المنصة لم تكن مجرد أداة تقنية، بل كانت العمود الفقري لعمل الموثقين، و الرابط الإداري الذي يسمح لهم بإجراء المعاملات العقارية بشكل قانوني وآمن، ومع توقفها، تجمدت معاملات بملايين الدراهم، وأُغلقت مكاتب كثيرة عملياً، في وقت يستمر فيه السجل العقاري في الاشتغال، لكن دون أي إمكانية للولوج إليه من طرف الموثقين بسبب قرار منع الاتصال التقليدي أو اليدوي معه.
معاناة يومية: دخل منعدم وودائع محتجزة
كانت انعكاسات الأزمة سريعة ومدمرة: توقف شبه كلي للمداخيل، وشلل تام في المعاملات اليومية مع الزبناء، ومأزق حقيقي أمام المؤسسات البنكية التي تودع فيها أموال الصفقات العقارية، فالموثقون، بحكم القانون، يحتفظون بودائع مالية ضخمة تخص عملاءهم، ما يجعلهم في موقع حساس ومطالب دائم بالشفافية والجاهزية، واليوم، هم عالقون بين واجبهم المهني وغياب أي وسيلة للوفاء به.
ويزداد الوضع قتامة بالنسبة لأولئك الذين يتعاملون مع مستثمرين أجانب أو زبناء دوليين، حيث تتصاعد الضغوط بشكل حاد، فهؤلاء المستثمرون لا يفهمون خلفيات الأزمة التقنية والسيادية المغربية، ويطالبون باسترجاع أموالهم دون تأخير، مهددين باللجوء إلى المتابعة القضائية في بلدانهم الأصلية، وهو ما يضع الموثقين في موقف قانوني معقد قد يجرهم إلى نزاعات دولية غير مسبوقة.
منصة “توثيق”: من حلم رقمي إلى كابوس أمني
تعتبر منصة “توثيق” إحدى واجهات الرقمنة التي تبنتها الدولة المغربية في السنوات الأخيرة لتعزيز الشفافية وتسريع وتيرة معالجة المعاملات العقارية، لكنها في المقابل، أظهرت هشاشة كبيرة أمام التهديدات السيبرانية، خاصة في ظل غياب منظومة احتياطية جاهزة للطوارئ، ما كشف عن ضعف في تقدير المخاطر الرقمية.
ومما فاقم الأزمة، أن تعليق المنصة تم بعد تسريب بيانات حساسة تخص شخصيات عامة، تداولتها حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، ما أثار مخاوف أمنية دفعت السلطات إلى إيقاف العمل بالمنصة إلى حين بناء جدار أمني رقمي أكثر متانة، لكن هذا “الحل التقني” لم يترافق مع أي تصور عملي لتدبير الأزمة المهنية والاجتماعية التي خلّفها القرار في صفوف الموثقين.
غياب البدائل: رقمنة دون احتياط إداري
في خضم هذه العاصفة، يجد الموثقون أنفسهم أمام تساؤلات مريرة: بأي حق تُمنع مهنة منظمة قانوناً من أداء مهامها الحيوية دون توفير بديل انتقالي؟ لماذا لم يتم تفعيل الحلول التقليدية المؤقتة ولو بصفة استثنائية لتفادي هذا الشلل؟ وهل من المعقول أن تعتمد الدولة قطاعاً حيوياً بهذه الحساسية على منصة رقمية واحدة دون خطة بديلة في حال تعرضها لهجوم؟
الحيرة تزداد أمام الصمت المؤسساتي، حيث لا بلاغ رسمي واضح حول موعد عودة العمل بالمنصة أو إمكانية اعتماد إجراءات انتقالية، ما يجعل المهنيين يعيشون في حالة ترقب وشك وجودي حول مستقبلهم المهني ومصير علاقاتهم التعاقدية.
أزمة ثقة في الرقمنة والقرار العمومي
ما يعيشه الموثقون اليوم لا يمكن اعتباره فقط أزمة تقنية ظرفية، بل هو عرض لمشكل أعمق يرتبط بإدارة الدولة لملف الرقمنة، وتقديرها لمخاطر السيادة الرقمية، فحين تُغلق منصة رقمية بفعل هجوم سيبراني، ويتم تجميد نشاط مهنيين دون إنذار أو بدائل، فإننا أمام انهيار لا يخص الموثقين وحدهم، بل يضرب في العمق مبدأ الأمن القانوني والاقتصادي في المغرب.
ويبقى السؤال الكبير: هل يكون في هذه الأزمة المرة فرصة لمراجعة شاملة للمنظومة الرقمية، تحترم حقوق المهنيين وتضمن استمرار الخدمة دون أن تُرهن بمزاج منصات قد تنهار في أي لحظة؟