الرئسيةثقافة وفنوندابا tv

ظل هذا النوع من الغناء مستمراً كطقس ثابت..كاتبة مصرية تكتب: الحضرة الشفشاونية، غناء الذاكرات المادحات بالمغرب+فيدييو

بقلم الكاتبة المصرية مروة صلاح متولي

مدينة شفشاون، ومنذ بدايات القرن العاشر الهجري، أقامت النساء فن الحضرة الشفشاونية، حيث الجلوس في حضرة الله، وحضور القلب المؤمن، والانشغال بذكر المولى سبحانه وتعالى، ومديح سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. ظل هذا النوع من الغناء، مستمراً كطقس ثابت، وجزء أساسي من الحياة الاجتماعية والدينية، ينتقل من جيل إلى آخر، وترثه الفتيات عن الأمهات والجدات، وتمارسه في التجمعات النسائية الخاصة داخل البيوت، حيث السكينة والأمان التام، والحفظ من أي جرح أو أذى، فلا وجود لرجل ولا مكان لغريب. كانت النساء المغربيات يجتمعن في دار من الديور، وتتصدر صاحبات الصوت الجميل، والحافظات لمتون الذكر وقصائد المديح، والمتقنات لضرب الدفوف والطبول وضبط الإيقاع، والمؤديات لبعض الحركات الصوفية. ومن لا تجيد أياً من هذه الأمور، فإنها تجلس لتسمع وترى، وقد يلهج اللسان بالذكر جهراً أو سراً، وإن لم يردد اللسان، فالقلب يردد.

 

لا تخفى مكانة التصوف في المغرب، وأثره الممتد في التصوف الإسلامي عموماً، فالتصوف ضارب بجذوره العميقة هناك، ومن هناك انتشرت هذه الثقافة، وانتقلت إلى بعض الدول الأخرى، كمصر التي تحتضن مقامات وأضرحة أقطاب المتصوفة، والأولياء الصالحين الذين جاءوا إليها من المغرب، وتتبع طرقاً في التصوف، ترجع أصولها إلى المغرب أيضاً. فالإسلام واحد، لكن لكل بلد ثقافته الإسلامية، وانعكاسات تجاوبه وتفاعله مع الدين الحنيف، التي تتجلى وتظهر في الفنون والعلوم والآداب، والمعمار والفكر والفلسفة، وما إلى هنالك من ميادين ومجالات. أما شفشاون، فلم يكن غريباً أن ينشأ فيها، وينبع منها هذا الفن الرائع، فهي مدينة يحفها الجمال ويحيط بها من كل جانب، يسكن في قلبها، ويعشش بين دروبها وأزقتها. ولا يتوقف الأمر عند الجمال وحده، وإنما يكمن السر الأكبر في الخيال، الخيال الخاص بهذه المدينة، أو الخيال الذي تصنعه رؤية هذه المدينة، بألوانها وطبيعتها، وتدرجاتها ومنحنياتها، وأقواسها وزخارفها.

ارحوم البقالي وإحياء التراث

في ذلك الزمان القديم، وعلى أرض شفشاون جوهرة المغرب الزرقاء، كان الذكر يتصاعد من البيوت بأصوات النساء، إلى السماوات العلى، ومنها تتنزل البركات. واليوم، على يد الفنانة والأستاذة الأكاديمية أرحوم البقالي، يتصاعد فن الحضرة الشفشاونية، ويُسمع في أرجاء العالم كله، منذ أن أسست فرقة الحضرة الشفشاونية سنة 2004، وأبهرت السامعين على اختلاف ألسنتهم وثقافاتهم، بهذا الفن الأنثوي الشفشاوني، المغربي الخالص، من خلال جولاتها الأوروبية، ومشاركاتها في أهم المهرجانات الموسيقية، شرقاً وغرباً.

عملت أرحوم البقالي على تنضيد هذا الفن، وأعادت إليه زهوه وسطوعه، وفتحت نوافذ البيت وأبوابه، ليصل نوره إلى الجميع، ويتردد صداه في كل مكان. فقد ظلت الحضرة الشفشاونية، قائمة داخل بيوت شفشاون، متداولة بين النساء فقط، حتى أتت أرحوم البقالي بمشروعها الثقافي الكبير، فأتاحت معرفة هذا الفن ومتعة اكتشافه، وهو الذي لم يكن معروفاً، ربما لدى الكثير من المغاربة في المدن الأخرى، إلا من حظيت بفرصة الحضور في أحد البيوت الشفشاونية، ومعاينة هذا الفن على طبيعته الأصلية.

أرحوم البقالي فنانة مغربية وأستاذة أكاديمية، درست في المعهد العالي للموسيقى في شفشاون، وتخصصت في الموسيقى الأندلسية، ثم صارت أستاذة من أساتذة المعهد، تعمل على تدريس النشء من الطلبة والطالبات، وتقوم برعاية المواهب وإعدادها. كما أنها ملحنة أيضاً، تلحن الكثير من مقطوعات الحضرة، بالإضافة إلى الإعداد الموسيقي والإيقاعي بطبيعة الحال، وتغني مع أعضاء فرقتها، وتجيد العزف على البيانو والعود والآلات الإيقاعية، وضليعة في الصولفيج الذي تقوم بتدريسه أيضاً.وهي باحثة في التراث، تقوم بجمع القصائد والأزجال واختصارها، والاختيار من بين أبياتها ومقاطعها، وهي المسؤولة كذلك عن الأزياء التقليدية القديمة، وما ترتديه نساء الحضرة، بل إنها كانت تبحث عن القطع الأصلية العتيقة، المتوارثة عن الأمهات والجدات. وتقوم بتنسيق الأداء الحركي لبعض أعضاء مجموعتها، فهي تعتني بهذا الفن من جميع جوانبه، وتحرص على تقديمه في أبهى وأدق صورة ممكنة.

وما تقوم به السيدة أرحوم البقالي، يعد فعلاً ثقافياً رائداً، فإحياء التراث والحفاظ عليه أمر عظيم، وبالإضافة إلى ما بذلته من جهد هائل على مدى السنوات الماضية، ولا تزال تبذله حتى الآن، يظل من أكبر محاسنها حقاً، تقديرها لقيمة هذا الفن وفهمها لأهميته، وتعاملها معه بالحرص اللازم والدقة المطلوبة، حين يتم التعامل مع أي قطعة فريدة من التراث، سواء كانت هذه القطعة مادية أو معنوية.

وما تقوم به السيدة أرحوم البقالي، يعد فعلاً ثقافياً رائداً، فإحياء التراث والحفاظ عليه أمر عظيم، وبالإضافة إلى ما بذلته من جهد هائل على مدى السنوات الماضية، ولا تزال تبذله حتى الآن، يظل من أكبر محاسنها حقاً، تقديرها لقيمة هذا الفن وفهمها لأهميته، وتعاملها معه بالحرص اللازم والدقة المطلوبة، حين يتم التعامل مع أي قطعة فريدة من التراث، سواء كانت هذه القطعة مادية أو معنوية.

فلم تُخرج أرحوم البقالي هذا الفن، الذي كان معززاً مكرماً داخل البيوت، ومؤدياته المحجوبات وراء الجدران وخلف الأبواب، لتتركه يضل الطريق ويفقد هويته، أو لتصير مؤدياته كمؤديات أي فن آخر، بل إنها صانت هذا الفن كأثمن ما تمتلك، وكرست الجهد والوقت وسنوات العمر، من أجل إحيائه وإعداد كوادره المستقبلية، واعتنت به أشد العناية، وحدثته دون إفساد أو إخلال، بصفاته وحقيقته وجوهره، فلمع وتألق وأضاء بين يديها، وازداد رونقاً على رونقه. فقد سخرت معرفتها الموسيقية وعلمها الأكاديمي، من أجل إظهار جماليات هذا الفن، واللافت هنا، أن الأكاديمية لم تكن كارثة حلت على الفن، كما نرى في بعض التجارب، التي سعت إلى التعامل مع التراث في الدول العربية، فأرحوم البقالي لم تتعالَ بأكاديميتها، على فن الحضرة الشفشاونية، ولم تحوله إلى شيء آخر، فاقد للمعنى ممسوخ الهوية، ولم تجعله جافاً صلداً، جامد الروح، دون أي اكتراث بذوق المستمع وعاطفته، أو إمكانية فهمه لما يقدم إليه، ودون إدراك لخطورة خلق الغربة والانفصال النفسي، بين المتلقي وتراثه الذي يتم العبث به. خلقت أرحوم البقالي نموذجاً مضيئاً مشرقاً للحفاظ على التراث، وبمثل هذا تحيا ثقافات الأمم، وتتم مقاومة المحو والاندثار.

روحانية الغناء وجمالياته

في جو من الوقار والحشمة والخشوع، تقدم أرحوم البقالي وصلات الحضرة الشفشاونية، مع أعضاء فرقتها، ورغم وجودهن على خشبة المسرح، إلا أن المرء يشعر أحياناً بأنهن داخل البيت، وأنه بطريقة أو بأخرى، أو من خلال خيال ما، صار قادراً على رؤيتهن وسماعهن. تنتمي الحضرة الشفشاونية إلى الزاوية البقالية، زاوية الولي الصالح سيدي علال الحاج البقالي، كما تروي أرحوم البقالي في حواراتها التلفزيونية، وتقول إن والدها كان شيخ زاوية أيضاً، فتفتح وعيها على الحضرة، التي كانت تقام داخل البيوت، في يوم الخميس من كل أسبوع، ونشأت وسط أجواء الذكر والمديح.

وتقول أيضاً إن الرجال كانوا يقيمون الحضرة في الزاوية، بينما تقيمها النساء في البيوت. ولم تكن الحضرة فناً تعبدياً وحسب، بل كانت فناً احتفالياً في الوقت نفسه، تحيي به الأفراح والمناسبات الاجتماعية، واللقاءات العائلية، والمواسم الدينية بالطبع، كالمولد النبوي الشريف.

لا يقتصر تلقي هذا الفن على السماع وحده، فالفرجة تمثل جزءاً من المتعة، ومن عملية خلق الخيال، ذلك أن الجلسة وطريقة ترتيبها، والملابس التقليدية القديمة، والحلي والمجوهرات حول الأعناق وفوق الرؤوس، والآلات الإيقاعية ووضعيات العزف عليها، والحركات المؤداة بواسطة الأجساد، كل هذا يتمم معاني الحضرة، ويُدخل المتلقي في حالة روحانية، تتناغم وتنسجم مع الغناء والإيقاع والكلمات.

وبماذا تتغنى نساء الحضرة؟ وأي كلمات يشدون بها؟ إنهن يتغنين بمجموعة من القصائد والأزجال، المتخيرة المصطفاة، بما تحتوي عليه من جمل بديعة ومفردات رائعة، تسبح بالمرء بين مروج الإيمان وينابيع الروحانية، وتحيي المعاني الإيمانية التي تذيق المكدود راحة، وتبعده قليلاً عن شراسة الحياة المادية والصراعات اليومية، وتعمل على طمأنة الروح وتصفية القلب من الأكدار. هذه النصوص من أذكار الزاوية البقالية، وبعض الزوايا الأخرى التي أضافتها أرحوم البقالي، بالإضافة إلى مختاراتها من أشعار، سيدي محمد بن علي بن ريسون، ومولاي علي شقور، وأبي الحسن الشاذلي، والإمام الحلبي وغيرهم.

ولا تخرج الكلمات المغناة عن إطار الذكر والمديح، وهي كلمات سعيدة فرحة، تمتلئ بالحب والأمل، وتخلو من اليأس والقنوط، قد يتخلل الكلام أحياناً مسحة خفيفة من الشكوى، أو تلميح بسيط إلى المعاناة مع عدم التفصيل، فالله هو العالم بالحال، وهي على كل حال شكوى يغلب عليها الرجاء، وحسن الظن بالله. ولرموز التصوف وعلاماته وإشاراته اللغوية، مكانها في هذه الأشعار، يلحظها المستمع من أغنية إلى أخرى، مثل «اشرب شراب أهل الصفا ترى العجائب» و»يا ساداتي يا مواليا نظروا نظرة خالصة فيا» و»نحن في مذهب الغرام أذلة» و»شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها».

الذكر أساس هذا الغناء، والشهادة هي الأكثر ترديداً «أفضل الغنائم لا إله إلا الله» والحث على الذكر والاهتداء إلى الحق، «يا القايل قول الله، عمّر بيها أوقاتك، ما توجد إلا الله، في موتك وحياتك، نفسك لا تنساها وخالف هواها، بذكر مولاها، لا إله إلا الله». وكذلك الدعاء، وطلب الخير من المولى عز وجل، «يا ربنا يا كريم، فرّج على المسلمين، أنت الجواد الحكيم، وأنت لي نعم المعين، رب أحينا شاكرين، وتوفنا مسلمين» و»باسمك يا رحمن بدينا، يا ربي جود علينا، بجاه الشفيع فينا، من رزقك زيد اعطينا». ولا تنفصل الصلاة على خير البرية عن الذكر، فنستمع إلى أجمل المديح، في سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، «متولع بحب الحبيب سيدي رسول الله» «صل يا رب وسلم على من هو للخلق رحمة وشفاء» «قد طال شوقي للحبيب محمد، فمتى إلى ذاك المقام وصول» «يا معشر الحُضّار صلوا على شمس الضحى المختار مولانا محمد» «الله الله الله، الله يا مولانا، زيدوا الصلاة والسلام يا الحاضرين معانا» «اللهم صلي على النبي، صلوا على الهادي، ما يشفع في هاد العباد إلا محمد». في الحضرة الشفشاونية، نستمع إلى الغناء الفردي والجماعي والتداخلات الصوتية، والمواويل والانفرادات التي تنطلق دون أي مصاحبة موسيقية.

وعلى الرغم من أن أرحوم البقالي، تقدم هذا الفن عادة، اعتماداً على الأصوات البشرية والآلات الإيقاعية فقط، وإن كانت أحياناً تشترك مع بعض الفرق الموسيقية الأندلسية، إلا أنه في الحال الغالب، لا يشعر المستمع بافتقاد للوتريات أو الآلات الموسيقية الأخرى، لأن الغناء في ذاته موسيقي للغاية، وغني بتنغيماته وميلوديته، ومتنوع بانتقالاته بين حالات وجدانية مختلفة، حتى عندما يتواصل الشدو استرسالاً، وهذا يعلن اقتدار النساء على أداء هذا الفن، ومواهبهن القوية، التي ظلت مختبئة داخل البيوت لقرون طويلة. تخلق الأصوات النسائية الإحساس بالراحة والألفة، وينسدل غناؤهن كالحرير المتموج، بإحساس مفعم بالحنان، وروح مسلمة عامرة بالإيمان والحب لله ورسوله، كأنهن يحلقن في سماوات صافية، فهذا فن ينبض بالروحانية، ويخاطب الفطرة في سامعيه.

تتنوع المقامات في فن الحضرة تنوعاً شديداً، وللمغرب مقاماته ونظمه النغمية والإيقاعية الخاصة به، وعنده أيضاً المقامات العربية المعروفة، ومن الطبوع أو المقامات التي تعتمد عليها أرحوم البقالي، الزركة، ورمل الماية، وحصار، وحسيني، وغيرها بالطبع من المقامات. وتُظهر براعة متناهية في توظيف هذه المقامات، بالإضافة إلى الإتقان في تركيب الأصوات والإيقاعات، كما أن الفواصل والوقفات والانتقالات التي تصنعها، رشيقة للغاية.

أذكار وأمداح على إيقاع القلب

باتساق الغناء مع اللحن والإيقاع والحالة الروحية، تكتمل عناصر الجمال والجلال في فن الحضرة، وبالنسبة للإيقاع، فهناك إيقاع الموسيقى وإيقاع الجسد أيضاً، إذ تنقسم الفرقة إلى مجموعة جالسة ومجموعة واقفة. أما المجموعة الواقفة، فيكون موضعها خلف المجموعة الجالسة، وتكون أقل عدداً منها، تصطف المجموعة الواقفة أفقياً وتتلاصق الأكتاف، مع عدم السماح بوجود فراغات بين الأجساد قدر الإمكان.

وأحياناً على مسافة من طرفي هذا الصف، تقف امرأة على الطرف الأيمن، وامرأة على الطرف الأيسر، وتمسك كل منهما براية مثبتة على عصا، ترتكز على الأرض أمام حاملتها، ولا تؤدي هاتان الامرأتان أي حركة، وتظلان في وضع ثابت طوال الحضرة تقريباً.

أما الصف الأفقي فتتمايل نساؤه تمايلاً خفيفاً، ككتلة واحدة يميناً ويساراً، بحركة بطيئة مستمرة تذكر بحركة بندول الساعة، وفي هذا الوضع تكون اليد اليمنى فوق اليد اليسرى، بينما تكون الأذرع ممدودة على استقامتها إلى الأسفل أمام الأجساد. وفي لحظات الذروة والتصاعد الروحاني، يتغير الأداء الجسدي، وتقوم المجموعة الواقفة بالتصفيق بالأيدي الممدودة إلى الأمام، والانحناء بما يشبه وضع الركوع، ثم العودة إلى الوقفة المستقيمة، وتكرار هذه الحركة بإيقاع منتظم، لا يصيب المتلقي بالملل، بل يجعله يرغب في استمراره على هذا النحو.

أما المجموعة الجالسة، فتكون على شكل هلال أو نصف دائرة، تتوسطها أرحوم البقالي، فهي قائدة الفرقة المتحكمة في الإيقاع والمقامات، ومسارات الغناء وطبقاته، والدخول إلى المقام والخروج منه، وتعطي بعض الإشارات للفرقة أثناء الغناء، لكنها لا ترفع يدها للأعلى، بل تخفضها كثيراً، ويلاحظ أنه قد تسبق الفرقة في الغناء أحياناً، ويتقدم صوتها على الأخريات ببضع ثوان بشكل مقصود، وسط النساء المتربعات فوق خشبة المسرح، تجلس أرحوم البقالي ممسكة بالطبلة، التي تعد الآلة الرئيسية هنا، وإلى جانب الطبلة توجد مجموعة من الدفوف، والطعريجة التي تشبه الطبلة لكنها صغيرة الحجم، والطبلة الكبيرة أو الدهولة التي يضرب عليها من الجانبين، والرق المثبت فيه بعض الصاجات المعدنية المتحركة، لكنه أصغر حجماً من الرق المتعارف عليه، وله مظهر لطيف، الكل يغني إما جماعياً أو فردياً، حتى نساء المجموعة الواقفة، لكن لا يمسك الجميع بآلات موسيقية، فهناك من المنشدات من لا تضرب على أي آلة، ويقتصر دورها على الغناء فقط.

ومن اللافت أيضاً، تميز مظهر قائدة الفرقة عن بقية أعضائها، لكنها تتميز بالمظهر الأكثر بساطة والأقل تعقيداً، فقد تخلت عن بعض الزينة، تحديداً فيما يخص ما يوضع فوق الرأس. ويتكون رداء نساء الحضرة الشفشاونية، من قفطان الحاج عمر القديم، وهو نوع من القفاطين المغربية العتيقة، وحزام دق الميغنا، والسبنية بشعيراتها الحريرية المنسدلة على جانبي الوجه، والحراز والطاقون وجوهر فورصانو، بالإضافة إلى بعض الحلي الأخرى.

 

تتنوع المقامات في فن الحضرة تنوعاً شديداً، وللمغرب مقاماته ونظمه النغمية والإيقاعية الخاصة به، وعنده أيضاً المقامات العربية المعروفة، ومن الطبوع أو المقامات التي تعتمد عليها أرحوم البقالي، الزركة، ورمل الماية، وحصار، وحسيني، وغيرها بالطبع من المقامات. وتُظهر براعة متناهية في توظيف هذه المقامات، بالإضافة إلى الإتقان في تركيب الأصوات والإيقاعات، كما أن الفواصل والوقفات والانتقالات التي تصنعها، رشيقة للغاية. وتبدع كذلك في التوشية والانصراف أو البدء والختام، ويتزين الغناء بالتنغيم الأندلسي الرائع، حيث المد والترقيق في نهاية الحرف، وتصاعد الغناء إلى أعلى، وطريقة الارتفاع بالياء، أو الألف الممدودة وأسلوب مط الحرف، وتدرجات الصوت في غناء الكلمة الواحدة، ارتفاعاً وانخفاضاً، كما في نطق لفظ الجلالة على سبيل المثال.

ويختلف التكوين المقامي والنغمي، لكل أغنية أو أنشودة عن الأخرى، وعادة يكون التسارع الشديد في النهاية، ثم القفل بجملة بطيئة، وللتكرار دوره في خلق الإيقاع أيضاً، وله أشكاله المتعددة، مثال عبارة «آه يا لالة والصلاة على النبي» التي تتكرر بعد كل جملة، وعبارة «الله الله الله أيواو يا أهل الله» التي تتكرر عدة مرات، أو تكرار الشطر الأول من البيت، ثلاث مرات متتالية، تكون المرة الأخيرة بتنغيم مختلف قليلاً، ثم في المرة الرابعة أو القسم الرابع من الغناء، يأتي الشطر الثاني من البيت، المكمل والموضح للمعنى، أو تكرار الجملة الأخيرة مرتين، وفي المرة الأخيرة يتضاعف الإيقاع والصوت، رغم أن البداية تكون بصوت خفيض هادئ. وفي الغناء المتصل يكون الوقوف، أو الهدوء والراحة داخل الكلمة الواحدة، ويكون البطء بداية لانطلاقة جديدة، وهذا يشكل إيقاعاً أيضاً. وعلى دقات هذا الإيقاع تنتعش الأرواح، وتتمايل الرؤوس والأجساد، ويسرح الفكر في عالم التصورات الروحانية، حيث يلعب الإيقاع دوراً كبيراً في خلق الحالة الوجدانية الصوفية، كأنه إيقاع ضربات القلب، أو كأن القلب تنتظم ضرباته على هذا الإيقاع.
المصر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى