مجتمع

تفنوت: كلام في رحيل ابن حينا القديم../….الرفيق العذب  عبدالرحيم الخاذلي….2/2

الراحل عبدالرحيم الخالدي

كلام في رحيل ابن حينا القديم../….الرفيق العذب عبدالرحيم الخاذلي…./ ماأكبر الإنسان…ما أعظم الأحلام…/…

 

في هذا المسار الشخصي الملحاح لتلميذ وطالب يعشق “الكلام ” (بالمعنى الارسطي) في شؤون البلاد، كسب عبدالرحيم شبكة واسعة من المعارف والصداقات المدرسية/الجامعية، وكذا السياسة النقابية الحركية…ففي مسالك حي “بين المدن” الذي حط رحاله في أحضانه ،بعد انتقال العائلة من الحي الحيوي “درب غلف” ، كنت تجده في جل الأماكن، والمنازل،مع أقرانه، ومع الصغار…بل وقدكنا نجده مع اشبال متوسطي العمر يدير مقابلة لهم في كرة القدم…كان صديق الإخوة والأخوات والأمهات…وصاحب الآباء دون ان يستثني منهم أحدا..

وحين ارتقى سلم الدراسة، وأخذته رياح “الفلسفة” إلى عاصمة السلطة والإدارة، تملكه المارد الآثيني وأحكم الوثاق على جوهره مثلما فعل مع عاشقين مثله، ينصتون للزمان ويقيسون المكان بنبضاته…وكأنهم يرددون تلك الحكمة الفريدة لفيلسوف اليونان الكبير “هيراقليطس “…الحكمة التي غيرت مجرى دماغ ماركس وهو يتمزق عقلا ووجدانا، لكي يدرك قانون التغير في التاريخ البشري الكبير…إنها الحكمة التي تسخر ديالكتيكيا من الإنسان الذي لايستوعب بأنه إذا استحم في النهر طيلة النهار، فإنه “لن يستطيع أن يستحم فيه مرتين..”…

في رحاب كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط سار رفيقنا بفرح يتابع دروسه الفلسفية بمختلف موادها ناسجا لنفسه موقعا محترما مع زملائه ورفاقه، ومع أساتذته الباسقين في علياء وسمو محبة الحكمة.. كانت شعبة الفلسفة آنذاك قائدة لقطار الفكر النقدي اليساري، المصارع بشراسة لجبروت الدولة المخزنية الحديدية ولاستبدادها الممتد،ولحركات الارتداد داخل نخب البلاد والمجتمع…ومن عرين هذه الشعبة المشاكسة كانت كل المعارضات الراديكالية والمعتدلة تنهل، عبر اطرها الشبيبية وعبر اساتذتها المرموقين دوليا وجهويا، من معين هذا النبع الفياض..ولهذا كان حظ هذه الشعبة من خيرات القمع الملكي وفيرا…فكان القادم اليها، وقتها،لا ينتظره مستقبل سعيد وهنئ…

مع ذلك شكل هذا الوضع بالنسبة لعبدالرحيم الأحمر، وجزء مهم من جيله، حجة مغرية وقادرة على إقناع النفس للالتحاق بهذه الارض المحاربة المزعجة للتخلف والخمول والكسل الثقافي والروحي، وللتأخر الإقتصادي والاجتماعي..أرض “ديوجين” الذي كان يحمل فانوسه بالنهار وهو يعبر أزقة اليونان، كي ينبه أهلها بأنهم يعيشون الظلام في حلكة نهارهم والشمس تحرق الأبصار…

عند بوابة كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، كان يقول االخاذلي لأصدقائه المقربين ،دوما،لقد “عقدت العزم أنا وصاحبي على تصفية الحساب مع ماضينا الإيديولوجي..” ،مستعيرا وبدعابة متفلسفة، من ماركس هذه الجملة الرائعة التي صدرا بها، هو ورفيقه انجلز، مؤلفهما الفلسفي العتيد في نقد الحالة الفكرية الألمانية بعد الثورثين الصناعية في إنجلترا، والسياسية في فرنسا…أي كتاب “الايديولوجية الألمانية”…

في المقابل عشق ماركس العالم والإنسان فرجع إليه آلاف المرات لا كما يرجع المريد لشيخه بل ليستحضر أثره دون نزعة لاهوتية…

وفعلا هذا ماحدث لرفيقي الذي جرحني غيابه في أعمق شرايين المحبة التي أكنها له….لقد انحاز، وبحب معرفي عليائي لامتعال للثقافة المضنية المرهقة لا الخاملة المتعبة، وللفكر الوقاد…على الرغم من أن الذي يعرفه جيدا يدرك أن انحيازه هذا، لم يحوله إلى مجرد رجل دعوي يركب العبارة الجوفاء الملساء،دون إعمال ملكة العقل المجتهد…

لقد أحب سقراط، وسافر في محاوراته، ليتعلم منه ملكة السؤال المجرد من الجهل…وافتتن بهيراقلطس وبعباراته الخالدة التي أحياها ألمان القرنين التاسع عشر والعشرين حول سر الوجود وعنفه وموسيقاه..، لكن نفسه الحذرة قد أخذته بعيدا ليحط الرحال بالقرب من، ديكارت، وهيغل، وكانط، رغم تمجيده لعظمتهم الفلسفية…وفي المقابل عشق ماركس العالم والإنسان، فرجع إليه آلاف المرات ،لا كما يرجع المريد لشيخه، بل ليستحضر أثره دون نزعة لاهوتية…

كما انجذب في وقت لاحق من الأوقات إلى قراءة أعلام الفكر السوسيولوجي الإنجليزي وهو يهيئ بحث تخرجه حول دور” ظاهرة الحلقة في التغير التغير الثقافي والاجتماعي ” في مغرب الحماية، ومغرب المابعد،…وحتى لاتهرب من بين يديه “خيوط التحليل” التجأ رفيقنا عبدالرحيم إلى غرامشي” اللاعب” الايطالي الكبير، وبالضبط إلى كتاباته الأكثر تاثيرا وإثارة للجدل داخل المدرسة العالمية للماركسية، أي كتاباته حول الثقافة والهيمنة والسيطرة المبثوثة في ” دفاتر السجن “، وفي ” قضايا المادية التاريخية” التي انكبت على درس الثقافة والمثقفين ودورهم في الصراع الطبقي، الوطني والكوني…الأمر الذي جعله يكتشف عمق هذا اللاعب الإيطالي الجنوبي كماركسي آخر لا يشبه باقي الماركسيين سوفيات أو اوروبيين… هي الثقافة من كانت همه الرئيس وهو يسبح في مسابح السياسة الراديكالية ويتعلم فن إدارة التناقضات…هذا ما لن يخالفني فيه الرأي أحد من الأصدقاء والرفاق الذين عايشوه وعاشروا حمده ولطفه، وبسمته وتشدده…

عشقه للغناء يؤكد هذا الذي أقوله هنا..فكم غنى لنا وغنينا معه برفقة الراحل العظيم رفيقنا نورالدين الخمالي تراثيل السيد درويش الذي كان يبجله كثوري عظيم في مجال صناعة الذوق الجماهيري الراقي و آهات وتأوهات الأبي الشيخ إمام وصاحبه فؤاد نجم اللاعن والمستهزئ بغباء أنظمة الاستبداد العربي

أظن أن هذا هو السر في أن الخاذلي بقي يقيم لأدوات التعبير الثقافي الإجتماعي كل آيات التكبير والتعظيم..سواء جاء هذا التعبير شعرا أو مسرحا أو موسيقى أو رقصا أو سينما أو تشكيلا أو أدبا في الطبخ والملبس و هندسات الفضاء المشترك…مدركا من ذلك كله أن الإنسان بالثقافة يسمو على حالته “الحيوانية” ،فيكف عن أن يكون حيوانا سياسيا فقط…

عشقه للغناء يؤكد هذا الذي أقوله هنا..فكم غنى لنا وغنينا معه، برفقة الراحل العظيم رفيقنا نورالدين الخمالي، تراثيل السيد درويش الذي كان يبجله كثوري عظيم في مجال صناعة الذوق الجماهيري الراقي، و آهات وتأوهات الأبي الشيخ إمام وصاحبه فؤاد نجم، اللاعن، والمستهزئ ،بغباء أنظمة الاستبداد العربي فؤاد…وكم سجلنا معه بالكاسيت القديم متابعاته التي لا تمل لأشعار الشاعر الأسطوري ” محمود درويش” ، وهو يحفظه عن ظهر قلب، ويعاود قراءته والدمع ينهمر من عينيه بعد حصار بيروت وانقلابات الحرب الأهلية اللبنانية التي جرى فيها الدم الفلسطيني واللبناني في كل أزقة بيروت الدمار(1982) …قصائد أحمد العربي، ومديح الظل العالي،…التي تركت لنا في قلبه تلك الصرخة الكبرى تنديدا بخيانة الاستبداد العربي وتواطئه ضد إرادة شعب أعزل، يريد إقامة دولته الشرعية على أرض “كانت تسمى فلسطين..صارت تسمى فلسطين..”.

في إحدى الجلسات الحميمة التي كان حي بين المدن يجمعنا فيها، بعيدا عن أنظار العسس والمخبرين، وبرفقة رفاق من هذا الدرب المناضل المحتفي بأبنائه المشاكسين، بنصغير عبداللطيف رفيق الصدق الدائم، وبلالي محمد وأخيه الرفيق اليزيد أبناء الخالة الأم، وعبدالرحيم أديب القلب الكبير، وعبدالحق تفنوت معلمنا الهادئ الحكيم، والاحمق عبدالله بارو، وبرفقة رفاق لنا اعزاء كاحمد الملياني، وجواد الطاهري صاحب الابتسامة والجود، وزكرياء رشد الانساني العميق، ونورالدين الخمالي المسيح الحلو…، ،،في واحدة من هاته الليلات العابقات بالحلم البسيط وبالصداقة العفوية النقية، أذكر أنه أصر إلي بحبه ” المتطرف” لقصيدة المديح العالي، وبالضبط حين يشمخ محمود درويش في تواخير أبياتها بالقول الجبار الصاخب : “وحدنا، وآلله فينا وحدنا /الله فينا قد تجلى…!!/…كم كنت وحدك ياابن أمي/ ياابن أكثر من أب/كم كنت وحدك…/…سقط السقوط، وأنت تعلو/ فكرة ويدا وشاما/ …واسحب ظلالك من بلاط الحاكم العربي/حتى لايعلقها وساما/واكسر ظلالك كلها كيلا يمدوها بساطا أو ظلاما/كسروك، كم كسروك كي يقفوا على ساقيك عرشا/…ياسيد الجمرة/ياسيد الشعلة/مااوسع الثورة/ماأضيق الرحلة/ماأكبر الفكرة/ماأصغر الدولة…../

غاب الولد اللذيذ بحكاياته الباسمة وسردياته المنغرزة في تراث احيائنا القديمة، ،لكن،نحن الذين نفهم أكثر من غيرنا معنى أن تفقد رفيقا مثله في هذا الوقت البخيل، ستبقى في ذاكرتنا كل بوحه المتعدد وكل حركاته المسكونة بانسانية لا تأتي إلا من اقاصي إنسانية أقصى اليسار…فرحمة عليك ياصديق الفكرة قبل الدولة…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى