رأي/ كرونيكميديا و أونلاين

الصحافة الفكرية تفقد أمجد نبلائها

مالك التريكي كاتب تونسي

عندما ولد جان دانيال «كان القرن لمّا يزل شابا في العشرين». ولهذا أصبح نبأ النعي، الذي أتى قبل أيام، متوقعا منذ أن نشرت مجلة لونوفيل أوبسرفاتور في يوليوز الماضي مقالا احتفائيا بمؤسسها ومديرها بعنوان «جان دانيال يبلغ التاسعة والتسعين من العمر».

وإذا كان هذا المثقف اليهودي، الجزائري النشأة، اسما محبّبا لدى قراء اللغة الفرنسية على مدى أكثر من ستين سنة فذلك لأنه كان نسيجا وحده في سلاسة التأليف الواعي بين الصحافة السياسية، باعتبارها بصيرة تاريخية، وبين الصحافة الفكرية، باعتبارها ضميرا أخلاقيا.

كانت دائرة أصدقائه من الكتّاب تشمل أمثال ألبير كامو، وجان بول سارتر، وميشيل فوكو، وريجيس دوبري، وادغار موران، وبيار نورا وفرانسوا فوريه. وكانت ولاءاته السياسية يسارية خالصة: بيار منداس فرانس زعيم اليسار الديمقراطي إبان الجمهورية الرابعة (الذي بقي مشايعوه على وفائهم الثابت له رغم أنه لم يمارس الحكم إلا ثمانية أشهر)، ورئيس الوزراء السابق منظّر الصيغة الفرنسية من الديمقراطية الاشتراكية ميشال روكار، ورئيس المفوضية الأوروبية السابق جاك ديلور، وخبير القانون وزير العدل السابق روبير بادنتر.

أما فرانسوا ميتران فلم تكن علاقته به سياسية فحسب وإنما كان يجمعهما عشق الأدب، حيث أن ميتران نشر عام 1977 عرضا نقديا عن سيرة دانيال الذاتية، «الملاذ والمنبع»، قال فيه إن الصحافيين الذين يغامرون بخوض ساحة الوغى الأدبية غالبا ما ينهزمون في أول معركة، ولكن دانيال أثبت من الطلقة الأولى أنه جدير بالأدب جدارته بالصحافة.

كما يذكر دانيال أن مناقشاته مع ميتران كثيرا ما كانت تدور حول الروائيين غوستاف فلوبير وإميل زولا، وأن ميتران كان مولعا بزولا إلى حد أنه لم يكن يطيق مجرد فكرة أن يكون هنالك في المجلس من هو أعرف به منه. ولأن دانيال كان مقربا من ابن بلده كامو، الذي كان له الفضل في رعايته وفتح طريق النشر أمامه، فإن ميتران كان يقول له مازجا جدا بهزل «إن مالروكم هذا (يقصد كاتبكم الجزائري هذا الذي تتصورون أنه لا يقل عبقرية عن أندري مالرو) لن يلبث أن يطويه النسيان».

إلا أن التاريخ كذّب نبوءة ميتران. إذ إن أرقام المبيعات تشهد أن ليس هنالك اليوم كاتب فرنسي مطلوب ومحبوب في العالم بأسره أكثر من كامو!

كان جان دانيال آخر العنقود من الصفوة الماجدة من نبلاء صحافة القرن العشرين. لهذا بوّأه الكاتب القدير جان لاكوتير مكانة علياء في كتابه «المتحرّقون إلى التاريخ شوقا: عظماء الصحافيين الفرنسيين». وممّا يميزه أنه يكاد يكون الصحافي الفرنسي الوحيد المعروف لدى المثقفين الأنغلوساكسون

كان جان دانيال آخر العنقود من الصفوة الماجدة من نبلاء صحافة القرن العشرين. لهذا بوّأه الكاتب القدير جان لاكوتير مكانة علياء في كتابه «المتحرّقون إلى التاريخ شوقا: عظماء الصحافيين الفرنسيين». وممّا يميزه أنه يكاد يكون الصحافي الفرنسي الوحيد المعروف لدى المثقفين الأنغلوساكسون. فقد ترجمت إلى الانكليزية كثير من كتبه، بما فيها «الحبس اليهودي» على ما فيه من صراحة جارحة لبني صهيون. كما حظي باهتمام متكرر في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» (التي ذكر مرة أنه مواظب على قراءتها) وفي «لندن ريفيو أوف بوكس».

وكانت شهرته قد طارت في أمريكا عام 1963، بعد أن كلفته أربع مجلات أوروبية والمجلة اليسارية الأمريكية «نيو ريبابليك» بمحاورة جون كندي ثم فيديل كاسترو. كان ذلك في أعقاب أخطر أزمة تندلع في تاريخ الحرب الباردة، أي أزمة الصواريخ التي ركزها الاتحاد السوفييتي في كوبا وكادت تسبب حربا نووية مع الولايات المتحدة. لما علم كندي أن دانيال قاصد إلى هافانا، حمّله رسالة شخصية إلى كاسترو وطلب منه أن يعود إلى واشنطن لإطلاعه على انطباعاته عن رحلته الكوبية. وبينما كان دانيال يتناول الغداء مع كاسترو يوم 22 نوفمبر، إذا بجرس التلفون يرنّ. كانت المكالمة خاطفة. بعدها التفت كاسترو وقال: خبر سيئ. لقد أطلقوا النار على كندي.

حقق دانيال، بتلك المحاورات والتقارير، سبقا صحافيا كوكبيا تناقلته كبريات الصحف في أمريكا وشتى بلاد العالم. وبعد عام بالضبط أطلق ابن مدينة «البليدة» الجزائرية، بمباركة منداس وسارتر، مجلة لونوفيل أوبسرفاتور التي صارت منذئذ منارة اليسار الديمقراطي ومنبر المساءلات الفكرية والأدبية الكبرى. مجلة أسست على «رؤيا ايديولوجية وثقافية للحدث».

أما النموذج الذي استلهمته فهو الأسبوعية الفكرية «فندردي» التي ناصرت مشروع «الجبهة الشعبية» اليسارية، منتصف الثلاثينيات، وأضاءت ربيع عمر دانيال بفضل من جمعتهم على صفحاتها من عمالقة الأدب: أندري بروتون، وجان غيهنو، وأندري مالرو، ولوي آراغون، وأندري جيد…

وبعد، فقد كان لجان دانيال مع ثورة التحرير الجزائرية ومع معركة بنزرت، آخر معارك التحرير التونسية ضد الاحتلال الفرنسي، قصة مثيرة جديرة بأن تروى.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى