الرئسيةرأي/ كرونيك

المغرب: الدولة أمام تحديات انهيار منظومة الوساطة

بقلم بلال التليدي كاتب وباحث مغربي

تعيش كل تجربة حكم تحديات كبرى تختبر قدرته على التفاعل السياسي السريع، وإمكان تقديمه أجوبة استشرافية تجدد شرعيته السياسية، وتمكنه من تعميق فلسفته في الحكم وإعادة ترتيب أدواته وأوراقه.
في العهد السابق، اختبر حكم الحسن الثاني بخمسة تحديات متتالية، كان أولها الصراع المبكر مع حزب الاستقلال، ثم الصراع مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فمواجهة انتفاضة 1965، وما أعقبها من الإعلان عن حالة الاستثناء. التحدي الرابع، تمثل في مواجهة انقلابين اثنين عامي 1971 و1972، عكسا في الجوهر قلقا داخل مؤسسة الجيش، أو على الأقل، وجود حساسية داخل الجيش نضجت بآراء سياسية وبعلاقات مع النخب السياسية، وتوافقات على تغيير نظام الحكم. أما التحدي الخامس، فكانت خلفيته سياسية واقتصادية، عرفت بمرحلة السكتة القلبية (دخول المغرب فترة التقويم الهيكلي وأزمة تدبير الحكم من خلال الرهان على أحزاب الإدارة المصنوعة على عين القصر).

ينبغي الملاحظة أن جواب الحكم على التحدي الأول، بتفكيك هيمنة حزب الاستقلال، باستعمال ورقة مفهوم التعددية السياسية ونبذ الحزب الوحيد، لم تنتج واقعا مخالفا للذي كان يراد تغييره، بل على العكس من ذلك، فقد كان من نتائج هذه السياسة، التي مزجت بين التفكيك والاحتواء، أن فقد المغرب وضوح الرؤية في المجال السياسي، فاستنزف الحكم والنخب في صراعات دامية، انتهت بانقلابين اثنين، تفطن القصر بعدهما إلى أنه لا مناص من عودة الحياة الديمقراطية (المسلسل الديمقراطي) لكنه عمليا لم ينجح في التخلص من الرؤية الاحتوائية للحركة الوطنية الديمقراطية، فكان أن عاش المغرب حوالي عقدين آخرين (إلى حدود تجربة التناوب التوافقية) من التيه السياسي، فختم الملك الحسن الثاني حياته السياسية بالعودة إلى تصحيح آلة السياسة ومضمونها بعد أزمة السكتة القلبية.


في العهد الجديد، كانت البداية واعدة، إذ تم التأكيد على نزاهة العملية الانتخابية (اعتبرت انتخابات 2002 التشريعية أنزه انتخابات في تاريخ المغرب السياسي) وتكلف الحكم بلورة فلسفة جديدة في الحكم اعتمدت على وثائق مرجعية (وثيقة المغرب الممكن) وأعطى إشارات انفراج سياسي وحقوقي واسع (تجربة الإنصاف المصالحة) وأطلق ورش التصالح المجتمعي (مراجعة مدونة الأسرة) وخلق بذلك إجماعا غير مسبوق على الحكم.

لكن مع ذلك، فقد تعرض حكم محمد السادس لخمسة تحديات مقابلة، كان أولها التحدي الإرهابي (2003، 2007، 2008) وتحدي الانقسام المجتمع على خلفية الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية التي تبنتها حكومة عبد الرحمان اليوسفي، وتحدي نتائج انتخابات 2007 (ضعف أحزاب الكتلة الديمقراطية وتقدم الإسلاميين) وما أعقبها من استعادة خيار حزب الإدارة الحزب الأغلبي بأشراف من شخص قريب من محيط الملك قام بوضع الأساس الفكري والمدني لهذه المبادرة، وتحدي الربيع العربي (حراك 20 فبراير) ثم تحدي تدخل الإدارة في تعديل متجهات الخيار الديمقراطي، وما ترتب عن ذلك من انهيار منظومة الوساطة.

ما يهمنا في هذه السردية التحليلية المقارنة، شيء واحد، فالعهد الأول، بدأ بعملية جرف الأحزاب الوطنية الديمقراطية، فانتهى به الأمر في المحصلة إلى الاستغاثة بها لوضع المغرب في السكة الصحيحة، بعد مسار من الاحتقان السياسي والاجتماعي دام حوالي أربعة عقود

يلاحظ في التقييم المعمق للجواب عن هذه التحديات تفاوت كبير في المفردات والمسلكيات والأسلوب.

في قضية الإرهاب، تم الانعطاف للمقاربة المندمجة، ورفض الحكم بشكل مطلق أن يتجه في مسار مراجعة الاندماج السياسي للإسلاميين على الرغم من هيمنة أصوات كانت تدفع نحو تحميلهم المسؤولية المعنوية عن تفجيرات الدار البيضاء، وفي قضية الانقسام المجتمعي حول قضية الأسرة، عيّن الملك لجنة لفتح عملية تشاور مجتمعي واسع، مع تأطير عملية مراجعة المدونة بالمرجعية الدستورية، فحسمت مدونة الأسرة الصراع المجتمعي، وسمحت بمدة للسلم شارفت على عقدين من الزمن.

التحدي الرابع المرتبط بالتعاطي مع حراك 20 فبراير وربيع الثورات الذي اندلع في الوطن العربي، أنتج الحكم صيغة منحته الصفة الاستثنائية عربيا في إخراج المغرب بشكل ذكي من السيناريوات المختلفة التي أسقطت فيها عدد من الدول العربية (تونس، مصر، اليمن، سوريا، ليبيا).

الجواب استند إلى فكرة إجراء إصلاح سياسي انطلق من قاعدة تعديل الدستور بقصد إعادة ترتيب العلاقات المؤسساتية داخل الدولة بما يقوي مؤسسة رئاسة الحكومة، ويجعل الإرادة الشعبية المحدد الأساسي لتشكيل الحكومة (تعيين رئيس الحكومة من بين الحزب الفائز بالانتخابات) وإطلاق إشارات للانفراج السياسي والحقوقي، وإعطاء ضمانات لتنظيم انتخابات نزيهة وذات مصداقية، وهو الجواب الذي أثمر تجربة سياسية مهمة، أضحت فيما بعد مركز دراسة ونموذج إلهام في الوطن العربي.

التحدي الرابع والخامس، حملا مضمونا واحدا من حيث المخرجات، أي إضعاف الإسلاميين، فبعد انتخابات 2007، كان التفكير في حزب إداري أغلبي بديلا عن أحزاب الكتلة الديمقراطية التي تأكدت محدوديتها في لجم تقدم الإسلاميين، وفي 2016، كان «البلوكاج الحكومي» في الجوهر رغبة في كبح شعار» تشكيل الحزب الأغلبي للحكومة» وأن تعكس التشكيلة الحكومية الإرادة الشعبية، لكن ما ينبغي تسجيله في هذا الصدد هو أن المحيط الدولي والإقليمي كان معاكسا للجواب السياسي في التحدي الرابع، محفزا عليه في التحدي الخامس، فعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية كانت تدفع بقوة نحو تصدر الإسلاميين للمشهد السياسي في العالم العربي ما بين 2002 و 2011، فإن الواقع تغير بشكل كامل، ابتداء من سنة 2013، أي مع حراك الشعوب العربية، وهو ما يؤكد بأن هذا المحيط لا يشكل محددا حاسما في رسم جواب الدولة، ففي التحدي الرابع كانت الدولة تقاوم بشكل ما الضغط الأمريكي الذي كان يصب في خانة الإسلاميين، ولذلك اتجهت إلى خلق حزب سياسي إداري بقصد إحداث قدر أكبر من التوازن السياسي، وفي 2016، بل قبلها أي سنة 2013 كان المحيط الدولي والإقليمي خادما لإسقاط الإسلاميين، واختار الحكم في البلاد طريقة ناعمة في إضعاف الإسلاميين وليس إنهاء تجربة اندماجهم السياسي كما حصل في مصر ثم تونس حاليا.

في الواقع، ما يهمنا في هذه السردية التحليلية المقارنة، شيء واحد، فالعهد الأول، بدأ بعملية جرف الأحزاب الوطنية الديمقراطية، فانتهى به الأمر في المحصلة إلى الاستغاثة بها لوضع المغرب في السكة الصحيحة، بعد مسار من الاحتقان السياسي والاجتماعي دام حوالي أربعة عقود، بينما انطلق العهد الجديد من ترصيد هذا التراكم، وانتهى به التفاعل مع جدل الضغط الداخلي والخارجي، إلى صيغة لم يعد فيها في الحقل السياسي سوى المؤسسة الملكية باعتبارها الفاعل الأقوى وصاحبة المبادرة والموجهة لكل مفاصل السياسة.

حدث حراك الريف (2017) والخطاب الملكي الذي أعقب الأحداث، والذي شن فيه نقدا لاذعا للأحزاب بسبب عدم قيامها بدورها في منع تعريض المؤسسة الملكية للاحتكاك المباشر مع الجمهور، رسم عنوانا كبيرا لانهيار الوساطة الحزبية، وتواتر عدد من التعبيرات الإعلامية، عبر وسائط التواصل الاجتماعي التي تجاوزت كل الخطوط الحمر في التعبير النقدي للمؤسسات، رسم عنوانا آخر يخص انهيار الوساطة الإعلامية، والاحتجاجات التعليمية التي استمرت بداية هذه السنة لمدة ثلاثة أشهر، وأبانت اختفاء دور النقابات، وبروز دور الحركات الاحتجاجية الجديدة ذات الطابع الفئوي (التنسيقيات) كشف عن انهيار مؤسسة ثالثة من مؤسسات الوساطة هي الوساطة النقابية.


المختلف عن العهد السابق، بدون شك هو الاقتصاد، فالعهد الجديد أولاه أهمية كبرى، لكن، مهما كانت التشابهات بين العهدين، فإن الدرس الكبير المستفاد من التجربتين، أن موت السياسة، وضعف الأحزاب الوطنية الديمقراطية التي انحدرت من رحم الشعب، وتراجع دور مؤسساتها الموازية لاسيما منها النقابية، وتراجع دور الصحافة المستقلة، أنتج ظاهرة انهيار مؤسسة الوساطة، وسمح بظهور تشكيلات جديدة على كافة المستويات، السياسية، والاحتجاجية والإعلامية والتواصلية، وأنهى دور القواعد الحاكمة في تأطير العملية السياسية، وهو سيناريو يحمل معه الكثير من المجاهيل التي ينبغي توفير أجوبة استباقية عنها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى