الرئسيةرأي/ كرونيك

من وقف حذر و مؤقت لإطلاق النار إلى سلام عادل و شامل و دائم بين فلسطين وإسرائيل

فضيلي
بقلم خالد فضيل

بعد 15 شهرا من الحرب التي شنتها إسرائيل بوحشية غير مسبوقة على غزة إمعانا في إظهار التصور الصهيوني لليمين الحاكم في مواجهة المقاومة و ردا على طوفان الأقصى الذي باغث العقل الاستراتيجي للدولة العبرية و المعادلة الجيو-سياسية للشرق الأوسط و التوازنات الجيوستراتيجية للعالم و هو يعيش على إيقاع تصاعد مؤشرات صدام عسكري غير تقليدي بين الأطراف السابقة لنظام القطبين و الحرب الباردة ، توصلت حماس و حكومة نتنياهو إلى اتفاق لوقف إطلاق النار و تبادل للأسرى يسري تنفيذ مقتضياته ابتداءا من 19 يناير 2025 تحت إشراف دول إقليمية و حسابات الإدارة الأمريكية الجديدة و تواتر متغيرات شديدة التعقيد في موازين قوى الصراع بين المحاور .

معطيات كبيرة سيكون لها وقع جلل على مستقبل الشرق الأوسط و توازنات العالم قد طرأت إبان هذه الحرب و ما صاحبها من ارتدادات إقليمية و تداعيات دولية ، معطيات يتعين رصدها حتى و إن حملت في طياتها متناقضات ناجمة عن طبيعتها المتحولة من تراكمات كمية إلى أخرى نوعية ستبدل الكثير من التاريخ ، لا محالة ، و جزءا من الجغرافيا في منطقة الشرق الأوسط و ستدشن لمرحلة جديدة في تضاريس العلاقات الدولية برمتها .

تركة الحرب ثقيلة جدا فقد خلفت أعدادا مرعبة من الضحايا . ما يناهز 47 ألف قتيل و 110 ألف جريح جلهم أطفال و نساء و مدنيون و دمار معظم قطاع غزة بكل مرافقه الحيوية كان ثمنا باهضا و كفيلا بإحداث أوضح فرز و أعمق فجوة بين موقف الحكومات و موقف الشعوب إزاء القضية الفلسطينية منذ نكبة 1948 و بإبراز اهتراء مؤسسات الشرعية الدولية و خواء خطابها القانوني و الحقوقي من القدرة على التدخل حينما يتعلق الأمر بقضايا لا تتوافق و مصالح القوى العظمى.

التضامن الشعبي الأممي العارم مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني كان أمرا مهما جدا لكنه لم يتمكن من إحداث ضغط حقيقي لا على الحكومات و لا على مؤسسات الأمم المتحدة لتتخذ القرارات الملائمة كما أن عمقه السياسي بقي في حدود تعاطف الناس مع مأساة غزة و نبذ العنف و الدعوة إلى التعايش و السلام و لم ينتصر إطلاقا لتصور حركة حماس و فصائل المقاومة الأخرى التي عارضت فلسفة إتفاق أوسلو و تستمر في رفض أي اعتراف بإسرائيل حتى في ميثاقها المعدل عام 2017 .بل إن هذا الزخم الشعبي العالمي قد أجبر المقاومة على تجنب كل ما من شأنه الإضرار بصورتها وإلى العمل على أنسنة سلوكها العسكري كما كان واضحا طيلة المواجهات و لحظة تسليم الرهائن رغم وجود أصوات مستقلة و ذات مصداقية دونت و أدانت عددا من التجاوزات الإنسانية خلال هجوم 07 أكتوبر 2023.

الخسائر الجانبية للحرب على غزة في لبنان لم تكن أقل فداحة ، فقد أتت على جزء كبير من قدرات و قيادات حزب الله و نقلته من فاعل مركزي في صراع الشرق الأوسط إلى حزب ترسم له حدود المشاركة في الشأن اللبناني الداخلي كما بدى جليا عند تراجعه القسري عن فيتو ترشيح جوزاف عون لرئاسة الجمهورية ، خاصة بعد اغتيال حسن نصر الله و إسقاط نظام بشار الأسد و حزب البعث في سوريا و ما سبقهما من مؤشرات عن ترتيبات تكون قد حصلت مع روسيا و إيران من الوارد أن تتضح معالمها في المدى المنظور . ذلك أن الاستساغة السريعة من الدولتين لسقوط حليف استراتيجي و حيوي لمصالحهما بعد 13 سنة من التورط المباشر في الصراع ، تطرح علامات استفهام كبرى و لا ترجح أنها حصلت بفعل هزيمة نهائية بل يبدو أنها نتيجة قراءة براغماتية لتقليل الخسائر و تفادي مواجهة مفتوحة و تحقيق بعض المكتسبات من قبيل عدم تدمير المشروع النووي الإيراني و الحفاظ على حد أدنى من قواعد الاشتباك و وعود وقف الحرب في أوكرانيا بما يحفظ أمن و كبرياء روسيا إزاء حلف الناتو ، في ظل موازين قوى مختلة ، بشكل ملحوظ ، لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها .

لقد بات واضحا أن إسرائيل ، في ظل حكومات اليمين المتطرف ، تشكل عائقا أمام أية تسوية سياسية للقضية الفلسطينية حتى و إن لم تتجاوز تلك التسوية سقف إتفاق أوسلو بما عليه من تنازلات ، كما أنها تكون عبئا على حلفائها و على المنتظم الدولي و مصدر إحراج لمعاهدات السلام العربية المبرمة معها أو المعقد العزم على إبرامها في المستقبل ، مما يضع خيار السلام في مأزق حقيقي على كافة الأصعدة . و في مقابل ذلك فإن الوضع المترهل للسلطة في رام الله و تراجع حركة فتح في مسار الثورة الفلسطينية و شبه أفول دور منظمة التحرير من جهة و رهان المقاومة على السلاح دون رؤية ، في الصراع ، لتسوية سياسية و دون تصور ، في بناء الدولة ، للديمقراطية و التنمية و حقوق الناس ، يدخل القضية في دوامة تقديم التضحيات الجسام دون مكتسبات لائقة و مستدامة .

عقب 471 يوما من الحرب و ما نجم عنها من ضحايا و تغييرات ، عادت الأطراف إلى المفاوضات و إلى وقف هش لإطلاق النار و هي فرصة ، على محدوديتها و ظرفيتها ، ستساعد في عودة النقاش المجدي و تبادل الرأي بهدوء بين دعاة السلام و مناصري حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على قاعدة ما أجمع عليه المنتظم الدولي من قرارات تتعامل مع قوة الأشياء القادمة من وعد بلفور و الانتداب البريطاني و نكبة 1948 و تمنح الفلسطينيين بناء الدولة على حدود 04 يونيو 1967 و عاصمتها القدس الشرقية و عودة اللاجئين مع إحداث تعديلات على خرائط اتفاق أوسلو و مراجعة اتفاقية باريس الاقتصادية.

كل محطات و تفاصيل ما حصل على امتداد تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي تثبت أنه من المستبعد جدا ، بل و من المستحيل ، أن ينتهي هذا الصراع بحسم عسكري لا لصالح المقاومة و لا لفائدة إسرائيل أو بإجهاز طرف على آخر . يمكن للمقاومة إلحاق الأذى بأمن إسرائيل لكن في غياب رؤية سياسية للحل سيكون فعلا عسكريا دون أي أفق كما يمكن لإسرائيل تكثيف القصف الهمجي و المنهجي على المدنيين و البنيات التحتية و مرافق الحياة لكن دون قدرة على اجتثاث القضية . هذا ما يقوله تاريخ المواجهات . لذلك فإن الاستمرار في إنتاج و إعادة إنتاج وهم الانتهاء من حقوق الفلسطينيين من قبل الصهيونية و اليمين المتطرف داخل الدولة العبرية منذ اغتيال إسحاق رابين و حلم إلقاء الكيان في البحر الذي يراود الفصائل التي تصدرت المشهد الفلسطيني بعد اغتيال ياسر عرفات سيشتركان في تأبيد القضية داخل متاهات تذكر بحكاية الصخرة و سيزيف و قمة الجبل مع الكثير من الدماء.

علينا تفادي تضليل الشعوب المكافحة من أجل كرامتها و حريتها و استقلالها و عدم السقوط في أسوء ما يمكن أن يحصل .و أسوء ما يمكن للقيادات السياسية و النخب الفكرية و أصحاب الرأي أن يقعوا فيه هو إخطاء السبل الواقعية لتحقيق الطموحات المشروعة لتلك الشعوب و دفعها إلى ركوب الخيارات بتعصب و تطرف و عدمية و دون بوصلات .

لسنا بصدد المزايدة على قوى المقاومة و لا إعطاء الدروس لشعب و فصائل قدمت أبنائها و قادتها دفاعا عن فلسطين في مواجهة العدوان الإسرائيلي الغاشم و الاحتلال و الاستيطان و مصادرة أبسط الحقوق على امتداد عقود . لا أحد يجرؤ أو يقوى أو يفكر بذلك ، حتى ، إنما نحن نتألم لمأساة أهلنا في غزة و الضفة و نأسف لتعثر حل عادل و دائم للصراع و نروم المساهمة في إعادة و ضع خيار السلام بقوة على أجندات الفصائل و الفاعلين الإقليميين و الدوليين لأننا نؤمن بحل الدولتين و لا نتصور أن يتفتق الفكر الإنساني عن حل آخر أنسب و أنصف و ممكن لفض هذا الاشباك المروع الذي حملته حركات و حسابات دول ما عسر توفق أطرافه المباشرين في بلوغ تسوية هي بلغة التاريخ حبلى بتنازلات جغرافية كبيرة من قبل الفلسطينيين لكنها بمنطق قوانين عدم عودة التاريخ مبادرة شجاعة لا مندوحة عنها لإقامة السلام العادل و الشامل و الدائم .

بمجرد استكمال مراحل اتفاق وقف إطلاق النار و وصول المساعدات الإنسانية و تبادل الأسرى ، سينتظر أهلنا في قطاع غزة و معهم عموم الشعب الفلسطيني استيعاب الفصائل لما حصل و استنتاج الدروس اللازمة و اشتقاق المهام الكفيلة بالاحترام الواجب لذلك الشعب العظيم و لذكائه و لحقه في الحياة . ولعل أبرز ما سينشده ، في تصورنا ، هو صياغة برنامج للوحدة الوطنية و إعادة هيكلة الحقل السياسي و السلطة و الإعمار و إعلان مبادئ للسلام و مبادرة للتسوية.

حركة فتح تعلم أن عليها أن تتأهل للنهوض بمهامها التاريخية في المرحلة و الرهان سيكون على قامات من قيمة مروان البرغوثي و منظمة التحرير تعرف أن مبدأ القواسم المشتركة كفيل بإعادة الحياة و التوهج إليها لتتصدى لمهمة تمثيل الشعب الفلسطيني بكل أطيافه و حركة حماس تدرك أنه من الصعب أن تبقى متصدرة للمشهد في غزة رغم الرسائل التي فخخت بها مشهد تسليم الرهينات الثلاث في ساحة السرايا . المانحون و شركاء إعادة الإعمار و الداعمين المحتملين لحل الدولتين ستكون لهم اشتراطات تفيد هذا التوجه الذي من المتوقع أن ينجز الكثير خاصة بعد تعهد الرئيس الأمريكي المنتخب ، دونالد ترامب ، خلال حفل التنصيب بنزع فتيل الأزمات و وقف الحروب و تعميم السلام و هو تعهد جدير بأن يؤخذ على محمل الجد بالنظر إلى طبيعة الرجل و ملابسات إعادة انتخابه .

الهجوم الفلسطيني على صقور إسرائيل بمبادرة سلام سوف يعزز الدعم الشعبي الكوني للحقوق الفلسطينية و يفرض على المنتظم الدولي تبنيها و العمل على أجرئتها و سوف يجعل العالم متفهما تمام التفهم لأي رد فعل مقاوم في حالة تعنت أو تلكإ أو تسويف من قبل الدولة العبرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى