وهذا ما يمكن ملاحظته مثلا بمنتهى الوضوح في مجال دراسة الأوبئة اليوم باعتبارها أحداثا تتسم بالندرة والمباغتة واللامتوقع؛ إذ نعيش فراغا علميا مهولا في هذا الباب على مستوى بنيات البحث العلمي للعلوم الاجتماعية في المغرب والعالمين العربي والغربي.
علاوة على ذلك، ما أثار دهشتي أيضا وحثني على التفكير هو هشاشة الزمن الراهن الذي نعيشه المحفوف بالمخاطر، فعلى الرغم من كل مظاهر التقدم التقني والعلمي والاقتصادي والسياسي التي حققها الإنسان، إلا أن حدث كرونا أظهر مدي هشاشة الوجود الجماعي المشترك، وهشاشة بنايته الصحية والاقتصادية والسياسية، وهشاشة العولمة التي قدمها المبشرون بها منذ نهاية الثمانينات من القرن الفارط، كما لو كانت خالصا للعالم وللإنسان ووعدا بالحرية والعدالة والرخاء والرفاهية.
لكن حدث كورونا أظهر مدى زيف هذه الوعود وسذاجتها كما كشف عن مدى تهافت الكثير من المفاهيم النيوليبرالية من قبيل التعاون الدولي والحكامة الدولية وبالمقابل أظهر أهمية المحلي وأهمية الاستقلال الذاتي والاعتماد على الذات والاستثمار في البحث العلمي وفي المورد البشري وفي التعليم عن بعد والجامعة أو المدرسة الإلكترونية من أجل بناء مجتمع المعرفة الذي نطمح إليه وأهمية مراجعة الطرق التي تدار بها الصحة العمومية والرعاية الصحية

على سبيل ذكركم لتدبير الدولة للصحة العمومية، كيف تبدو لكم سوسيولوجيا جدلية الدولة والصحة؟

يبدو لي أن علاقة الدولة بالصحة هي علاقة معقدة ومتشابكة ربما أكثر مما نعتقد؛ بحيث تتجاوز أن تكون مجرد علاقة حقوقية أو خدماتية، لتكون علاقة سياسية بامتياز شأنها شأن علاقة الدولة بباقي الخدمات العمومية. لأن علاقة الدولة بالصحة لا تنحصر فقط في دائرة الأجساد العليلة بل تشمل الحياة المجتمعية برمتها.
وهو ما نلاحظه اليوم؛ بحيث أن فيروس لامرئي دقيق وصغير جدا أربك كل أنظمة المجتمع، وعلى المستوى العالمي، بدء بالنظام الصحي مرورا بالنظام التربوي والاقتصادي وصولا إلى النظام السياسي. وبما أن الصحة هي رأسمال عمومي ثمين ومنبع وأس باقي الرساميل، كان من الطبيعي أن توليها الدولة الحديثة والمعاصرة اهتماما خاصا؛ بحيث لم تعد الدولة أمام مواطنين أو رعايا أو شعب، بل أصبحت أمام ساكنة وفق ما يعنيه مفهوم الساكنة عند ميشيل فوكو، باعتبارها ثروة عمومية ومشكلة اقتصادية وسياسية، وباعتبارها قوة عاملة لها ظواهرها الخاصة ومتغيرتها السوسيو-صحية التي تقتضي الضبط والمراقبة البانوبتيكية للولادة كما للموت، وللمرض كما للصحة، ولنمط الحياة والخصوبة والسكن والدخل والتغذية…إلخ

فمثلما أن هدف خدمة التعليم العمومي هو تدبير العقل العمومي ليس فقط من خلال نقل المعارف وتثبيت القيم وتشييد الكفاءات، بل أيضا عبر تمرير الإيديولوجيات وتدجين الوعي وتطبيع التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية عبر التعسف الثقافي واللغوي للتربية العمومية، فإن تدبير الدولة المعاصرة للخدمات الصحية يستهدف تدبير الجسد العمومي ليس فقط من خلال التشخيص والتطبيب والرعاية، وإنما أيضا من خلال تنظيم الجسد وترويضه لكي ينضبط اجتماعيا وسياسيا بما يخدم سلسلة الإنتاج المادي والرمزي ويعظم الثروة.

وذلك عبر التحكم في النسل مثلا، من خلال طب الأسرة والتخطيط الأسري وقانون الأسرة والزواج أو من خلال القانون الجنائي الذي يستهدف التحكم في السلوك الجنسي باعتباره المحدد الأساس لنمو الساكنة وتكاثرها، ونظرا لحساسية الجنس المفرطة ظل الجنس موضوع ضبط ومراقبة واستراتيجية سياسية لترويض الأجساد والأرواح وتسخيرها لخدمة الإنتاج الرأسمالي تحت يافطة حماية الصحة العمومية.
ولعل هذا ما يفسر تسييج الدولة والمجتمع معا الحياة الجنسية بالحظر والمراقبة والسجن والعقاب. وهو ما يبنه ميشيل فوكو بجلاء في تناوله لإشكالية المراقبة السيوسيو-سياسية للجسد ومساءلته لمقولة الصحة العمومية، وعلاقة المعرفة بالسلطة، والدولة بالإنسان، والمجتمع بالفرد، والشخص بالجسد، والاقتصاد بالرغبة. فعلى المستوى الجنساني مثلا أخضعت الدولة الحياة الجنسية لعمليات الضبط والمراقبة الاجتماعية والسياسية، مكرسة بذلك نظرة تشيئية للجنس بوصفه خطرا يهدد أمنها وصحتها واستقرارها. ولعل هذا ما سعى ميشيل فوكو إلى تعريته وكشف الحجاب عنه، انطلاقا من سؤال أساسي وجه بحثه في تاريخ الجنسانية وفي مفهوم الصحة العمومية وهو: لماذا يشكل السلوك الجنسي وما يرتبط به من أنشطة ومتع موضوع انشغال أخلاقي أكثر مما يشكله مثلا السلوك الغذائي أو الواجب المدني؟.
لهذا، فغاية السياسة الحيوية للدولة هي حماية الإنتاج والرفع منه وحينما تفعل ذلك فهي تعمل على حماية وجوده أولا عبر حماية الصحة العمومية من خلال التحكم في الجنس وفي عدد الولادة وعدد الوفيات، والتصدي للموت والأوبئة والأمراض والكوارث وكل ما يهدد بقاء الناس على قيد الحياة، وعبر تطوير تكنولوجياتها الطبية والدوائية والعلاجية، لضبط الحياة والإطالة في أمدها وترويضها بتكلفة علاجية منخفضة. فعبر هذه السياسية الحيوية تهيئ الفرد ليخدم سيرورة الإنتاج ولو على حساب الحياة ذاتها. وهنا تبرز أولوية البعد السياسي على البعد الاقتصادي في توجيه السلطة الحيوية والانضباطية للدولة في المجال الصحي. فعبر هاتين السلطتين تم تسيس الصحة وتحويلها من ظاهرة بيولوجية فردية إلى ظاهرة سياسية واجتماعية واقتصادية، تُقيَّم من خلالها اليوم جودة النظام السياسي ومشروعيته.

كيف يمكن فهم وتحليل المرض والصحة سوسيولوجيا؟

يمكن لهذا الفهم والتحليل أن يتحقق، من جهة أولى عبر نقد الفهم البيوطبي الاختزالي لمفهومي الصحة والمرض الذي يقدمهما بوصفهما حالتين جسديتين، أو اختلالين بيولوجيين، ليس بهدف مجاوزة هذا الفهم طبعا وإنما من أجل إثرائه علميا. ومن جهة ثانية، عبر تشيد فهم سوسيو-أنثروبولوجي لظاهرتي الصحة والمرض باعتبارهما ظاهرتين اجتماعيتين شموليتين، وبنائين سوسيو-ثقافيين مركبين، يختلف مدلولهما باختلاف نوعية الأمراض والأفراد والمجموعات والثقافات والسياقات…،
فإذا كان المرض يتحدد موضوعيا من وجهة نظر الطبيب، على أنه خلل وظيفي في إحدى أعضاء الجسم، يتم التعرف عليه انطلاقا من منظور وضعي يعامل الجسد بشكل مستقل عن روح المريض. فإنه يتحدد ذاتيا من قبل المريض الذي يضفي عليه معنى مغايرا تماما للفهم البيو-طبي، يرتبط بخبراته وبتجاربه وتمثلاته الاجتماعية للمرض وأسبابه وطرق معالجته.
وبذلك، لا يمكن النظر إلى المرض على أنه مجرد حالة بيولوجية خالصة، بل هو خبرة ذاتية وبناء اجتماعي له تأثيراته على الحياة الاجتماعية والنفسية للمريض ومحيطه. وهو انحراف غير مرغوب فيه اجتماعيا ومشاعر مضطربة واعتلالات يسميها الطبيب أعراضا ويعيشها المريض بوصفها حقائق ذاتية وتجارب أليمة. وهنا ينبغي أن نتساءل هل، فعلا، علاقة الطبيب بالمريض تأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة الفينومينولوجية، المتمثلة في التباين القائم بين مفهوم المرض كما يفهمه الطبيب، وذلك الذي يفهمه المريض، أم أن كل منهما يتفاعل مع حدث المرض وفق مفهومه الخاص؟ وكيف تتحول هاته العلاقة التباينية في مفهوم المرض بينهما إلى عائق سوسيو-ثقافي أمام ولوج المرضى إلى الخدمات الصحية والاستفادة منها والامتثال لأوامر الطبيب ونصائحه والمداومة على العلاج والتتبع الطبي والاقبال على التشخيص المبكر…إلخ؟
لهذا، يمكن للعلوم الاجتماعية عامة أن تفيدنا في فهم وتحليل سوء الفهم الكبير الذي يتخلل علاقة الأطباء بالمرضى، كما يمكنها أن تفيدنا في تفكيك شفرات البناء الثقافي للمرض والصحة، وفي تحليل وفهم سيرورات الانتقال الباثولوجي لكثلة الأمراض، وأثر هذه الانتقال على الحياة الاجتماعية وعلى الاقتصاد والسياسية وعلى أنظمة الرعاية الصحية في المجتمعات المعاصرة. ففي الدول المتقدمة أصبح اليوم الاهتمام منصبا أكثر على المقاربة السوسيو-أنثروبولوجي في مجال التصدي للأمراض خاصة المزمنة منها، نظرا لأهمية المداخل السلوكية والاجتماعية والثقافية والنفسية التي تقترحها هذه المقاربة، كبديل لأنظمة الرعاية الصحية في صورتها الطبية الحيوية، في التصدي لمعضلة الأمراض المزمنة.
خاصة أن سبب عدد كبير منها، يعود بالدرجة الأولى إلى نمط العيش وأسلوب حياة الفرد وسلوكه الغذائي ومدى مزاولته للتمارين الرياضية وإقباله على التدخين والكحول…إلخ، وبيئته وظروف عمله وطبقته وجنسه وسنه ودخله وأسرته. مما أدى إلى تغير على مستوى مفهوم المريض وعلاقته بالطبيب ومقدمي الرعاية الصحية. فلم يعد العلاج والرعاية يتوجهان إلى المرض فقط بل أيضا إلى المريض بوصفه فاعلا في السيرورة العلاجية التي يمتزج فيها أكثر من نموذج طبي ونمط علاجي (حيوي، شعبي، بديل…).

كان موضوع أطروحتكم في الدكتوراه حول الإيدز والهوية الموصومة في المغرب، كيف تبدو لكم السياسة الصحية للدولة في هذا المجال؟

من خلال تحليلي لمضمون الاستراتيجيات الوطنية لمحاربة الإيدز ومقارنتها بالواقع المعيش وبالتجارب الحياتية للمرضى، استخلصت أنه رغم أهمية الجهود المبذولة على مستوى السياسة الصحية المتبعة من طرف وزارة الصحة بالمغرب في مجال محاربة الإيدز وحماية الصحة العمومية وتجويد خدمات الرعاية الصحية المقدمة بالمؤسسات الاستشفائية والمراكز الصحية، للأشخاص المصابين بهذا الداء، إلا أن هذه السياسة لا زالت تهتم بالمرض أكثر من اهتمامها بالمريض كشخص، وحينما تهتم بالمريض فإنها تهتم به من زاوية المرض، أي بهدف محاصرة الفيروس في جسد المريض حتى لا يتحول إلى وباء معمم بالمجتمع وبهدف حماية الصحة العمومية باعتبارها صراع علمي وسياسي من أجل استئصال المكونات الموبوءة من المجتمع.
لذا، وجدنا أن الرعاية الصحية والسياسيات العمومية في هذا المجال، تركز كثيرا على العلاج الذي يوزع بالمجان على المصابين، دونما اهتمام كاف بالجوانب الحقوقية والاجتماعية والثقافية والنفسية والمهنية والصحية والوقائية المرتبطة بالتحولات التي تطرأ على حياة المصابين بعد حدث الإصابة. ولا بالعوائق السوسيو-اقتصادية والسوسيو-ثقافية التي تحول دون فعالية المقاربة الوقائية في مجال محاربة الإيدز، ودون الولوج إلى خدمات الكشف المبكر عن الفيروس، وإلى العلاج، والقضاء، والعمل، والإعلام، وإلى الفضاء العمومي بشكل عام.
ولا بالرعاية الشمولية لأجساد وأرواح المصابين بالإيدز، بالمعنى الذي يجعل هذه الرعاية تتماشى مع تعريف منظمة الصحة العالمية للصحة بوصفها ليست غيابا للمرض وإنما حالة من الاكتمال البدني والعقلي والاجتماعي. وهو ما يستوجب توسيع مفهوم الرعاية الصحية الجيدة كحق إنساني لكل مريض، ليشمل بالإضافة إلى التكفل العلاجي التكفل النفسي والاجتماعي والقانوني والاقتصادي بالمصابين، خاصة منهم أولئك الذين تتسم أوضاعهم الاجتماعية بالهشاشة الصحية والنفسية والمعرفية والسوسيو-اقتصادية.
في ردّ الفعل تجاه ما أعقب كورونا من صخب، فرّ بعضنا إلى “الدّين” احتماء من خطر الوباء، ولاذ آخرون بـ”العلم” اعتقادا أنه هو الملجأ، واختارت فئة عريضة “اللامبالاة” أمام الحدث، مثلما استلهم آخرون “الفلسفة” لفهم ما يقع، كيف تقرأ هذا الوضع؟
من البديهي أن يفرز حدث مجتمعي نادر وغير متوقع بحجم فيروس كورونا، ردود أفعال متباينة من حيث الشكل والمضمون، ومن حيث طرق الاستجابة أيضا للزمن الاستثنائي الذي نجم هذه الجائحة العالمية، لأن جميع الأحداث الكبرى التي تتجاوز الوجود الفردي وتشمل الوجود الجماعي المشترك تتطلب تفسيرا لفهم طبيعتها وأسبابها وانعكاساته المتعددة.
وفي نظري حدث كورونا لا يشد عن هذه القاعدة؛ بحيث لم يكن مجرد حدث فردي أو بيوطبي صرف، بل ظهر على أنه حدث اجتماعي كلي وشامل “Un évènement social total” تتوفر فيه كل خصائص الظاهرة الاجتماعية الشاملة عند مارسيل موس، ومادام كذلك فهو لم يبنى علميا وبشكل موضوعي من طرف المعرفة العلمية العالمة للعلوم البيو-طبية أو العلوم الاجتماعية والإنسانية، بل أيضا خضع لسيرورة بناء من طرف المعرفة الاجتماعية العامية؛ وأظهرت العديد من الخطابات التي انتجت بصدده منذ وقوعه بأنه بناء اجتماعي خضع ولا يزال لمنطق التأويلات الاجتماعية والدينية والثقافية التي انحصر تفكير أصحابها في تشييد تمثلات عديدة تربط هذا الحدث تارة بالحرب البيولوجية، وتارة بتآمر الأجنبي أو ما يسمى بنظرية المؤامرة وتارة بالعقاب الإلهي والفساد…إلخ.
لذا، فالظواهر المرتبطة بالجسد كالصحة والمرض والموت والإعاقة…إلخ، تستثير وتحي المخيال الجمعي ولا تحتاج منا الكثير من الوقت لكي ندرك تداخل البيولوجي فيها مع الاجتماعي والرمزي والثقافي والديني، ولعل هذا ما يفسر في نظري التباين الحاصل في استجابة وردود أفعال الأفراد تجاه هذا الحدث المباغت، وهذا التداخل والتباين ليس حكرا على المجتمعات التي تدعى “متخلفة”، بل حتى المجتمعات التي تعدى “متقدمة” تعزو هذه الظواهر إلى أسباب اجتماعية وثقافية وذاتية بعيدة عن الأسباب الموضوعية البيو-الطبية للمرض.

المصدر: جريدة فور التنمية ونشره ب”دابا بريس” باتفاق مع الباحث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى