ثقافة وفنونحوارات

بوركة لنوال..حروب الأديب لا دمار فيها إلا على مستوى اللغة وإرباك المتلقي لهذا يكون اللقاء مع الأدب وقوعا في الحرب بالحب

نوال شريف تحاور عزالدين بوركة

هل يمكن الحديث عن بوركة الشخص بمعزل عن بوركة الفنان الناقد الجمالي والشاعر؟

 

من هو بوركة أصلا بمعزل عن كل من فيه؟! بوركة مجرد جسد لشخوص كثيرة، من فترة إلى أخرى تظهر شخصية من تلك الشخصية، الأمس مثلا خرج شاعر وكتب قصيدة وعاد إلى الداخل واختفى إلى حين. وكثيرا ما أفكر أين يختبئ الآخرون حينما يظهر الواحد فيهم، بل في أوقات معينة يظهرون جميعا دفعة واحدة، ليتناقشوا ويتخاصموا حول موضوع معين، فأجلس في زاوية وأراقبهم بدهشة. فبوركة ليس واحدا بل تشظي لشخوص لكل واحد منها طابعه وأفكاره ورؤاه واهتماماته. ليس نوعا من الفصام، بل إنه تعدد المهام والتخصصات، وإن كانت تلتقي كل تلك الشخوص في كونها تحيا في جسد واحد بدماغ وعقل واحد وذكريات واحدة. لا انعزال بين بوركة الشاعر وبوركة الكاتب وبوركة الباحث وبوركة الإنسان البسيط، إنما الاختلاف في المهام وأوقات الظهور أو التلاقي. ولا أجدني إلا داخل هذا التعدد الجمالي الذي يجعل من عزالدين بوركة ما هو عليه اليوم.

متى كان لك أول لقاء مع ذاتك ؟

ما زلت أبحث عنها، أظنـها خجولة ولا تريد الظهور، أو رجعت إلى الخلف فاسحة المجال للذوات المتشظية التي تقاسمها حيز الجسد للخروج من العتمة إلى الضوء. كل ما أعلم عنها أنها خجولة وكتومة وقليلة الظهور، غير أنانية ولا تعادي أحدا.

البطن التي أنجبت قصائدك، ترابية أم مائية؟

قصائدي لم تنجبها أية بطن، بل خرجت من بيضة لا ترابية ولا مائية، إنها من عالم النار، نارية. في الغالب جاءت من الجحيم وهبطت إلى الأرض، لا أم واحدة لها، فهي متعددة الأمهات… وكل ما أعلم أن خروجها إلى العالم كان عسيرة وصعبا، ومرّ بظروف عصية وقاسية. لهذا كان لابد أن أكتب ديواني الأول “حزين بسعادة”، حتى أعَبّر عن سعادتي بالحزن الذي تعلّق بها وتعلّقت هي به. أما المرور إلى الديوان الثاني “ولاعة ديوجين” فلأن قصائدي بعدما خرجت من النار إلى هواء الأرض جلبت معها قبسا من نار الجحيم، فأولعت مصباح ديوجين المتمرد حتى يتسنى له البحث عن حقيقة في وضح النهار. أما القادم فالقصائد خرجت عن الطواعية وصارت مجنونة أو مسها جنون كان يتشبث بشارب نيتشه وإخوانه. وفي الغالب هي فاقدة العقل تماما.

اللقاء مع الأدب هل هو وقوع في الحب أم إعلان عن حرب؟

إنه من هذا ومن ذاك. يُقال أن النصوص الجميلة لا تُكتب إلا عن ألم وبالألم وحول الألم. وأنا شخصيا أعتقد أنّ أجمل ما كُتب عن الحب كُتب في حالة الحرب. وأجمل ما كتب عن الحرب كُتب عبر الحب، وأليس أجمل الأفلام عن الحرب هي التي أخرجت بحب وتأمل، خذي عندك فيلم Platon 1986 وفيلم The pianist 2002 وفيلم Apocalypse Now الذي صوّر سنة 1979… وغيرها كثير. فالأديب الحقيقي هو من يدخل إلى أرض معركة النص بحب حاملا سلاحه ليرش الأعداء بلا رحمة، لا يهاب شيئا لا مرتفعات ولا منخفضات ولا فخاخ ولا متاريس… يُصوّب مباشرة جهة الرأس حتى يقطع أي محاولة لدخول فكرة الهزيمة لمعتركه، عليه أن يشيّد حصنه جيدا، ويوضب جُنْدَ أفكاره وجنرالات لغته بأسلوب محكم غير تارك للأعداء فرصة الولوج للنص واكتشاف خباياه، فالأديب الحقيقي هو من يعرف جيدا كيف يخبّئ أجداده ومعلميه وشيوخه الذين علّموه سرا وعلانية كيفية القتال.

حروب الأديب ليست دموية ولا دمار فيها إلا على مستوى اللغة وإرباك المتلقي. لهذا يكون اللقاء مع الأدب وقوعا في الحرب بالحب، وحب ارتكاب الحرب. علينا أن نشن مجزرة في حق الكلمات، وأن نغافل اللغة لسبيّها، وأن نكون كالسموراي نزقين وغير مرئيين ودقيقي الحركة وذوي المهارة في الأسلوب. فالأديب هو الأسلوب… أي لابد أن تكون لديه عقلية رجل الاستراتيجيات في الحرب.

هناك دائما حضور للجسد عند بوركة، هل هي عقدة أم تمرد عن أزمة؟

نحن أجسادنا، لا نجود إلا باعتبارنا أجسادا، ولا يدركنا العالم إلا باعتبارنا أجسادا، ولا ندركه إلا باعتباره أجسادا. فنحن ندرك العالم إذن بأجسادنا لا بأعيننا فحسب: نشمه ونحسه ونتذوقه ونراه ونلمسه وندركه… فالجسد ظل مقموعا في ثقافتنا العربية والإسلامية، غير مبرر الظهور إلا باعتباره فتنة وجب سترها وعدم الكشف عنها. بالمقابل تأتي الروح الخفية باعتبارها مقدسة وعلوية وخالدة، فالجسد فانٍ وفاسد أي أنه منبع الشرور. وهذا في رأيي لا صلة له بالواقع والحقيقة، فأينما وُجدت الحياة فثمة الجسد. أي أن صلتنا بالحياة هي صلة جسدية. وأي نعم ! لابد من التمرد عن الأزمة التي خلقتها تلك الثقافة القامعة لحرية الجسد، العالم المتقدم اليوم تجاوز أي قمع لحرية البدن والجسد، إذ بتنا نتحدث عن فن الجسد من رقص وفن أداء وفنون أخرى مرتبطة ارتباطا وثيقا بالجسد. فأنا جسدي، وجودي فيه، دماغي وعقلي وذكرياتي وحواسي أفكاري في هذا الجسد، حتى عقدي وآلامي النفسية هي مخبّئة فيه.

وكل ما أقوم به شخصا مجرد إعادة الدعوة لتحرير الجسد العربي سجين التاريخ، واهتمام به. فلسنا إلا أجسادنا.

هل الجسد كموضوع فني بعيد عن الجسد الواقعي؟

الجسد الفني هو وليد الواقع، وهذا أكيد. إذ أن الفنان لا يمكنه أن يهرب من الواقع، وكل ما يقوم به الفنان سوى جلب الجسد من الواقع ووضعه إما في إطار عامرا بالصباغة والرموز، أو يوظفه كما هو في خامه وحيويته داخل نسق من العرض والأداء. فقد ألهَم الجسد فنانين كثر، وكان أغلبهم يجعل منه موضوعهم الرئيسي والمركزي، وإن كان جسد الأنثى الأكثر تداولا ورسما. بل إن مجموعة من الأعمال التي شكلت ثورات وقفزات في الفن على مر العصور ارتبطت بالجسد، أنظري مثلا لوحة أصل العالم لكوربيه، أو لوحة فطور على العشب لماني، أو لوحة الموناليزا وهي الأكثر شهرة، وأنيسات أفينيون لبيكاسو… بل إن العمل الفني في حد ذاته جسد، له حياته الخاصة. والفن المعاصر أخذ الجسد إلى مستويات متعددة، فلم يعد الجسد منزوعا من الواقع وموضوعاً موضعَ الرمز أو النقل والتصوير فحسب، بل بات أداة ووسيلة وعملا فنيا في ذات الوقت، وخاصة مع فنون الأداء

اللوغوس والإيروس ماذا يعنيان لبوركة ؟

قائد عربة يحاول كبح جماح أحصنة تعرف الطريق أفضل منه، ولأنه يمتلك خريطة يحاول أن يقودها عل مهل حتى يتبيّن الطريق الذي هي سالكة إياها في الأصل. الأهم ألا يفقد القائد حبل السيطرة، وليترك الأحصنة التي عنها تولد الوجود بطبيعته وجماحه أن تتسلى بالطريق. ومهما كان فيظل القائد رجل حضارة يحاول أن يكون عاقلا قدر المستطاع حتى يحسب كل شيء بدقة.

هل ترى أن الإروتيكا مفتاح من مفاتيح التحرر والتصالح مع الذات؟

ألَا نكون متصالحين مع ذواتنا حينما نكون عراة؟ لماذا نخاف ونفزع من الجسد؟ بل لماذا نخاف من حالتنا الطبيعية؟ بل ما الذي يخيفنا لتلك الدرجة التي تجعلنا نخشى أن نكون أحرارا في أجسادنا وبها؟ لهذا ما أحوجنا للصدمة التي تعيد لنا رشدنا وتعيدنا إلى حالة الطبيعة. الإيروتيكا لا تعني أبدا أن يلتهم أحدنا جسد غيره، أو يغتصبه أو ينهشه… بل هي مجرد كشف عن مواضع الجمال في الجسد. بشكل إبداعي داخل إطار جمالي أو لنقل استيتقي أفضل، لأننا نتحدث اليوم عن استيتقا القبح أيضا وعلاقتها بالفن وغيره. فلنكشف عن الجسد ولنظهر ونحتفل به، ولنواجه الظلام بالجسد. فنحن لا نمتلك إلا أجسادنا للوجود والتواجد، فلماذا نخاف منها !!

ما الذي يؤرق عزالدين بوركة ؟

الشِّعر !! أخاف أن أستيقظ يوما ولا أجد هناك شيئا من الشِّعر.

الشعر في عالمنا العربي في خطر، بل ينقرض. علينا إحياء الشعر وإحياء الاحتفال به. أنظري للكم الهائم من الجوائز التي تمنح للرواية بمقابل شبه انعدام لأي رعاية موكولة للشعر. لقد بات الشعر يتيما يعاني في صمت، بل إن صفة الشاعر تكاد تكون إهانة، الكل يتسابق لكتابة الرواية.

الشعراء أبناء الجحيم، لهذا فهم منذورون للعذاب. يحملون أينما ذهبوا معهم النار التي تحرق أجسادهم فقط، ليضيئوا العالم. وكل ما أخشاه أن تستحوذ الرواية على الأدب، ويصير كل من يكتب الرواية هو الأديب أما الشعراء فمجرد أحافير… جائزة نوبل لم تمنح لشاعر منذ سنوات عدة !! ألا يوجد هنا في العالم اليوم شاعر يستحق تلك الجائزة؟ لقد صار الروائيون يشبهون الاقطاعيين يغتصبون أراضي الأدب ويتباهون بعدد الأوراق التي سوّدونها، أمام ما التهموه من بياض تركه الشعراء لفسحات الأمل البعيد.

ليحا الشعر ! فلا وجود للعالم خارج النص الشعري.

ولاعة ديوجين هل هي ولاعة التنوير ؟ من خلال ديوان “ولاعة ديوجين”

لا تصلح سوى لحرق ويلات العالم، ولإضاءته حتى في وضح النهار. إنها قبس من الجحيم.

كيف ترى واقع الشعر المغربي حاليا، هل ترى أنه يساير الركب؟

ما هو الركب؟ الشعراء لا يكتبون إلا نصا واحدا طويلا جدا، لكل شاعر فسحته الخاصة للتعبير عن رؤاه وأحلامه وما يبتغيه… لكن لكل أسلوبه الخاص واتجاهه المتفرد والتيار الذي ينتمي إليه. لا أحد يسبق الآخر ولا جماعة تتفوق على أخرى. إنما نحن داخل فلكة واحدة، للقارئ الحق في أن يختار الجزء الذي يرتاح فيه ليدرك من خلاله العالم والواقع. فلا أظن أننا يمكن أن ندرك الواقع بمعزل عن الشعر. فالعالم قد خرج من إيقاعات الشعر وما زال يسكنه.

باعتبارك باحثا جماليا، ما هي العراقيل التي تواجه الناقد الباحث في مجال الجمال بالمغرب؟

الفن في المغرب، نسبيا مازال فتيا، فأدق الدراسات التاريخية ترجعه لمائة سنة ونيّف. أي أننا مازلنا نؤسس، فلم نتجاوز مرحلة التأسيس بعد، ما يجعل من كل الفنانين اليوم روادا. أي أننا لم ندخل بعد في فترات الأزمات الحادة التي ستشكل ملامح أصيلة لهذا الفن. لكن هذا لا يمنعنا من القول بأننا عرفنا فترات كانت أساسية تخللها نوع من العراقيل التي يمكن اعتبارها أزمات تعلقت بسؤال الأنا والغير، ومن ثم سؤال الحداثة وما بعدها وكما سؤال المَغْرَبَة… لكن ما علينا استيعابه هو أن الفن لا يقف عند تيار واحد أو مدرسة واحدة أو توجه معين، فما على الفنان المغربي سوى الاشتغال بما هو متاح في ظل ما هو ممكن من غير الارتباط بالتقليد أو النقل أو التشبه بأي جهة كانت. فالفنان هو من ينطلق من بيئته وصولا إلى العالم.

ما هي المفاهيم والقضايا التي ترى أنها الأولى بالاهتمام والاشتغال؟

إن كان سؤالك هنا متعلقا بالجانب السياسي والاجتماعي، فأعتقد أننا يجب أن نهتم أولا بالتعليم والتعليم ثم التعليم والصحة والأمن، فأي تقدم مجتمعي يحتاج بالضرورة للاهتمام بهذه الجوانب. لكن للأسف لا أعرف فيما تفكر حكومتنا السعيدة !!؟ بل إنها تفاجئنا دائما. يكفينا مفاجآت ولنهتم بالأساسي، بعيدا عن التشبث بالقشور والخطابات الفارغة التي تشبه فقاعات الصابون التي تبدو جميلة ومتماسكة وما أن نقترب منها حتى تتلاشى وتختفي. نحن في حاجة ماسة لبناء الإنسان لأنه عماد العمارة والحضارة وتقدم هذه الأمة.

كيف يمكنك تقيم الوضع السياسي والثقافي والاجتماعي للمغرب حاليا؟

لا أريد أن أكون متشائما، لكن لعل هناك أمل !

ما الذي ترى أنه يجب أن يتغير وتدافع عنه؟

إصلاح التعليم، حتى يصلح المجتمع ويتقدم ونمتلك شعبا تصالحا مع ذاته والمختلف… ولتنموا أشجار الحرية في تربة صالحة ومِعطاءة.

ما هي مشاريعك المستقبلية ؟

أشتغل على ديوان شعري جديد، بنفس مغاير وأفكار متجددة. وكتاب حول الفن التشكيلي في المغرب، أتمنى أن يرى النور قريبا.

خمس كلمات ماذا تعني لبوركة :

-التشكيل: روح العالم.

-الشعر: جسد العالم.

-المرأة: الكل في الواحد.

-آن سيكستون: شاعرة ملاك وأكثر من هذا.

-الدين: رؤية لإدراك العالم وإيديولوجية لفهمه مثل باقي الرؤى والإيديولوجيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى