الرئسيةثقافة وفنوندابا tv

اسمه حطباً لأعتى موجتيْ صخب ونقد عرفتهما..سينما نبيل عيوش: فهم للواقع؟ أم متاجرة بقضايا المهمّشين

بعيدا عن كلّ النقاشات التي صارت مقترنة بأيّ فيلم يحمل توقيع نبيل عيوش، ويجعل المعنى مختفيا عنا، فالعودة إلى أفلامه تقربنا من سعي دائم وراء واقع مغربي يخفيه ظلام الليل، أو بعد الهامش. بمكر فنيّ مطلوب، لكن بموهبة لا تنكر.

هذه المادة تعيد “دابا بريس” نشرها باتفاق مع الكاتب

بقلم سليمان الحقيوي الكاتب ولبناقد السينمائي

تشاء الصّدف أن يكون اسم نبيل عيوش، حطباً لأعتى موجتيْ صخب ونقد عرفتهما السينما المغربية في العقد الأخير؛ المناسبة الأولى كانت مع فيلمه، “الزين لي فيك” 2015، الذي شارك في مهرجان كانّ فقرة (أسبوع المخرجين) ساعتها تسرّبت مقاطع مرتبكة فنياً من الفيلم؛ البعض ذهب إلى أنّها تعود إلى ما قبل المونتاج؛ فاتّسعت المعركة من دائرة الفيلم إلى صراع بين الحداثيين والتقليديين في المغرب، وتجدّد النقاش حول الحرية في الإبداع وأعيد فتح نقاشات كثيرة منها قضايا الدعارة في مدينة مراكش حيث صوّر الفيلم، الجميع اتفق أيضا على أنّ الفيلم أخطأ وجهته باي معيار حكمناه! رغم أنّ النسخة الرّسمية منه لم تشاهد بعد.

لكنّه حرّك مياها راكدة رغم كل شيء، أمّا المناسبة الثانية فتعلقت بتردّد اسم المخرج من جديد في أروقة كانّ، لكن في درجة أعلى من السُّلم حيث شارك في المسابقة الرّسمية، وهو أمر يستحقّ كلّ الاهتمام. الخبر الجديد قلب هجاء الأمس مدحاً، والإشادة بلغت حدّ اعتبار المشاركة لواحدها فخرا يضاهي وضع اليدين على السعفة الشهيرة. إنّ حالة الانقسام والتطرف لأفلام نبيل عيوش تصفيقا أو تصفيرا.. هي بالضبط معيار تصنيف مساره الذي يمكن أن نختزله في جملة؛ مخرج موهوب، لا تعوزه الحيلة للتسويق لأفلامه.

يمكنك أن تختلف مع تصور نبيل عيوش في سلك طريق الصّخب، الذي فهم مبكرا أنّ طريق الفيلم نحو الجمهور يبدأ من تحريك الأصوات حوله، وأصوات المنتقدين أوّلا، أفلامه صارت مدخلا لأحكام جاهزة بعيدة عن السينما –ربّما – لأن ذائقة الكثيرين في المغرب تنطلق من عقدة مخفية لا تعطي الحق لمخرج مولود في باريس بأن ينشر غسيل المغرب في منصات عالمية… !

كيف لمخرج بالكاد يتحدّث بضع كلمات عربية أن يفهم واقعا مغربيا ! لكن ألا يخفي هذا الحكم الكثير من التجني؟ فأفلام الرّجل تبرز فهما عميقا للواقع المغربي، رؤيته للهوامش حاضرة في أغلب أفلامه، وجرأته في تناول قضايا فساد اجتماعي وسياسي تُحرج جهات مختلفة سياسياً، بما يضع أفلامه ضمن مسار احتجاج فني لا تخطاه سوى الأعين المغمضة، وهو ما يجعل تجربته غير قابلة للاختزال في نجاح أو إخفاق، بل حالة لا يكتمل فهمها إلا بإنصات شمولي لمنجز يحمل بعدا اجتماعيا ورؤية طموحة لا تحدّها الجغرافيا العربية.

وبعيدا عن كلّ النقاشات التي صارت مقترنة بأيّ فيلم يحمل توقيع نبيل عيوش، ويجعل المعنى مختفيا عنا، فالعودة إلى أفلامه تقربنا من سعي دائم وراء واقع مغربي يخفيه ظلام الليل، أو بعد الهامش. بمكر فنيّ مطلوب، لكن بموهبة لا تنكر.

      فمنذ فيلم مكتوب (1997) برزت ملامح مشروع نبيل عيوش، كأحد الأسماء التي يمكن المراهنة عليها في سياق مغربي يراهن على قفزة في مجال السينما، ساعتها أظهر أيضا موهبة أخرى تتعلق باختيار قصص مسكوت عنها ويحفّها المحظور من كلّ الجوانب، الفيلم تناول قصّة اختطاف واغتصاب زوجة طبيب شاب وتوثيق ذلك بالفيديو، الفيلم  يحاكي بنَفس بوليسي تشويقي، قصّة واقعية شهيرة لمفوض شرطة (الحاج ثابت) الذي اغتصب مئات النساء والفتيات ووثّق ذلك على أشرطة مصورة، قصّة آلمت  الذاكرة المغربية مطلع التسعينات وأرغمهم ضيق مجال التعبير أو انتفاءه الكلام عنها، والاكتفاء بجانب أسطوري موازي عن هذه القصص، حساسية الموضوع مرتبطة أساسا، باختفاء شريط يدين مسؤولين كبارا في الدّولة، وهو أمر يركّز عليه الفيلم كثيرا، فكان مثل سلوى متأخرّة. عيوش  في مغامرته الأولى لم يكتف بقصّة يسبقها نجاحها بل أبان أيضا عن جانب تقني واعد.

     المسكوت عنه، حضر أيضا في فيلمه الثاني “علي زاوا” (2000) الذي تبنّى التعبير الواقعي أيضا، كاميراه توجّهت  هذه المرّة إلى أطفال الشوارع، اقتفت حيوات عشرات الأطفال في مواجهة حياة أقسى من أجسادهم العارية، ما جعل مصيرهم يقترن بدرجة اتقانهم للغة العنف وسلك طرق الجريمة الوعر، الفيلم حمل المخرج بعيدا، ودار حديث طويل بسببه عن جيل جديد قادم من المخرجين، كما أكد أيضا أن عيوش لا يتوّجه إلى قضايا اجتماعية بهدف المتاجرة الفنية كما يتردد اليوم، بل أيضا هي نابعة بنسبة كبيرة من قلق، فعنوان الفيلم صار بعد ذلك اسم مؤسّسة اجتماعية أنشات مراكز تعلّم الفن واللغات في الأحياء الهامشيّة بمدن طنجة والدار البيضاء، بالضبط، في أحياء مهمشة أخذ التطرف الكثير من شبابها إلى حافة الموت، كما هو الحال في حيّ سيدي مومن بالدار البيضاء، المكان الذي ينمتي  إليه الشباب الذي نفذ تفجيرات الدار البيضاء الإرهابية.

تستمرّ مطاردة قصص المهمّشين في فيلم يا خيل الله (2012)، المقتبس عن رواية، نجوم سيدي مومن لماحي بنبين، عن هوامش أحياء الدار البيضاء، حيث يتحوّل حلم أطفال من لعب كرة القدم إلى شباب يفجّرون أنفسهم في ليلة مشهودة صادفت 16 ماي 2003، الفيلم ظل وثيقة خالدة مرتبطة بهذه الأحداث، وثيقة تتجاوز نتيجة الموت والجريمة التي انتهى إليها مجموعة من الأطفال، هم أبرياء في نهاية المطاف يقول لنا الفيلم، مهمّة الفيلم كانت تحليل بنية مجتمع محروم من كلّ شيء حتّى الهواء فالحي موجود أصلا فوق مكبّ نفايات.

هو عمل يتمّم من زوايا كثيرة ما بدأه المخرج في “علي زاوا”، الفقر هو المسؤول عمّا حصل نتيجة لا نخطأها في كلا العملين. يمكن اعتبار يا خيل الله أهم ما أنجز بصريا عن مساهمة الفقر في صنع الإرهابي، وهو أعمق ما قيل على مستوى الخطاب عن سيرورة تشكّل العنف لدى شباب الأحياء الهامشية، يمكن العودة إليه كوثيقة خالدة  لفهم حادث غيّر وجه المغرب إلى الابد..

فيلمه الجديد عليّ صوتك (2021) المشارك في مهرجان كانّ دورة هذا العام، يعيده إلى حي سيدي مومن بالدار البيضاء، هل تذكرون هذا الحي؟   الأمر لا يتعلّق الآن بتفجيرات أو تطرف، بل بشباب يتعلمون التعبير عن أنفسهم عبر الموسيقى، وهي إحدى ثمار مؤسّسة علي زاوا. الفيلم أعاد المخرج إلى المسابقة الرّسمية لأهم مهرجان سينمائي، وأعاد المغرب إليه بعد مشاركة يتيمة للمخرج عبد العزيز الرمضاني عبر فيلمه” أرواح وإيقاعات” في (1962).

لقطة من فيلم “الزين لي فيك”

       السعي نحو الواقع يخيب في أفلام أخرى تخلّلت نجاحاته السابقة، والخيبة مقترنة هنا، بمواضيع تحوم من محرّم آخر هو الجنس، منذ فيلمه الممنوع في قاعات العرض (لحظة ظلام) 2003، وصولا إلى “الزين لي فيك” (2015). بما يضعهما ضمن مسار أفلام مغربية حاولت الاقتراب من الموضوع لكنها قوبلت برفض شعبي ينتقي ما يزعجه بغرابة شديدة، لكن حظّها مشاهدتها في الخفاء بلغ أرقاما لا يبلغها خيال أكثر الحالمين وهو أمر يراهن عليه نبيل عيّوش كثيرا.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى