رأي/ كرونيك

السودان: الثورة والسلطة

د.الشفيع خضر سعيد كاتب سوداني

المسرح السياسي في سودان الثورة، يعج ويضج بالكثير من المشاهد، بعضها يُنادي الفرح إلى دواخلك ويدفعك للإستمتاع بالدهشة، وبعضها قد يُزعجك ويزيد من حدة توترك، بينما البعض الآخر قد يُحزنك إن لم يصبك بالإحباط. لكن، في إعتقادي، هكذا حال الثورات على مر التاريخ وفي كل البقاع. جذوة الثورة المتقدة وتجلياتها في الوعي الثوري وصمود إعتصامات الثوار، وإستعدادهم لإشعال الشوارع مواكبا وهتافا وحماية للثورة بالروح والدم، وفي الإبداع والسلوكيات الجميلة التي نثرها شباب الثورة في المجتمع، كل هذه التجليات وغيرها، من مُدهشات ومفرحات النفس والدواخل. ربما تجد تفسيرا، أو تبريرا، في تأخر تشكيل هياكل سلطة الثورة لأكثر من ستة أسابيع، لأسباب تبدو منطقية عند البعض وبحسب مراميهم وأهدافهم، بينما لا أساس لها من المنطق، بل وتثير الريبة والشكوك، عند البعض الآخر. لكن، مهما كانت هذه الأسباب، ومهما كان التفسير أو التبرير، فإن هذا التأخير يسبب إزعاجا شديدا، ويضاعف من حدة التوتر والقلق الملازمين للثورة منذ بدايات إنطلاقها.

أما المحزن، ولدرجة الإحباط أحيانا، فهي حالة التراشق والخلاف بين بعض مكونات قوى الثورة والتي وصلت حد التشكيك والتخوين، لم يكبحها أو يمنعها الوضع المعقد لمسار الثورة والذي يتطلب تكاتف وتآلف وتوحد الجميع أكثر من أي وقت آخر، علما بأن الخائن الحقيقي، في نظري، هو من لا يأبه لهذا الوضع المعقد لمسار الثورة، ولا للمنعطف الخطير الذي تمر به البلاد، وأنه بهذا المسلك يفتح أوسع الأبواب لتلج الثورة المضادة. أحد شباب الثورة، حدثني بحزن وإمتعاض قائلا «ألا يكفي هؤلاء الناس أنهم ظلوا في مكايدات ومطاعنات لأكثر من ستين عاما؟ أما كان في مقدورهم كبت خلافاتهم هذه حتى نعبر بالثورة هذه المرحلة الدقيقة، وبعدها فليفعلوا ما يشاؤون؟».

وفي الحقيقة، وللأسف، ظلت النخب السودانية، ولأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية وجهوية…، تتخاصم وتتصارع حقبا طويلة. لكن، آن الآن أوان مراجعة قناعاتها، وعليها أن تقتنع أن الوطن كله أصبح في مهب الريح، وان خطرا داهما يتهددها جميعا، وان التفكير السليم يقول بان ما يجمعها من مصالح، في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقها، وأنه آن الأوان لكيما تلتقي بجدية واخلاص لصياغة واقع جديد في السودان، فتحت أبوابه ثورتنا المجيدة، واقع يحقق الحرية والديمقراطية والسلام، ويُرسي دعائم المشروع التنموي الذي يحقق العدالة الإجتماعية، إنصافا للجماهير السودانية التي ظلت صابرة لعقود من الزمن لا تحصد سوى الريح، رغم أنها أبدا لم تفقد الأمل.

أعتقد أن المسألة الجوهرية والعاجلة، هي سرعة تحرك قوى الثورة لإبرام إتفاق يمكنها من تشكيل هياكل السلطة. إذ أن وجودها في السلطة يمكن أن يسرّع من وتيرة إجتثاث النظام البائد والسير بالثورة إلى الأمام، في حين تواجدها بعيدا عن السلطة يمكّن جماعات النظام البائد، والتي لا تزال في مواقع مفصلية في السلطة، من إستجماع أنفاسها وشن الهجمات المضادة. وبصراحة، ما دام الطرفان، قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الإنتقالي، قد إتفقا على صلاحيات مجلس السيادة وتشكيل كل من مجلس الوزراء والمجلس التشريعي، وما دام المجلس العسكري الإنتقالي ظل يؤكد على عدم التراجع عن ما تم الإتفاق عليه بين الطرفين، بصراحة أرى أن تُسرع قوى الحرية والتغيير لإستكمال الإتفاق مع المجلس العسكري الانتقالي حول ما تبقى، تركيبة مجلس السيادة، حتى ولو جاء هذا الإتفاق أقل مما كانت تطرحه قوى الحرية والتغيير في بداية التفاوض. ومع ذلك، لا أعتقد أن نسب المشاركة في مجلس السيادة، أو رئاسته، هي المشكلة، ما دام صلاحيات المجلس متفقا عليها!.

ماذا لو تبين لنا فعلا أن المجلس العسكري الانتقالي غير راغب في إبرام أي اتفاق مع قوى الحرية والتغيير؟ عندها، أعتقد أن جذوة الثورة المتقدة، وقوى الثورة في الشارع، ستهزم هذ التوجه شر هزيمة، مهما سالت من دماء، ومهما قدمت من الشهداء

المشكلة، في اعتقادي، وبحسب ما رشح من معلومات، تكمن في القلق الذي يعتري المجلس العسكري الإنتقالي نتيجة عدد من الإعتبارات، منها: إعتقاده بضرورة أن يكون له دور أساسي في التفاوض مع الحركات المسلحة، ومناقشة الترتيبات الأمنية والعسكرية، وإستحقاقاتها بعد إبرام الإتفاقات. وأرى أن هذا الإعتقاد مشروع وليس هناك ما يمنع الإستجابة له. أيضا، من الواضح أن المجلس العسكري تتملكه الشكوك حول كيفية تعامل الحكومة الانتقالية مع مسألة تواجدنا العسكري في حرب اليمن.
وهذه القضية، مثلها مثل القضايا الكبرى الأخرى، أعتقد لا يمكن أن تبت فيها إلا الحكومة المنتخبة والمفوضة من قبل الشعب. كذلك، تنتاب المجلس المخاوف من توجيه إتهامات لقادة الجيش حول الانتهاكات التي تمت في ميادين الحرب الأهلية، وذلك على نحو الوعيد والتهديدات المنتشرة في الوسائط الإجتماعية.

وفي نظري، قضية الإنتهاكات إبان الحرب، من أي طرف كان، ستحل وتعالج ضمن بنود اتفاقيات السلام وما سيترتب عليها من إتفاقات الصلح وجبر الضرر والعدالة الانتقالية. بشكل عام، أرى بضرورة تفهم هذه الإعتبارات، وأخذها بعين الإعتبار عند التفاوض مع المجلس العسكري الإنتقالي.

قطعا، لسنا من المتوهمين بأن أي اتفاق يبرم بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي سيعني إنتفاء الصراع، أو أن العلاقات بين الأطراف المعنية ستصبح سمنا على عسل.

فالصراع سيستمر، والتجاذب الحاد حول هذه القضية أو تلك لن يتوقف، ولكني أرى من الأفضل لقوى الثورة أن تخوض هذا الصراع وهي في موقع السلطة، حيث يمكنها، إن أحسنت التدبير، إستخدام آليات السلطة لتحويل ميزان القوة لصالحها.
ومن خلال آلية السلطة، تستطيع قوى الثورة توجيه بوصلة صراعها وحراكها صوب القضية الجوهرية والأولى والرئيسية، والمتمثلة في تصفية دولة نظام تحالف الفساد والاستبداد، وإقتلاعها من جذورها.

أخيرا، ماذا لو تبين لنا فعلا أن المجلس العسكري الانتقالي غير راغب في إبرام أي اتفاق مع قوى الحرية والتغيير؟ عندها، أعتقد أن جذوة الثورة المتقدة، وقوى الثورة في الشارع، ستهزم هذ التوجه شر هزيمة، مهما سالت من دماء، ومهما قدمت من الشهداء.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى