ذاكرة

طرائف المعتقلين: توفيقي بلعيد “ملي كنا كنتبحرو في الحبس”…

هم أصحاب مواقف معارضة، قادتهم إلى غياهب المعتقلات السرية، المعروفة منها والمجهولة العنوان.. سياسيون أمضوا سنوات طوال خلف الأسوار والأبواب الموصدة في زمن الجمر والرصاص..  قاوموا العزلة وبرودة السجن، وحاولوا النجاة بإرادتهم من أجواء المعتقل بعدما خلقوا أجواء من الفرح من عمق الألموالتوتر والقلق والكآبة والخوف.. منهم من قضى في السجن، ومنهم من غادر أسواره بأعطاب نفسية عميقة، أضحت لحظات الألم فيها الآن، أو عند كل استدراج للذاكرة عنوانا للتفكر من المرحلة وثقل المرحلة.

في هذه الفسحة، ثمة طرائف للمعتقلين السياسيين، جديرة بأن تُروى، تمكنوا من خلال عفويتها ومواقفها وصناعتها أحيانا، التحرر من قسوة المكان وسطوة السجان..تعيد “دابا بريس” نشر مروياتهم، التي حكوها ذات ليال رمضانية، للزميلة “هدى سحلي”

 

ومن بين هؤلاء المعتقل السياسي السابق توفيقي بلعيد، فيحكي مثل كثيرين هنا، كيف انتصر بمعية زملائه على ظلمة الزنزانة وتعذيب السجان بسلاح السخرية وصناعة الطرائف المنقوعة من كوميديا المواقف.

توفيقي بلعيد

“ملي كنا كنتبحرو في الحبس”

بعيدا عن أشجان السجن، وهموم السياسة، كانت هناك مسرات بسيطة، تثلج القلب، عاشها بل كان محركها الأساسي، هذا الشاب الذي اعتقل وهو ابن التسعة عشر ربيعا.

على مدى خمس سنوات، قضاها بالسجن، كان مفعما بالحياة، وبالأمل، وبكثير من الخفة والنزقية، يتحرك داخل السجن، بين قيادات الحركة الماركسية، غير آبه بالقيد، ولازال كذلك إلى اليوم نشيطا مقبلا على الحياة، وقد صار شيخا في الستين من عمره.

السجن بالنسبة لتوفيقي بلعيد، كان لحظة بطولية، ويعتبر أنه كان محظوظا بأن يعتقل مع الكبار، من أمثال أنيس بلافريج، وأحمد حرزني وآخرون، يقول بلعيد أن “كل معتقل في السجن،يعيشه انطلاقا من شخصيته ومن التزاماته، من سنوات السجن التي يقضيها، ومن السنّ التي اعتقل فيها…انا اعتقلت في عمري 19 سنة، مازال أمامي مساحة كبيرة من الزمن، كي أرى العالم، كنت اعتبر الاعتقال شيئا بطوليا”.

كان السجن حابلا بالآلام، لكن تتخلله الكثير من المواقف تكسر سطوته، وكثير من شغب الشباب وعنفوانه، ونمطية تصوراته عن الأشياء والعلاقات، لم يكن مثلا بلعيد يتخيل أنه من الممكن أن تخاف القطط من الفئران، لكن في السجن قوانين تناقض قوانين الطبيعة، يذكر حين كان في السجن الانفرادي، وحيدا في الظلمة، عاريا إلا من سروال قصير واسع، و “دربالة” ألبسوه إياها وتركوه للبرودة تنخر عظامه.

صورة جماعية للمعتقلين السياسين

العري والبرودة والظلمة، لم تكن لتزعج بلعيد، لكن تلك الفأرة التي تخرج من المواسير،زجت إلى قلبه الرعب كما لم يفعل السجان، صبر طويلا وفكر عميقا، وكان هناك أيضا قطٌ، خاله بلعيد سينقذه من الفأرة، قال “قمت وحملت القط، اقتربت من المرحاض، وجعلت مسافة بيني وبين الفأرة، ورميت القط وابتعدت، أسمع مواء القط وكعيص الفأرة، حتى خرج القط هاربا، وهربت معه لأنزوي في الركن”.

كان لكل شيء معنى آخر، وارتباط آخر، في العادة يسترسل بلعيد ضاحكا، يتقزز من الأكل إذا وجد به شعرة، لكنهم في السجن، كانوا إذا وجدوا شعرة، يسلونها ببطء ويدققون النظر في طولها ولونها، ويطلقون العنان لمخيلتهم يتصورون شكل صاحبة تلك الشعرة.

السجن لم يكن سجنا بالنسبة لي، دعيني أقول لك شيئا، الذين يعرفونه ينصحونني بكتابته، يضيف بلعيد “المأكولات التي أكلت في السجن، بحكم أن أغلب الناس المعتقلين معي من أسر متوسطة أو غنية جدا، لم أكن أعرفها قبلا، في السجن أكلت الكلامار، ودخنت السيجار الكوبي، واستحممت ب”شمبوانات ” لا أعرف أسماءها، وتعطرت بعطور لم أكن سأنعم بطيبها، وفي نفس الوقت، في مرحلة النضال الصعب والاضرابات عن الطعام، منا نعيش”” كفس من ما يمكن أن يعيش الإنسان، ولكن كنا مفعمين بالحياة والأمل، وثقة كبيرة في الشعب، غادي يدير الثورة ويخرجنا من الحبس، ماشي النظام”.

وللصيف في السجن أيضا متعه، في سجن القنيطرة المركزي “كنا كنتبحرو” يقول بلعيد منتشيا، مضيفا”كنا تنصَيّفًو حتى حنا، كنلبسوشورطات، باش نمشيو”لابيسين”ونعومو حتى حنا”، سألته كيف؟ فأجاب: كنا نملأ حوضا اسمنتيا مخصصا لـ”التصبين” ونغطس رأسنا فيه، ثم نحبس أنفاسنا…نصطف ثلاث أو أربع أفراد، ونقيم تحدي قطع الأنفاس، وتحت الماء نفتح أعيننا ونتخيل الشاطئ الذي كنا نسبح فيه قبل الاعتقال، في تلك اللحظة “ملي كتخشي راسك في الما، من تما كتخرج من السجن وكتمشي البحر”،ونكون كما لو “مشينا تبحرنا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى