المختار بنعبدلاوي.. رحيل رجل نهضوي +فيديوهات وصور
صدم الوسط الأكاديمي والثقافي والمدني في المغرب والوطن العربي، برحيل الأستاذ المختار بنعبدلاوي في أوج عطائه. يعتبر الراحل أحد أبرز الوجوه المغربية النشيطة أكاديميا على مستوى الدرس الفلسفي، حيث كان أستاذا للفلسفة بكلية الآداب المحمدية متخصصا في الفلسفة السياسية والإسلاميات المعاصرة،
بعد انتقاله إليها من كلية الآداب ابن مسيك التي قضى سنوات طويلة فيها بعد أن كان من أبرز مؤسسي شعبة الفلسفة هناك نهاية التسعينات من القرن الماضي، وكان هناك مسؤولا لوحدة الدكتوراه “دراسات في الدين والسياسة”. كما عرف الأستاذ بنعبدلاوي بنشاطه المدني المكثف سواء من خلال تأسيسه لمنتدى المواطنة إلى جانب ثلة من أبناء الحركة الاتحادية والمقربين من مدرستها، تحت توجيه المجاهد الكبير محمد الفقيه البصري بعد عودته من منفاه الاضطراري، مستوعبا مجموعة من المثقفين والشباب اللامعين حينها في مجالات النضال والإبداع المختلفة.
تعرفت على الأستاذ المختار بنعبدلاوي في سياق الحراك السياسي الذي عرفه المغرب منتصف التسعينات من القرن الماضي، حيث كان المشهد السياسي يغلي، وكانت الحركة الاتحادية حينها في قلب المعادلة السياسية تتطلع إلى تغييرها حراكا في الشارع ونضالا من داخل المؤسسات، خاصة في مرحلة ما بعد اعتقال الزعيم النقابي الراحل محمد نوبير الأموي حين تحدث سنة 1992 عن الملكية البرلمانية ووجوب بناء ديموقراطية حقيقية في المغرب بعيدا عن سيطرة القصر وتحكمه في اللعبة السياسية، مقابل إعداد النظام لمشروع “التناوب” الذي يعرف الجميع قصة بدايته ونهايته. في تلك الأجواء التقيت الأستاذ بنعبدلاوي وخاصة حين تبلور داخل الحركة الاتحادية تيار تصحيحي لمواجهة خطايا التيار المتنفذ الذي انتصر لإدماج الاتحاد داخل بنيات السلطة وإلحاقه بها، في تغيير دراماتيكي لمشروع الاتحاد التحرري ومدرسته النضالية وإرثه الممانع الذي امتد لأزيد من ثلث قرن بعد انقلاب الحسن الثاني على حكومة الزعيم عبد الله إبراهيم.
أثار الأستاذ المختار بنعبدلاوي انتباهي، وأنا العائد إلى البيضاء بعد سنتين قضيتهما في فكيك أستاذا للفلسفة، بخطابه الهادئ ونفَسه النقدي واستحضاره لجوهر المشروع التحرري الاتحادي بشكل متوازن يركز فيه على جوهر الأشياء وعلى القواسم المشتركة ويبتعد عن التطرف وشخصنة الخلاف. قبل أن تجمعنا صفوف تيار الوفاء للديموقراطية بعد الهزة التي ضربت الحركة التصحيحية للاتحاد في مؤتمره الوطني السادس، وقد كان بالمناسبة أحد محرري وثيقة هذا التيار، حيث كتب الفصل الخاص بالهوية. وبعد مدة قرر الابتعاد عن العمل السياسي المباشر، مُؤْثرا العمل في الواجهتين الأكاديمية والمدنية، قبل أن يعلن عودته إليه قبل سنتين بحضوره اجتماعات اللجنة التحضيرية لتأسيس حزب فيدرالية اليسار الديموقراطي والمساهمة في تأسيسه وحضور أنشطته.
جمعنا العمل لفترة في إطار منتدى المواطنة، الذي كان منطلقا له، مع مجموعة من رفاق دربه، في تأطير جيل من الشباب والباحثين المنحدرين من مشارب جمعوية مختلفة مثل جمعيات الشعلة والجمعية المغربية لتربية الشبيبة وجمعية الطفولة الشعبية وجمعيات الأحياء والجمعيات الثقافية ذات النفَس التقدمي التي كانت جزء من شجرة الحركة الاتحادية الوارفة قبل أن تبدأ شمس المدرسة الاتحادية بالأفول والتراجع تدريجيا، ليشكل منتدى المواطنة ملاذا للكثير من الشباب في تلك المرحلة، أصبح الكثير منهم أسماء بارزة في العمل الثقافي والفني والجمعوي على الصعيدين المغربي والعربي.
وبعد مدة غير يسيرة أسس الأستاذ المختار بنعبدلاوي مركز مدى للدراسات والأبحاث الإنسانية” الذي واصل من خلاله حمل نفس الهموم في بناء جيل من الشباب والباحثين الملتزمين بقضايا المغرب والوطن العربي.. مركزا اهتمامه خاصة على الواجهة المغاربية منفتحا على نخب أقطارها المتنوعة في موريتانيا والجزائر وتونس وليبيا. مؤمنا بوحدة المغرب العربي الكبير مهما وصلت حدة الاختلافات بين أنظمتها التي بقيت في معظمها رهينة لمحددات النشأة الاستعمارية وخاضعة لضوابطها السياسية والاقتصادية والثقافية وهي الأخطر في نظره. كان منفتحا على التيارات المختلفة وجسرا جامعا بينها، لا يخشى الحوار مع من يختلف معه، باحثا عن القيم المشتركة، فكان من أوائل من انفتح على رموز تيار الإسلام السياسي واستضافهم في ندواته، وكان من المؤسسين لأرضية التلاقي التي تبني كتلة تاريخية للتغيير بما يحقق مصالح الجميع في تغيير ديموقراطي يضمن حقوق الجميع في الديموقراطية والعدل والكرامة.
كان واثقا في الشباب الذي آمن بأنه من سيواصل المعركة وسيحمل المشعل. وكم كنت حرجا ذات سنة من سنوات بدايات الربيع العربي حين اقترح علي أن يجري حوارا معي في مجلة رهانات، حول الثورات العربية ومآلاتها، وأنا الطالب وهو أستاذي الذي يؤطر أطروحتي في الدكتوراه. حاولت التهرب جهد المستطاع، لكنه حاصرني حتى قبلت بالأمر، وفاجأني أكثر أنه اعتذر بلباقة عالية إن كان الأمر قد سبب لي أي حرج، فكان الحرج مزدوجا، يا للطف هذا الرجل بالفعل.
وفي سياق اهتمامه الثقافي والأكاديمي كان منتصرا دوما لبناء معرفي يتجاوز أفق السياسة والإيديولوجيا الضيق، فقدم برنامج “ديوان” الثقافي على شاشة القناة الثانية المغربية لسنوات، جاعلا منه منبرا للثقافة والإبداع، مستحضرا كل أصناف الإبداع والمبدعين في تنوعهم وتعدد انتماءاتهم دون إقصاء، فكان أحد رواد الإعلام الثقافي في المغرب والوطن العربي.
كما أسس المنتدى المغاربي الذي عقد أكثر من عشر مؤتمرات ناقشت كل الهموم التي تحملها النخب المغاربية وشعبها الواقع ضحية صراعات لا دخل له فيها تلعب عن طريقها اليد الاستعمارية فعلها في المزيد من التشتيت لتؤبد عملية الهيمنة عليها. مستلهما النضالات المشتركة للنخبة المغاربية التي تبلور مشروعها الكفاحي المشترك في تأسيس مكتب تحرير المغرب العربي في القاهرة بقيادة الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي، وغيرها من مكاتب نظيرة له في دمشق ونيويورك ولندن وجنيف وبغداد ولقاء الأحزاب المغاربية في طنجة إبان خضوعها للاحتلال الدولي..
لذا كان دوما يتذكر رموز العمل النضالي المغاربي مثل المهدي بنونة وعلي الحمامي وامحمد بن عبود والهاشمي الطود وعبد العزيز الثعالبي وعلال الفاسي ومحمد الفقيه البصري ومصالي الحاج وحافظ إبراهيم ومحمد بنسعيد أيت يدر وعبد الحميد مهري ومفدي زكرياء… لذلك بقي الهاجس المغاربي حاضرا في أوج الأزمات المتتالية التي لا تفتأ تهدأ بين الجزائر والمغرب، غير يائس ولا منسحب. حدثني الأستاذ الزبير عروس أحد علماء الاجتماع في الجزائر والوطن العربي عن حماسة السي المختار الشديدة لبيان كان قد حرره ليوقعه المثقفون في المغرب والجزائر سنة 2019، وكيف ساهم في مراجعته وتأمين التوقيعات المكثفة له.
كانت الثقافة واحدة من الهموم الأساسية التي حملها الراحل، وخاصة قضية الهيمنة الفرنكوفونية على منطقة المغرب العربي، والإقصاء المتعمد للغة العربية ولثقافتها الجامعة والموحدة للمنطقة وشعوبها. وكان شديد الدفاع على فكرة ان تحتل العربية مكانتها الحقيقية في المعمار السياسي والثقافي والاقتصاد المغاربي، على أن تكون الإنجليزية هي اللغة الأجنبية الأولى بحكم كونها لغة العلم والمعرفة في العالم.
ناقشت الندوات التي أقامها مركز مدى كل القضايا الشائكة، وساهمت في توعية الرأي العام، فمن قضايا الثقافة والفعل الثقافي في الأحياء والمواطنة إلى قضايا التحرر والعدالة، إلى قضايا التجديد الديني، وقضايا الديموقراطية والنخب المأزومة إلى قضايا التدخل الأجنبي والهيمنة، وقضايا الربيع العربي، والقضية الفلسطينية وقضايا التحرر العربي المختلفة.. وأصدر بعضها في كتب. في حين صدر بعضها في مجلة رهانات التي ترأس تحريرها.
صدرت له عدة كتب، بدءا من سنة 1996 في دمشق، حيث ترجم كتاب جاك مونتوي: “مختصر تاريخ الفلسفة”، بعدها أصدر كتاب “الإسلام المعاصر.. قراءة في خطابات التأصيل” وكان أطروحته التي ناقشها في جامعة دمشق تحت إشراف المفكر العربي الكبير الطيب تيزيني. ثم أشرف على صدور كتاب جماعي بمنتدى المواطنة تحت عنوان “الأمازيغية: إشكاليات وقضايا” في سياق النقاش حول المسألة بالمغرب مطلع الألفية الثالثة، أذكر أنه تعامل مع المستكتبين بروح مرونة عالية، وكنت واحدا منهم، حتى الذين تجاوزوا التاريخ المحدد. وهو كتاب تأسيسي ومفيد في موضوعه وأرجو أن تسمح الظروف بإعادة إصدار طبعة ثانية منه.