ثقافة وفنونرأي/ كرونيك

في كل غشت يحتفل به (جوجل)… ابن سينا وأفكار كبيرة رغم التكفير والإقصاء!


أحمد الديباوي
باحث في الفكر الإسلامي

في غشت من كلّ عام، يحتفل محرِّك البحث العالمي (جوجل) بالفيلسوف الطبيب، أبي علي الحسين بن عبد الله، الشهير بالشيخ الرئيس ابن سينا، الذي تحلّ في هذا الشهر ذكرى ميلاده الـ1039، إذْ وُلِد عام 370هـ/ 980م في قرية أفشنة، بالقرب من بخارى (أوزبكستان حالياً)، وتوفّي في همدان (إيران حالياً) عام 427هـ/ 1037م، وقبره معروف بها.

لا يأتي هذا الاحتفاء بهذا الفيلسوف المسلم، المعروف في الغرب باسمه اللاتيني “Avicenna”، من فراغ؛ خصوصاً مع وجود آلاف الفلاسفة والأطباء والعلماء ذوي التخصصات المختلِفة حول العالم، لكنّ ابن سينا لم يكن صاحب اختصاص واحد؛ بل كان موسوعياً، فشهرته ونبوغه في الطبّ والرياضيات والكيمياء والمنطق و الموسيقى، لا تقل بحال عن شهرته في الفلسفة؛ لذلك لا غرو في أن تتصدّر صورة متخيَّلة له القاعة الرئيسة بكلية الطبّ في باريس، ما يعني أنه كان الأكثر تأثيراً في مجال الطبّ، ولاسيما أنّ كتابه العظيم “القانون في الطبّ” كان  يمثّل النص الطبي المعتَمد في العالم الإسلامي وأوروبا، لأكثر من ستة قرون، فانتشر في أوروبا بشكل واسع، واعتمده الأوربيون بعد ترجمات متعددة له ليكون معياراً لصناعة الطبّ لديهم، ولا أدلّ على ذلك من أنّه، في شهر (مارس) الماضي؛ اكتُشِفت ترجمة أيرلندية، تُعدّ الأولى، لهذا الكتاب، ما يؤكّد أهميته كمرجع طبي تعليمي لم تقلّ شهرته في أوروبا عن شهرة الكتاب المقدَّس.

سُجن في قلعة (فردقان/ فرجان) لمدة أربعة أشهر، أنجز فيها كتابه “القانون”، وحرّر رسالته “حي بن يقظان”، وهي غير رسالة ابن طفيل التي تحمل الاسم نفسه

مؤلَّفات ابن سينا وفلسفته

وصلنا من مؤلَّفات ابن سينا 240 كتاباً، لكن ما يزال كثير منها مخطوطاً حتى الآن في مكتبة إسطونبل  بتركيا، أما العدد الذي أورده الأب جورج شحاتة قنواتي في اللائحة التي جمعها لمؤلفاته، والذي يبلغ 276 مصنفاً، فقد ضمّ تلك النصوص المشكوك في نسبتها إلى الشيخ الرئيس، وكذا بعض التصنيفات المنحولة عليه، وفي هذا إشارة إلى اشتهاره كعالم موسوعي يقبل بنشاط على التأليف والدراسة، رغم أنّ حياته القصيرة نسبياً (57 عاماً) حفلت بممارسة السياسة، والاحتكاك بالأمراء ورجالات الدولة احتكاكاً لا يخلو من تبادل المصالح والاضطراب في الوقت نفسه، حتى أنّه سُجن في قلعة (فردقان/ فرجان) لمدة أربعة أشهر، أنجز فيها كتابه “القانون”، وحرّر رسالته “حي بن يقظان”، وهي غير رسالة ابن طفيل التي تحمل الاسم نفسه، وبعد خروجه يلجأ إلى علاء الدين أمير أصبهان، فيلازمه ثلاثة عشر عاماً حتى وفاته.

لم يعتمد ابن سينا في مجال الفلسفة  على مذهب واحد من مذاهب الفلسفة اليونانية، فلم يكن مشّائياً تابعاً لأرسطو فقط؛ بل بنى فلسفته متكئاً على مزيج من مذاهب اليونان الفلسفية، كالأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة، كما أفاد من المدارس الهندية والفارسية القديمة، فجاء مذهبه الفلسفي خليطاً شاملاً لأكثر من رأي، ولأكثر من مذهب، وإن لم يخلُ بالطبع من التلفيق!

لم يتقيّد ابن سينا، إذاً، بآراء أرسطو وحده، بل لم يتقيد بآراء أحد من الفلاسفة الذين سبقوه، فقد كان صاحب استقلال في الرأي، وهو أمر لم يلتفت إليه كثير من الأساتذة والباحثين؛ لذلك قال جورج طرابيشي، في معجم الفلاسفة  (ص 27)، وهو يتحدث عن ابن سينا: “لم يحظَ على الدوام بمَن يفهمه؛ فقد بذل الشهرستاني في مفتتح القرن الثاني عشر، والغزالي في مختتم القرن الحادي عشر، مثلاً، قصاراهما للحدّ من تأثير ابن سينا، بل للقضاء عليه، طاعنين في أرسطوطاليسيته، التي أُسيء فهمها، ولم يفلح دفاع نصير الدين الطوسي، ومرافعات ابن رشد وتلاميذه، في التخفيف من أثر هجمات الغزالي”!

يحمل كتابه “الشفاء”؛ الذي حرّره أثناء إقامته بأصفهان، جذوراً تقدمية خصوصاً على المستوى السوسيولوجي، ففيه “يعرض ابن سينا أفكاراً في العمل، وفي التعطُّل، وفي قضية حرية المرأة، وهي كلّها أفكار كان لا بدّ من أن يتصرم ألفاً من السنين حتى يقبل بها غالبية الناس

الأسباب الحقيقية لتكفيره والتشنيع عليه

بالتأكيد؛ كان أصله الفارسي واعتناقه المذهب الإسماعيلي، أحد أسباب نقمة كثير من الفقهاء وعلماء الكلام الأشاعرة عليه، والطعن في دينه وأخلاقه، فاتُّهم بالإلحاد والكُفر، خصوصاً من ابن تيمية والغزالي، فهما -وغيرهما من مكفّريه- لم ينتقدوا فلسفته فقط، ولم يختلفوا مع بضع مسائل منها، لكنهم كانوا ينظرون إليه على أنّه أحد أعلام الإسماعيليين الزنادقة الذين يكيدون للإسلام وأصوله، وبثّ الفلسفات الوثنية القديمة في الفكر الإسلامي، وكأنهم لم يقرؤوا قوله: “..كلّما كنتُ أتحيَّر في مسألة ولم أكن أظفر بالحدِّ الأوسط في قياسٍ تردَّدْتُ إلى الجامع، وصلَّيْتُ وابتهلتُ إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسَّر المتعسِّر”.

وبذلك كان سوء الفهم والمذهبية عاملين رئيسين في تكفيره والتشنيع عليه ورميه بالزندقة والفجور، وهي اتهامات لمّا تزل متداولة حتى الآن، خصوصاً من جانب التيارات السلفية والإسلاموية، ولعلّ هذا يفسّر سبب وجود أكثر مصنفاته مخطوطة لا منشورة، فضلاً عن اختفاء أكثرها.

جذور تقدمية في فِكره

يحمل كتابه “الشفاء”؛ الذي حرّره أثناء إقامته بأصفهان، جذوراً تقدمية خصوصاً على المستوى السوسيولوجي، ففيه “يعرض ابن سينا أفكاراً في العمل، وفي التعطُّل، وفي قضية حرية المرأة، وهي كلّها أفكار كان لا بدّ من أن يتصرم ألفاً من السنين حتى يقبل بها غالبية الناس!”، على حدّ قول جورج طرابيشي في معجمه، وقد ناقش في كتابه هذا وجوب تأمين الدولة العمل للكلّ، أو إعانتهم على الحياة، وهو ما يسمى اليوم “إعانة بطالة”، كما أنه نبّه إلى وجوب تحمل الدولة أعباء إعانة أصحاب الإعاقات الجسدية، كما تكلم في هذا الكتاب عن قضية حرية المرأة، وفلسفتي العدل والسعادة.

كما كان ابن سينا بارعاً في الموسيقى، فكان أول من علَّل كيفية حدوث الأنغام الغليظة المنخفضة والأنغام الرفيعة العالية، وأول من تحدَّث عن السُلَّم الملوَّن المكوّن من أنصاف نغماتٍ متتالية، وأول من تحدَّث عن الفواصل الموسيقية المتحدة، وللأسف، فإن كتابه “المدخل إلى صنعة الموسيقى” مفقود، ولم نعرف آراءه في الموسيقى سوى من كتابه “الشفاء”، كما تنبّه فيلسوفنا إلى أثر الموسيقى النفسي في علاج الأمراض، وكذا في التعليم.

المصدر:  المقالة نشرت ب “حفريات”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى