رأي/ كرونيك

محمد الحبيب طالب يكتب: أمريكا و الأوضاع العربية المشرقية… (البؤرة اللبنانية)

كتبت هذه المقالة، والشعب الفلسطيني يخوض من أقصاه إلى أقصاه، وبجميع أجياله و مكوناته، أروع البطولات المذهلة، والتي لم يسبق لها مثيل، من أجل القدس و من أجل تحرره وتقرير مصيره. إنه منعطف تاريخي كبير، سيكون له ما بعده على القضية وعلى عموم المنطقة العربية. وسأعود إلى ذلك في الإستخلاصات التركيبية العامة في المقالة القادمة.

وقبل أن أتابع ما بقي لي في العنوان أعلاه، قد يكون من الضروري في البدء، الوقوف قليلا عند بعض عناصر اللبس التي اكتنفت هذه المرحلة، وكان لها التأثير القوي على طريقة تعاطي العديد غير القليل من المثقفين والسياسيين والفاعلين عامةمع هذهالأوضاع التي سنتناولها، وإلا تعذر الوصول إلى التفاهمات المرجوة حولها.

من هذه العناصر التي تفشت في التداول السياسي وصارت على كل لسان، وخاصة لدى من يُطلق عليهم الخبراء الإعلاميون، نبذ ما يسمونه “بنظرية المؤامرة”.والمقصود من هذه النظرية المزعومة، لأن لا وجود لنظرية من هذا النوع، الإدانة المسبقة لأي تحليل لا يهمل الأدوار الكبرى للتدخلات الخارجية في ما آلت إليه أوضاع هذه البلدان العربية.وليس عسيرا على المرء أن يتفهم السياق العربي الذي ضخم هذا التأويل الإنكاري لدور المؤامرات الخارجية، لأنه جاء كرد فعل نقيض وقصووي على تفكير سائد في السابق،كان يعلق جميع معضلات التأخر المجتمعي على شماعة التدخلات الأمبريالية.

لكنه أراد أن يتخلص من هذه المغالطة بمغالطة أخرى أسوء وأشد خطرا من سابقتها.و البداهة تقول، أن العلاقات الدولية لم تخل قط، ومند قدم التاريخ، من عنصر المؤامرة، الخشنة والدامية (الاحتلال والحروب بالوكالة، والانقلابات، والاغتيالات) أو الناعمة، والتي تخفي مآربها تحت شعارات أوأهداف جاذبة تكسبها قدرا من المشروعية. وقد بلغ تطور هذا الجانب في العلاقات الدولية، أن بات لكل دولة جهازها المخابراتي، كأهم مؤسسة، بجانب قواتها المسلحة، من مؤسسات الدولة الحديثة، والذي يختص بهذه المهمات التمهيدية، إما لحماية الوطن، وإما، وأيضا، لتنظيم التدخلات الخارجية الممكنة بحسب وزن الدولة وتموقعها في صراع المصالح الدولية.

ومن بين الظواهر الحديثة في هذه المأسسة تشكيل مؤسسات فرعية للبحوث،تضع السيناريوهات لأجهزة المخابرات ولأصحاب القرار، واستخدام وسائل ناعمة عديدة أخرى، منها الإعلام والغزو الثقافي والأيديولوجي، وجمعيات المجتمع المدني، والذباب الإلكتروني، والهجومات السبرانية،واختراق المعلومات الشخصية من وسائط التواصل الاجتماعي، والعقوبات الاقتصادية،والتجسس الاقتصادي أو مابات يعرف ب(القاتل الاقتصادي)… ولا حاجة لتحليل هذه البنية المؤسساتية وأساليبها المتنوعة، لأن الغاية من ذكرعناوينها التشديد على أنها عناصر مادية ملموسة لا تغيب عن أي إنسان عاقل في أزمنتنا الراهنة.

ولنأخذ على سبيل المثال، قضية واحدة لها صلة مباشرة بموضوعنا:

إنها قضية إغتيال القائد اللبناني رفيق الحريري في 2005. وإذا ما تجاهلنا حملات البروباغندا الإعلامية المنسقة دوليا، لتلفيق الاتهام بالجريمة للنظام السوري، وحاولنا التفكير بموضوعية في سياق الحدث وتوابعه واستهدافاته، فلن نجانب الصواب إذا ما جزمنا، ومن الوهلة الأولى أن أصحاب الجريمة أرادوا تحديدا، إثارة الفتنة الأهلية في لبنان، وتأليب المجتمع اللبناني ضد سوريا (انتفاضة الأرز!) وتحقيق خروج مذل لقواتها من لبنان، وخلق انشقاق عدائي يُضعف القوى الحليفة لسوريا، وفي مقدمتها “حزب الله” تمهيدا، وكما بين تسلسل الأحداث، للحرب العدوانية الإسرائيلية ل 2006 بهدف القضاء على حزب الله خصوصا، ومن تم الشروع في ما أسمته وزيرة الخارجية الأمريكية ( كندا ليزا رايس) بالشرق الأوسط الجديد !

هكذا كان منطق تسلسل الأحداث. وشهد على طابعها المؤامراتي، فضيحة طبخة لجنة التحقيق الدولية وما أعدته من فبركة واعتقالات وشهود زور، وتم قبرها لفضاحتها المدوية وسوء حبكتها! ولو كان التحقيق جديا من قبل المحكمة الدولية الخاصة التي عوضت اللجنة السابقة، وشرعت في أعمالها بلا قرار ظني مسبق، لبدأت التحقيق من تلك الفضيحة المفبركة التي أُقبرت بلا مساءلة، لكي تهتدي إلى المتآمرين الحقيقيين، ولما تمخض الجبل وولد فأراً.

إذ بدل سوريا النظام في الاتهام الأول سيكون المتهم الضمني هذه المرة حزب الله. وفي النهاية، صدر الحكم غيابيا على أحد مناضليه لا أكثر، لعدم وجود أدلة تورط الحزب. واحد فقط ، بصرف النظر عن هشاشة الأدلة ، وراء جريمة كبرى ومعقدة. ومن حسن الحظ، صدر الحكم بعد أن فقد المجتمع اللبناني ثقته في المحكمة وفي العدالة الدولية!

أكتفي بهذا المثل من بين عشرات الوقائع القديمة والحديثة، وعلى رأسها أكذوبة، أن العراق كان يملك أسلحة الدمار الشامل، والتي بررت بها أمريكا تنفيذ مخططها في شن الحرب على العراق لتدمير كيانه ودولته، وخارج الشرعية الدولية، وما زالت مخلفات الحرب الكارثية قائمة إلى اليوم.

إنها وقائع لا عدً لها تبين الأساليب التآمرية التي تلجأ إليها القوى الغربية المعادية لنهوض هذه المنطقة العربية خصوصا، وتُبين كيف باستطاعتها أن تتلاعب ب ” المجتمع الدولي”ومنظماته، وأن تجعل من أكاذيبها بحملات إعلامية دولية منسقة حقائق لا يستطيع الرأي العام التشكيك في دوافعها إلا بعد صعوبات جمة.

وإذا ما تمعنا جيدا في الوظيفة التي يشغلها، في زمن الهيمنة الأمريكية، هذا التداول(الإعلامي) الموسع لنبذ ما سمي زورا” بنظرية المؤامرة”،لأدركنا خطورة هذا “الغسل الجماعي للأدمغة” في المرامي التالية:

من جهة، تعميم البلادة السياسية والعماء الإيديولوجي. وبعبارة أخرى، تعميم” ثقافة القطيع” الفاقدة لأي حس نقدي والمطواعة لتلاعبات الإعلام الدولي.

ومن جهة ثانية، تعبيد الطريق أمام توغل الهيمنة الأمريكية والغربية بوجه عام، بتبرئة سياساتهم مسبقا من أي مصالح عدائية وأعمال دنيئة، وتطهير تاريخهم وأهدافهم من كل الذنوب. وبالتالي، لا طريق أخر للتقدم إلا بالتبعية والاستسلام لهم.
ومن جهة ثالثة: تغيير وجهة النقد الموضوعي العقلاني والوطني(وأشدد على الوطني) لتأخر مجتمعاتنا وأنظمتنا إلى جلد للذات تيئيسي ومحبط وفاقد للبوصلة الوطنية التحررية.

ولعل هذا هو الفرق الجوهري بين نقد اليسار منذالسبعينيات للأيدلوجية التقليدية المهزومة والثاوية خلف هزيمة 67، والذي حافظ على إرادة الأمة في التحرر قوية ومتواصلة، وبين النقد الليبرالي الاستنساخي والتأخري، والذي يقدم نفسه بديلا، بينما هو يكرس التبعية ويتنصل من المسؤوليات القومية التحررية ويسوق إلى الهزيمة النفسية.

إنها في الأخير، “بضاعة مخدرة” يقوم بتهريبها وتسويقها أيدلوجيو وإعلاميو النيوليبرالية العالمية. وليس صدفة، لمتانة الصلة مع هذه البروبغندا، أن أشباههم في البلدان العربية،من حاملي ليبرالية استنساخيه تأخريه وممن ركبوا الموجات الشعبية الإحتجاجية، وتصدروا زعاماتها،صنموا الديمقراطية شكلا، بينما استصغروا المسألة الوطنية الأساس، وهم في بلدان تقع في فوهة جغرافيتها الصدامية الساخنة. وحينما يتناولونها، تحت ضغط الأحداث، يمارسون ما كان الراحل”ياسين الحافظ” يسميه” بالشلف التأويلي “، أي أنهم يبحثون عن تفسيرات غرضها الوحيد أن تكذب، أن ما يظهر للعيان منالوقائع العنيدة للصراع الوطني الذي يخوضه غيرهم ضد حلفائهم الغربيين والإقليميين، ليس إلا واقعا مقنعا باطنه غير ظاهره بالمرة. وبهذه الطريقة الشلفية يسهل عليهم تبخيس وجود مسألة وطنية تخربق منطلقاتهم ومنظوراتهم وتحالفاتهم، وتكشف عن تبعيتهم المطلقة لنفس الأعداء. وهذا جوهر ما تنطوي عليه بؤر الصراع التالية.

-1-

كان الحديث عن نبذ فكرة المؤامرة وأبعادها مدخلا ضروريا لولوج أدغالها في لبنان وسوريا والعراق(ناهيك عن اليمن وفلسطين). وقد قلت، أن مآل الصراع في هذه الأوطان،سيكون فاصلا في تطور الاتجاه العام للأوضاع العربية في المستقبل المنظور. ويعود ذلك إلى أنها جميعا بؤر المواجهة مع الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية.

والبدءُ بلبنان.هذا البلد العربي الحديث النشأة الكيانية بين1920 (دولة لبنان الكبير) و1943 (سنة الاستقلال عن الانتداب الفرنسي). إنه بلد المفارقات الكبرى. فهو البلد الذي تمتع أهله بأوسع جميع الحريات في التعبير، لم يصلها بعد أي بلد عربي، لكن منظومته الديمقراطية ولدت من الأصل معاقة البنية لقيودها الطائفية والمذهبية. وهو البلد الذي تزي نظامه في الإقطاع السياسي بزي البرجوازي المدني الذي يقوم مشرقيا بدور الوسيط المالي والتجاري، حتى خيل للبعض أنه نسخة أخرى لسويسرا ثانية في الشرق العربي.

لكن الأحوال تغيرت بتغير أحوال المنطقة، وما بقي من سويسرا المزعومة سوى ” الحياد الموهوم”الذي مازال يداعب خيالا تآتية من الماضي.وهو البلد الذي قدم خدمات جلى للثقافة واللغة العربيتين، والذي احتضن الثورة الفلسطينية بسخاء، وأنجب من بينه مقاومة مقتدرة منحته المِنعة والقوة الرادعة، لكن العروبة التحررية فيه ما انفكت تعاني من شد وجذب، والحنين إلى ماضي ” قوة لبنان في ضعفه” ما زالت رياحه تهب بين منعطف وآخر!

مفارقات عديدة سأحاول الوقوف سريعا عند بعض خلفياتها.

قد يتعجب المرء كيف لكيان يعيش أوج أزماته الاقتصادية والاجتماعية، تضعه على حافة الإفلاس والفوضى، لا يستطيع (أو لا يريد) الرئيس المكلف، لنحو سبعة أشهر مضت، تشكيل حكومته (؟!).والدستور لا يلزمه بمدة محددة.

وقد يكون هذا السماح الدستوري اللامحدود، حكمت خلفياته لدى المشرعين الروح الطائفية المذهبية للهندسة الدستورية. فما دام رئيس الحكومة ينبغي أن يكون،بالعرف، سني المذهب، و له افتراضا، التمثيلية الشعبية الأوسع، فإن أيً أزمة في التشكيل من النوع الحالي،سوف تنم بالضرورة عن أزمة بين الطوائف والمذاهب، وحلها سيكون أكبر وأصعب من تقنين زمني دستوري قد يعقدها ولا يساعد على حلها. و في جميع الحالات ، ليست هذه أول مرة تقع فيها أزمات من هذا النوع، فهذه من خصائص لبنان الذي تنشد اللعبة السياسية الطائفية فيه إلى تغير توازنات التدخلات الخارجية المؤثرة عليه في كل مرحلة.

وإذا كان ليس بالوسع، هنا، تحليل هذه البنية في شموليتها: الكيان، والنظام الطائفي، والدولة، والصراعات الاجتماعية والسياسية في مراحلها المختلفة، فبالإمكان تقديم بعض الاستخلاصات الراهنة منها:

– دلت الخبرة النضالية للصراعات الاجتماعية في لبنان، أن للنظام الطائفي قدرة على احتوائها واحتجازها بالقدر الذي لايخل باستمراريته.

ولعل تجربة الحركة الوطنية في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وطرحها لبرنامج وطني واجتماعي وقومي يسمو على النظام الطائفي وما كان يحمله من اتجاهات انعزالية تفكيكية للكيان اللبناني، كانت، في نظري،أرقى ما استطاعه الصراع الاجتماعي سواء فيما قبل أو ما بعد.

وأعني ما يجرى في الحاضر من حراك شعبي متتالي الهبات، بدءا بحركة ” طلعت ريحتكن” إلى الأخيرة الموجهة ضد النظام الطائفي في كليته “كُلكن يعني كلكُن “.

وقد رأينا خلال عقد ونصف كيف هوت تلك التجربة الاجتماعية الأرقى إلى ردود أفعال جرًتها إلى فتنة أهلية، عمقت الانشقاقات الطائفية، وشرعت الأبواب لدينامية تدخلات خارجية لم تكن تتوقعها، فرضت على لبنان باختلاف الدوافع وصاية جماعية سعودية وسورية وأمريكية، لم تقف عند حدود وأد الفتنة، وتحقيق المصالحة الوطنية بل اختلطت باجتياح إسرائيلي وبعزم أمريكي وجدا في الفتنة الأهلية فرصة لإنهاء وجود المقاومة الفلسطينية ولترحيلها.

بينما وجدت الحركة الوطنية نفسها متلبكة سياسيا وتخوض معارك على عدة جبهات فوق ما كانت تتوقعه وتتحمله. وإذا كانت هذه الصيرورة تكشف عن أعطاب في تصورها وتقديراتها لنضج المجتمع اللبناني لثورة وطنيةديمقراطية تحررية، فإن امتيازها مع ذلك عما تلاها من هبات شعبية، أنها كانت بقيادة منظمة ولها برنامجها الوطني الإصلاحي الشامل. وعلى غير الهبات الحديثة الغارقة في العفوية، كما هي جل الانتفاضاتذاتالنفسالشعبوي في زمن التواصل الاجتماعي، الشديد الحساسية من الحزبية بوجه عام، و الرافض مبدئيا لأية قيادة توحدها، و لو كانت منها! والأنكى من ذلك تقزيمها أو إهمالها أو تعليقها للمسألة الوطنية والبلد في فوهة العدوان الإسرائيلي. ولغياب هذا العنصرالوطني تحديدا و في كل الهبات الشبيهة،تركب شعاراتها العامة غير المحددة البرنامج قوى مضادة لها تسخرها لغير مصالحها.

– يكاد الصراع السياسي في لبنان يتمحور، داخليا وخارجيا، حول الموقف من حزب الله. والعنوان بحد ذاته ينطوي على الموقف من المسألة الوطنية التحررية في تموقع لبنان في الصراع مع إسرائيل وحماتها المتواطئين معها. لذك وجب التفكير و الاختيار. ولكي لا أطيل في سرديات التآمر لعزل الحزب والقضاء عليه، فمن الأفضل تركيز الاستنتاجات التالية:

أولا: أثبتت المقاومة اللبنانية جدارتها الوطنية بإنجازها التاريخي في تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي وبلا شروط. ثم تلاه انتصار آخر على العدوان الإسرائيلي في حرب 2006،والذي كان يستهدف، ليس فقط تدمير المنظومة التسليحية لحزب الله،وعقد صلح إذعان من لبنان مع إسرائيل، بل المضي من هذا المدخل لتنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد، كما أعلنت عنه بعنجهية وفي عز الحرب العدوانية وزيرة الخارجية الأمريكية وقتداك. وأسفرت الحرب بعد أزيد من أربعين يوما على هزيمة مدوية للتفوق الاستراتيجي الإسرائيلي.

ومن تمً تغيرت، ولأول مرة، معادلات الردع في المنطقة. كما خاض حزب الله وبتعاون مع الجيش اللبناني الحرب على المنظمات الإرهابية على جانبي الحدود السورية – اللبنانية، وتحمل حزب الله أثقالها القتالية الكبرى لتمركز المنظمات الإرهابية على الجانب السوري من الحدود، والتي كانت تتأهب لدخول لبنان والاستقرار فيه.

وما عاد أحد، اليوم، وبشهادة الخبراء العسكريين أنفسهم، يجادل في أن المقاومة اللبنانية باتت تشكل قوة ردعية يحسب لها ألف حساب، وكيف أنها أضحت الخطر الأكبر في المنطقة الذي يتهدد إسرائيل ومخططاتها. وليست المعارك القتالية إلا وجها واحدا من وجوه الصراع اليومي،المخابراتي والسياسي والديبلوماسي والشيطنة الأخلاقية والتمويل المالي والتشهير الإعلامي، تتآزر في حبكها جميعا دول كبرى وقوى محلية وعربية نافدة،وبقدرات هائلة لم تواجهها قط أية مقاومة سابقة في التجارب الوطنية التحررية العالمية. والمقاومة لا تزيد إلا قوة ومناعة وخبرة!

ثانيا: لم يكن من خيار آخر سوى أن يشارك حزب الله في الإدارة الحكومية لشؤون البلد اللبناني. لدوافع عدة، منها، أن انعزاله عن حاجيات الناس في كافة القطاعات يضر بالمقاومة ويصب في تجفيف علاقاتها مع أوسع مكونات المجتمع اللبناني. ومنها أيضا، وأساسا، الحفاظ على الحد الأدنى الوطني للدولة في الصراع مع إسرائيلوحلفائها في المنطقة ، خاصة وأن الدولةتعاني من نقص مزمن في سيادتها، ولهذا كانت تراعي التوازنات الخارجية لتستكمل استحقاقا ما في هيكلتها الانتخابية الدستورية. كما هو حال ُتعثر التشكيل الحكومي اليوم. وانه لحدث ذو دلالة كبرى، فقد رأينا كيف أقدمت حكومة الرئيس السنيورة ذات اللون السياسي الواحد،وحزب الله كان خارجها، على قرار خطير،استهدفت منه، فك المنظومة التقنية للتواصل الداخلي للمقاومة، وتجريدها من أهم أدرعها القتالية عند الاقتضاء. وكاد القرار أن يشعل فتنة أهلية ضارية، لولا إحباطه الفوري، و بالقوة، من قبل المقاومة، و اضطرار الحكومة للتراجع عنه.

انه مثال وحسب عما يخلفه ترك المقعد الحكومي شاغرا على التوازنات الداخلية،وعلى الحفاظ على الحد الأدنى الوطني المشترك. ولا يزال نفس المسعى الذي تحاوله الولايات المتحدة و بعض حلفائها العرب لعزل حزب الله عن أي مشاركة له في السلطة، لكي تكون أكثر حرية في اتخاذ السياسات المناوئة، ولكي تُكسرمبدأ وحدة “الشعب والجيش والمقاومة” الذي تبنته الحكومات التي شارك فيها الحزب.

و قد لا يغيب عمن تمعن في التجربة برمتها، أن حزب الله لا يرى بعد، أن الظروف العامة الذاتية اللبنانية، و موازين القوى الخارجية، قد نضجت بالقدر الكافي لتجاوز النظام الطائفي، على علاته و أزمته المتفاقمة، وأن التقدم بخطى حثيثة نحو إنضاج توافق أوسع على مشروع وطني انقادي ما زال هو الطريق الإصلاحي الأسلم. لكن هذا الخيار، الذي لم تخطئه بعد الوقائع الجارية، لم يسْلَم بدوره من اعتوار وحتى شبهات طائفية يتركها لدى حاملي شعارات ” كلهن يعني كلهن” !

ومع ذلك، يظل هو الخيار العقلاني الممكن، ما دامت بدائله الشعبية غير مكتملة بعد. وهنا تخطر لي ملاحظة جوهرية، إذا ما تأملنا أعمق في مغزى التعاقد الجاري بين التيار الوطني الحر وحزب الله، ومند سنوات، قد نستشف منه ما هو أبعد من مجرد تحالف سياسي مصلحي لحزبين ينتمي كل منهما لطائفة معينة، مسيحية و شيعية. والاستنتاج بالأحرى أكبر من ذلك. ومفاده أن الطريق لتجاوز النظام الطائفي، وبنفس التكوين الحزبي القائم، يمر حتما من تحالفات تقوم أساسا على مبدأين أساسيين، الموقف من المسألة الوطنية تجاه إسرائيل والالتزام بالانتماء العروبي التحرري. وهما القاسمان المشتركان الأساسيان في تفاهمات الحزبين، أكثر من اتفاقاتهما على جميع القضايا الأخرى.

وعندما يشمل هذا التفاهم أوسع القوى السياسية من جميع الطوائف والمذاهب، يستطيع المجتمع حينها، لمتانة وحدته الكيانية، ولتواري الاستقطابات الانشقاقية العمودية والحابلة بالفتنة، أن يراكم بشكل أفضل خطواته الديمقراطية الإصلاحية نحو التقدم، وتأخذ تناقضاته الاجتماعية دينامكيتها السوية في كيان متضامن على أرضية وطنية واحدة. وبتعبير آخر، لا يمكن للصراع الاجتماعي ان يخترق السقف الطائفي، إذا كان المجتمع منقسما طائفيا ومذهبيا على مسألته الوطنية الجامعة. ومن هذا المنظور، فإن المصالحات والتموقعات الجارية مؤخرا بين دول المنطقة، ستحيي معها بالضرورة في بلد شديد الارتباط بها، أجواء التساكن والتفاعل الايجابيين بين مكونات المجتمع اللبناني. وفي موازاتها ستنتعش لدى التيار السني خصوصا، وهو قوة كبرى، التوجهات الوطنية التحررية التي كان تاريخيا هو حاملها. لولا ما حدث من إختراقات ثقافية وتحولات اجتماعية تحتاج إلى وقفة خاصة.

ثالثا بعد تجربة “حركة المحرومين” لقائدها المختطف ” موسى الصدر”، و بعد بزوغ حركة أمل لزعيمها نبيه بري، كان لحزب الله اليد العليا في نقل الطائفة الشيعية من رقم اجتماعي و سياسي مهمل و مهمش وبلا دور ولا حقوق، إلى قيادة وطنية تحررية لها وزنها الكبير في المجتمع اللبناني. وهذه حقيقة لا مراء فيها. وقد لا يغيب عن ذهن من يتابع الحركية الأيديولوجية للحزب، أنها تتطور نحو التشبع بالدولة المدنية وإلى أوسع أبعادها. فلا شبهة إطلاقا في اعترافه بالدولة المدنية وسعيه المتريث إلى تجاوز النظام السياسي الطائفي. وليس في واقع المذهب الشيعي الإثنى عشري ما يلزمه في بلده بولاية الفقيه. وهذه الأخيرة أضحت في إيديولوجية الحزب مرجعية دينية روحية خالصة، لا صلة أوامرية لها بالنظام السياسي اللبناني الذي يريده الحزب.

ولا ينبغي أن ننسى أن فكرة ” ولاية الفقيه ” جاءت لتفك أزمة انحباس وجمود عانى منها طيلة قرون المذهب الشيعي الإثنى عشري، في انتظار عودة الإمام المهدي الغائب. وقد بلغ هذا التعطيل في المذهب، أن حرًم على أحيائه “الثورة والدولة ” في عصر غيبة الإمام، وإلى حين ظهوره. وأخيرا تمكنت نظرية ولاية الفقيه، بعد محاولات إصلاحية جزئية سابقة في قضايا شرعية عديدة، من أن تحرر المذهب من عطالته المطلقة و من تلك الانتظارية المثالية المأزومة. فكان أن أنجزت الثورة في ايران وأقامت نظامهاالسياسي على التوفيق بين المؤسسات الحديثة ولأخرى من ولاية الفقيه. وكان لها الفوز في إيران، تحديدا، لعنصرين أساسيين على الأقل، هيمنة المذهب على أغلبية المجتمع، والتنظيم الهرمي العريق والقوي النفوذ لرجال الدين. وليس هذا كل واقع لبنان والعراق وغيرهما. وسيكون بالتالي من الإستبلاد والتضليل التهويش على حزب الله بأنه يعتزم استنساخ التجربة الإيرانية في بلد تعددية الطوائف فيه تفقأ العينين!

لكل ما سبق، أجد أن عداوة الحداثيين الاستنساخيين تقوم على مغالطات تتحاشى التمييز بين ثلاثة مستويات في النقد الأيديولوجي. بين تحديد الوظيفة التاريخية التي تضطلع بها أي إيديولوجيا، إيجابا أو سلبا، والتي يحكمها الواقع المادي الاقتصادي و التقني و العلمي من جهة والتراكمات العميقة في التطور التاريخي للمجتمع من جهة ثانية. وهذه مسألة معقدة لأن تناقضاتها ملتبسة و مندغمة مع بعضها بالضرورة. وبين النقد المعرفي الخالص الذي يتجاوز الوضع القائم لينير الفكر ويوسع من اختياراته. وبين تعيين الموقف من تموقعات تلك الأيديولوجية في الصراعات الاجتماعية والدولية. إنها ثلاثة مستويات مترابطة لكنها متمايزة ولكل تركيب لها استنتاجاته الخاصة.

ولأنهم يخلطون بينها، ودائما على حساب أولوية المسألة الوطنية التحررية، نراهم في تحليلاتهم لوقائع الصراع العيانية والملموسة، يلجؤون إلى ما لمحت إليه في “الشلفية التأويلية ” ليبينوا أن ما هو ظاهر وملموس للعيان لا يحتوي على ذرة واحدة من الحقيقة الخفية عندهم. إنها مواقف تحتوي، بوعي أو بلا وعي، على جرثومة الطائفية ومن عند نفس نقادها الحدثيين!

فهل أحتاج لتحليل مطول لتقاطع هوسهم بنزع سلاح حزب الله بدريعة بناء الدولة الحديثة المطلقة السيادة، مع نفس الدعوة من إسرائيل وأمريكا و حلفائهما، بينما الدولة الواقعية محرم على جيشها أن يملك القدرات التسليحية الرادعة، وتشكو من عناصر تخلف أخرى أسبق أولوية…

أليس هوسهم هذا الا واحدا من الأعراض النفسية “للوسواس القهري الطائفي الذي ما زالوا يعانون منه”. وفي النهاية، فإن كل هذا لايعفي حزب الله، من أن يعمق منظوره للدولة المدنية لتشمل عوائقها المجتمعية الأخرى في وحدة مناهج التعليم وبناء المدرسة الوطنية الموحدة وقانون الأسرة الموحد المدني، والمساواة الجندرية التامة،وكإجراء انتقالي وضع كوطا لتمثيل النساء في المجالس المنتخبة،وغير ذلك من القضايا التي بدونها تستمر الطائفية على توالدها حتى بعد إلغائها من السطح السياسي.

-2-
فكيف إذن هو الوضع اللبناني العام في الراهن؟

لا يجهل أحد، أن لبنان يمر بأعقد وأسوء أزماته الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية. حتى أن بعض المحللين يعتبرونها في المجالات السابقة أخطر من الأزمة المعقدة التي عاشها لبنان طيلة سنوات الحرب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي. ويكفي دليلا أن ما تحت خط الفقر طال نصف المجتمع، وهو الذي كان يتمتع بفئات وسطى عريضة، عاشت قبل السبعينيات، في “بحبوحة” نسبية. ثم تغيرت الأحوال ببطء، لكن مكانتها الاجتماعية بقيت مع ذلك متميزة عن الهوة السحيقة الحالية. مرد هذه الأزمة يعود إلى عوامل عدة، منها التغييرات الاقتصادية والسياسية التي حدثت على المحيط العربي، والتي أضاعت للبنان بعض الامتيازات التي كان يستفيد ها. ومنها تراكم مخلفات سياسات الحكومات المتعاقبة لما بعد اتفاقية الطائف. وهي سياسات التي أُفضل أن أسميها ولو مؤقتا ب “شبه الرأس مالية “، لأنها، كبنية اقتصادية، ليست رأسمالية بالمعنى الأصيل التقليدي. ولا هي ” نيوليبرالية ” إلا من حيث أن سقف اختياراتها لا يخرج عن التراتبية والوظيفية الذين تراهما لها المصالح النيوليبيرالي (الحقيقية) على المستوى العالمي.
ولان وضع الدولة في لبنان ضعيف ونظامها طائفي فان الأزمة تأخذ أحجاما مهولة، أبعد أثرا من المضاعفات السلبية التي تنميها السياسات “الشبه رأسمالية” في كافة البلدان العربية. وأخص من ذلك، توغل الفساد بكل أشكاله، والذي بلغ في لبنان أحجاما ما عادت تطاق، ولا عاد الاقتصاد الوطني قادرا الوقوف
على رجليه إذا ما استمر الوضع على حاله. و إذا كان الفساد بكل أشكاله يتلازم في بلداننا العربية مع النقص الكبير في حقوق المواطنة، ومع انحطاط سمو القانون، وهزالة وشكلية ادوار المؤسسات التمثيلية المنتخبة، و تدني استقلالية القضاء فلا جدال، أن التركيبة الطائفية في لبنان تزيد على هذه العلل، أنها تضفي على الفساد نوعا من التغطية والحماية في بلد كل شيء فيه تحكمه ردود أفعال طائفية و مذهبية.

لعل المثال الأبرز اليوم، دور المصرف المركزي ومديره لربع قرن “رياض سلامة “. إذفجأة انتقل النقد الجماعي لما يطلق عليه “الهندسة المالية”، من تقييم لضوابطها وحصيلتها ومن استفادة المصارف الأخرى، وبعض الزبانية، من الأرباح الهائلة التي راكموها منها، إلى النقد الاتهامي أو المطالبة بتحقيق جنائي حول معاملات المصرف وثروة المدير وأقاربه. وما يشد الانتباه في هذه النازلة، ان المدير إلى وقت قريب كان يعتبر من أفضل التكنوقراط وأبرعهم. وها هو اليوم في موقع الاتهام، وفي والوقت الذي يغلب فيه شعار المطالبة بحكومة تقنوقراط لتخليص البلد من فساد الأحزاب السياسية! وكأن التقنوقراط أطهار و لا يصدر عنهم سوء، وكأنهم لن يخضعوا وهم مجرد أفراد لضغوطات ذوي المصالح السياسية الوطنية و الدولية. والمفارقة الأخرى، وكما كان متوقعا، حركت هذه النازلة شبكة من ذوي المصالح الوطنية والدولية لتتصدى لحماية المدير ولكي لا يصل التحقيق الجنائي إلى مراميه. و تكشف هذه النازلة في الأخير عن الدور المركزي للطغمة المالية في التحالف الطبقي الحاكم.
عشرات القضايا تضافرت محنها مع بعضها لتقلب حياة المواطن الى شبه جحيم. أذكر من بينها:

– المأساة الإنسانية المفجعة لآلاف الأسر، والخسارة المالية والاقتصادية الفادحة، من جراء حادث الانفجار الذي دمر مرفأ بيروت ومحيطه
– الانهيارات المتتالية للعملة الوطنية لتلاعبات متعمدة وخفية.
– الحجز على ودائع المواطنين في المصارف والشك في تبخر معظمها.
– تهريب محقق للأموال إلى الخارج، يقدره البعض في السنتين الأخيرتين فقط ب 20 مليار دولار.
– مديونية فاقت قيمة الإنتاج الوطني وعجز في التمويل يتفاقم ويندر بإعلان الإفلاس المالي، مع وقف نهائي وقريب لتمويل امدادات الطاقة الكهربائية، ودعم المواد الاستهلاكية الحيوية والتصديرية وبالتالي ضياع لا يتوقف لشغل آلاف المأجورين.
– جائحة كرونا والإمكانيات المتواضعة للحد منها.
– مسألة مليون لاجئ سوري مازالت المعاندة السياسية والمنع الأمريكي يحولان دون عودتهم لوطنهم.

جميع هذه القضايا تنتظر الحل، وتشكيل الحكومة ما زال يترنح في مكانه بعد سبعة أشهر من التكليف. وكأنها حكومة “جودو”الذي يأتي ولا يأتي. ولا فائدة من الخوض في طلاسم التبريرات المتناقضة لهذا الجمود والتعثر. كما لا يظهر أن المبادرة الفرنسية ستنجب حلا. على الرغم من تهديداتها الاستعلائية بالعقوبات على من يعطل تشكيل الحكومة، متجاهلة أن هذا الأمر يدخل في شأن السيادة الوطنية. وكان من الأفضل كما يقول الملاحظون عن حق لو أن فرنسا ساعدت بجد وبمعية الاتحاد الأوروبي في الكشف عن مهربي الأموال إلى أبناكهم، فهذه مسألة جنائية ومقبولة قانونيا في التعاملات الدولية. أما الولايات المتحدة التي لها اليد الطويلة في لبنان، فلم تظهر بعد أي اهتمام فعال، سوى ما قامت به من استغلال لكل شاذة وفاده لعزل حزب الله الإرهابي في عرفها، و ما قامت به مؤخرا من وساطة في المفاوضات غير المباشرة بين لبنان و إسرائيل لحل خلافهما على الحدود البحرية. وليس واردا على الإطلاق أن يتنازل لبنان عن حقوقه التي أعاد ترسيمها وفق ما ينص عليه القانون الدولي والوثائق التاريخية في هذا الشأن.

ورغم كل الوقائع السوداء السابقة، فإن أفق الحل وارد ومفتوح على التقدم. وهذا يعيدنا إلى ما أشرت إليه سابقا في التحولات الجارية في عموم المنطقة والتي ستغير الكثير من وضعية الجمود الراهن في لبنان. وهذا ما سنستكمله في خلاصات الحلقة القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى