رأي/ كرونيك

سعيد ناشيد يكتب: الموت والأسلوب

قد لا نطرح الأسئلة الحقيقية إلاّ في آخر العمر، وقد لا نطرحها أحياناً إلاّ بعد فوات الأوان. الحكمة هي أن نطرح أسئلة آخر العمر في مقتبل العمر، تماما مثلما يجب أن تُطرح أسئلة النهاية منذ البداية.
في عام 2004 توفي الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا عن عمر يناهز الرابعة والسبعين. قبل وفاته ببضعة أسابيع، وأثناء إصابته بالمرض، زارته صحيفة لوموند في بيته وأجرت معه آخر حوار له قبل وفاته ( لوموند 18/ 08/ 2004).

يشبه الحوار في بعض تفاصيله بلاغة البوح الأخير، حين لا يبقى للمرء ما يخسره. في ذلك الحوار الذي عنونته صحيفة لوموند بـ”أنا في حرب ضد نفسي”، تأسف داعية التفكيك لأن الوقت قد فاته، لكنه أكد في المقابل بأن الذين لا يزال لهم من العمر بقية يجب أن يتذكروا هذا الأمر ويتداركوه: المهمة الأساسية للفلسفة أن تساعدنا على تقبّل الموت كخسارة مطلقة بلا تعويض ولا عزاء.
تحقيق ذلك الهدف ليس بالأمر بالهين؛ فحتى الفلاسفة أنفسهم لم يفلحوا دائما في ذلك الاختبار الأخير، لا سيما إذا أغفلوا أثناء حياتهم الحاجة إلى التمرّن على تقبّل الموت.
في ذلك الحوار، يعيد جاك ديريدا التذكير بأن الدور الأساسي للفلسفة هو أن تعلمنا كيف نموت؟ وبالفعل حين نعود إلى تاريخ الفلسفة نستنتج وجود اتفاق حول هذه المسألة، على الأقل في مستوى إعلان النوايا.

يقول سقراط: “أن نتفلسف معناه أن نتعلم كيف نموت”. وهي العبارة التي يجعلها مونتين عنوان لإحدى ( خواطر)ـه. يقول شيشرون: “التفلسف يعني الاستعداد للموت.
أن نتمرّن على الموت، ذلك هو الدرس الأهم لكي نكتسب القدرة على الحياة. إننا لا نستطيع أن نعيش جيدا إذا لم نكن قادرين منذ الآن على تقبل موتنا الذي قد يأتي في آخر العمر، وقد يأتي في أي لحظة. لماذا؟ لأنّ الحياة نفسها عبارة عن ميتات متتالية. لا شيء يعود كما كان، كل الحفلات تنتهي، كل الأعياد تنتهي، كل القصص تنتهي. إننا في كل لحظة نموت في عالم بكل معالمه وذكرياته ونولد في عالم آخر بكامل مخاوفه وآماله. أن نتقبّل فكرة الموت النهائي معناه أن نتقبل الميتات التي تؤلف صيرورة الحياة: لحظات الوداع، قرارات الاستقالة، إجراءات الهجرة، تدابير الانتقال، إلخ. فليست الحياة نفسها سوى ميتات متتالية. لذلك نقول أيضا، ضدّ الحياة ليس الموت، ضدّ الحياة الولادة. وإلا فإن صرخة الولادة ليست سوى تعبير عن نوع من الموت، إنها لحظة انقطاع الحياة المشيمية، إنها بكلمة أخرى لحظة الانفصال عن جنة الرحم.

مشكلتنا أننا نعيش في خصام مع فكرة الموت، وتزيد الخرافات المرتبطة بتفاصيل الموت وما بعد الموت من حدّة خوفنا العصابي من الموت. إن ما يجعل الموت سيئا هو فكرتنا حول الموت. وحيثما لا نستطيع أن نتقبل فكرة الموت فنحن لا نستطيع أن نتقبل الميتات المرتبطة بالحياة: الفراق، الهجرة، الاستقالة، التقاعد، الانتقال، الانسحاب، إلخ، رغم أن هذه الأفعال جميعها من أساسيات الحياة نفسها. لذلك وكما يقول مونتين: منتهى الحكمة أن نتعلم كيف نموت (الخواطر).

العيش الجيد والموت الجيد هما نفس الشيء كما يلاحظ أبيقور ( رسالة إلى مينيسي). والجدير بالملاحظة أيضا أن الخوف والرغبة مرتبطان فيما يشبه المفارقة. ذلك أن مصدر الخوف سرعان ما يصبح موضوعا للرغبة. على ذلك الأساس غالبا ما يقود الخوف الوسواسي من الموت إلى الاندفاع المجاني نحوه، كما يلاحظ أبيقور ( رسالة إلى مينيسي). وهذا ما يفسر كيف أن شيوخ الدين الأكثر إصراراً على تخويف الناس من الموت هم بالذات ولذات السبب الأكثر تحريضاً لهم على طلب الموت. بهذا النحو يتم تخريج عشرات المرعوبين والذين مبلغ همهم إشاعة الرعب في الوجدان، وإثارة الخراب في العمران، دون إحراز أي نصر معقول أو مكسب محسوب حتى في ساحات الحروب نفسها.

بكل بساطة فإن الخوف من الموت يجعل الحياة غير محتملة. ذلك أن الخوف الشديد من وقوع المكروه لهو أشد وقعا على النفس من وقوع المكروه. ومن ثمة يصبح الموت نفسه –وبنحو مفارق- نوعاً من الخلاص.

عموما فإن الحكمة هي أن نحرر أنفسنا بأنفسنا من كافّة أشكال الخوف، وعلى رأسها الخوف من الموت، والذي هو الخوف الأصلي. الخوف من الموت هو أصل سائر المخاوف والفوبيات الأخرى: الظلمة، المجهول، المغامرة، الأجنبي، الغريب، الارتفاع، الحيوانات، الفقد، الفراق، الهجر، اليتم، الطلاق، الإعفاء. في حين أن معظم المخاوف ليست سوى تفاصيل للخوف الأكبر، الخوف من الموت. إن الطفل الذي يبكي في كل مرّة نطلب منه العودة من المنتزه إلى البيت، أو في الأيام الأولى للحضانة حين يرفض مغادرة البيت، سيفهم مع الوقت أن الحياة تقلبات، بمعنى ميتات، ولا خيار أمامه سوى أن يتقبل الأمر.
فأي عزاء للفلسفة؟

ليس لنا في مواجهة الموت من عزاء أدق وأعمق مما سبق أن كتبه الحكيم اليوناني أبيقور، حين كتب في إحدى رسائله يقول:
“تعوّد على اعتبار الموت لا شيء بالنسبة إلينا، إذ يكمن كل خير وكل شر في الإحساس. والموت هو الفقدان الكلي للإحساس. فالموت لا يمتّ إلينا بصلة. وتجعلنا معرفة ذلك نقدر مباهج هذه الحياة القصيرة حق قدرها… وفعلا لا يمكن لأي شيء في هذه الحياة أن يُحدث الرّعب في النفس التي أدركت حق الإدراك أن الموت لا يبعث على الخوف. وعلى ذلك فمن السخف ما يزعمه بعضهم من أن ما يجعلنا نخشى الموت ليس كونه يبتلينا عند حدوثه، بل كوننا نتعذب في انتظار حدوثه. إذ لا مبرر للقلق الناتج عن توقعنا لحدوث شيء ما إن كان حضوره لن يسبب لنا أي إزعاج. هكذا فإن الموت لا شيء بالنسبة إلينا، إذ عندما نكون فالموت لا يكون، وعندما يكون الموت فنحن لا نكون. وعلى هذا الأساس فالموت لا يعني الأحياء ولا الأموات، لأنه لا يمتّ بصلة إلى الأحياء، في حين أن الأموات لم يعودوا موجودين. ينفر الجمهور تارة من الموت ويرى فيه أشد المصائب، ويرغب فيه طورا من أجل وضع حد لنكبات الحياة. أما الحكيم فهو لا يزدري الحياة ولا يخشى الموت. لأن الحياة لا تثقل كاهله، ولأنه لا يعتبر اللاّوجود شرا. وكما أنه لا يختار الطعام الأوفر وإنما الطعام الألذ، فهو كذلك لا يرغب في التمتع بطول العمر وإنما برغد العيش” ( رسالة إلى مينيسي).
الحكيم هو الشخص الذي لا يخشى الموت ولا يطلبه أيضاً. بل، لأنه لا يخشى الموت فهو يستطيع أن يعيش حياة جديرة بالحياة. هكذا يقول أبيقور في رسالته. ما يعني أن الذي يخشى الموت سينتهي بأن يطلبه لا محالة، طالما الخوف من الموت يجعله فاقداً للقدرة على الحياة.

لكن ثمة مسألة تدبيرية بالغة الأهمية، أن ينتصر المرء على الموت معناه أن يموت وفق أسلوبه الخاص، في التوقيت المناسب طبعا، بالشكل المناسب أيضا، وبالإخراج المناسب كذلك. فمهارة الحياة تعني أيضا مهارة المماة.
هنا بالذات قد لا ترتبط الشجاعة بالنفس الغضبية كما تصور أفلاطون (الجمهورية)، لكنها ترتبط بالأحرى بشيء آخر أكثر عمقا وهدوء، ترتبط بالنبل الإنساني. فالجبان لا يجهل الغضب، لكنه يجهل الصدق والأمانة والمسؤولية والأخلاق، يجهل النبل في آخر الحساب.

عموماً يجب أن يكون الفيلسوف حكيماً في مواجهة موته الخاص سواء باعتباره فكرة في الذهن أو باعتباره تجربة في آخر العمر، أو هكذا يُفترض. إنه الاختبار الأهم لمن يسعى إلى أن يعيش حياة فلسفية بالفعل.
يقال، جميع الناس يولدون فلاسفة لكن قلة منهم من تعيش على ذلك النحو. بوسعنا أن نقول أيضا، جميع الفلاسفة يعيشون فلاسفة لكن قلة منهم من تموت على ذلك النحو.
ههنا لدينا حكاية معاصرة تقول:
عندما همّت بطرق باب المنزل، لاحظتْ وجود عبارة تقول: “اتصلوا بالشرطة”. شعرت في الحال أن مكروها قد يكون حاصلا في الداخل، فأخرجت هاتفها المحمول واتصلت بالشرطة. بعد لحظات حضر رجال الأمن، وقرروا في الأخير اقتحام المنزل.

في غرفة النوم بالداخل، كان الفيلسوف الفرنسي أندريه كورز رفقة زوجته دورين، جثتين هامدتين وراقدتين على الفراش. بجوارهما كانت رسالة عشق أخيرة، هي آخر ما كتب وآخر ما قرأت.
في ذلك اليوم، 22 سبتمبر 2007، كانت هي في سن الثالثة والثمانين، وكان هو في سن الرابعة والثمانين، وبينهما عشق تخطى حدود الخيال، لكنه لم يعد قادرا على تسكين أوجاع مرض الزوجة التي دنت ساعة رحيلها. ولأن الزوج وضع ذلك اليوم في الحسبان، فقد دوّن في كتابه الأخير (قصة حب) اعترافا بما سيقدمان على فعله:
“إننا لا نريد أن يستمرّ أي واحد منا بعد وفاة الآخر. ولو وُجدت حياة أخرى لتمنّينا أن نعيشها مع بعض.. وداعا.”

الإنسان هو الأسلوب.
ولقد اختارا أسلوبهما في النهاية: مغادرة الحياة يداً بيد.. جرعة من السم تكفي.. ثم قبلة عميقة.. ثم رقاد أبدي.. ثم لا ثم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى