رأي/ كرونيكصحةكورونا

لعريني الباحث في علم الاجتماع..في الحاجة إلى منظور جديد للرعاية الصحية في المغرب2/2

من المسلمات العلمية الأساس التي تنهض عليها سوسيولوجيا الصحة والمرض وتستمد منها مشروعيتا الابستيمولوجية، هي أن الصحة لم تعد مجرد ظاهرة بيو-طبية صرفة، بل غدت ظاهرة سوسيوثقافية مركبة.

كما لم تعد مجرد حالة جسدية وشأن ذاتي للفرد ورأسمال شخصي يخصه لوحده، بل أضحت حالة مجتمعية، وشأن جماعي للأسرة والدولة، ورأسمال عمومي، وثروة وطنية ودولية معولمة. وقد تعزز هذا الانتقال بالصحة من مستواها الفردي المعزول إلى مستواها الجماعي المتشابك مع ميلاد الدولة الحديثة، وتقوى أكثر مع النيوليبرالية الجديدة المعولمة التي سخرت الأجساد والأرواح لزيادة الإنتاج وتعظيم الثروة.

صلاح الدين لعريني أستاد باحث في علم الاجتماع مختبر السوسيولوجيا والسيكولوجيا

إن سيادة مثل هكذا التمثلات الاجتماعية والدينية والسياسية يجعل من الحاجة إلى منظور جديد للرعاية الصحية، ضرورة لا مناص منها في المجتمع المغربي لضمان الأمن الصحي.

ولن يتأتى ذلك دون إيلاء الحق في الحياة وفي الصحة المكانة التي تليق بهما بين باقي الحقوق. فقبل التركيز على العلاج والاهتمام بالمرض ينبغي الاهتمام بالصحة والوقاية، وقبل الاهتمام بالمستشفى الجامعي والجهوي والإقليمي، ينبغي الاهتمام بالمجتمع المحلي وبالمركز الصحي الأولي، وقبل التدخل يجب الاهتمام بالمراقبة والتتبع، وقبل العلاج والاهتمام بالأمراض الحادة وجب الاهتمام بالأمراض المزمنة التي يواجه بسببها المرضى صعوبات كبيرة في تدبيرها والتعايش معها، كما يجب الاهتمام بالمريض كشخص له كرامة أكثر من الاهتمام بالمرض في ذاته، والاهتمام بالمقاربة الوقائية أكثر من المقاربة العلاجية التدخلية، لأن إشكالية الوقاية، في جوهرها، هي إشكالية سلوكية ومعرفية، إنها مسألة معارف وتمثلات وخبرات وتجارب وممارسات. ولفهم منطق السلوك الفردي والجنسي والغذائي والمهني والاجتماعي والعلاجي…إلخ.

لابد من العودة إلى العلوم الاجتماعية التي شيدت نماذج نظرية ومنهجية عديدة تسمح بتفكيك الميكانيزمات الخفية المتحكمة في سلوكات الأفراد وتمثلاتهم ومواقفهم بخصوص الوقاية والصحة ومصدرية المرض وطرق العلاج والعلاقة مع المرض والطبيب والمؤسسة الاستشفائية

ولن يتأتى ذلك -في نظرنا- دون العودة إلى براديغم التمثلات الاجتماعية للجسد والصحة والمرض. إن صحة الفرد عبارة عن سيرورة دينامية تتأرجح بشكل دائم بين حالة السواء النسبي والاعتلال النسبي أيضا، وتتحدد هاته السيرورة بتداخل مجموعة من المحددات الذاتية المرتبطة بشعور الفرد وإدراكه وتقييمه لحالته الصحية، مع أخرى موضوعية ترتبط بالعوامل البيولوجية والبيئية والاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية المحيطة.

فإذا كانت الصحة كما عرفتها منظمة الصحة العالمية هي حالة اكتمال السلامة بدنيا وعقليا واجتماعيا لا مجرد انعدام المرض أو العجز، وإذا كانت أيضا، حقا أساسيا من حقوق الإنسان، وإذا كان بلوغ أرقى مستوى صحي، يعد من الأهداف الاجتماعية والتحديات الراهنة للصحة العمومية على الصعيد العالمي، فإن بلوغ ذلك، لا يمكنه أن يتأتى دون الوعي بشمولية الظاهرة الصحية وتعقديها.

وعليه، فالنهوض بصحة الأفراد ومواجهة التحديات التي باتت تطرحها الصحة العمومية على المجتمعات المعاصرة، يقتضي مقاربة شمولية تستند على جميع الجوانب المرتبطة بالصحة وعلى مبدأ العدالة الاجتماعية والاقتصادية ومبادئ حقوق الإنسان.

فبدون اجتثاث الفقر والهشاشة والعنف والحروب واللامساواة والتمييز والوصم بوصفها أسبابا جذرية لاعتلال الصحة وارتفاع نسب الوفيات في صفوف الفئات الهشة، لا يمكن تحقيق إنصاف صحي يضمن حقوق جميع الفئات بشكل متكافئ ويصون حقها في الحياة والكرامة والرعاية، كما عبر عن ذلك إعلان ألما آتا للرعاية الأولية سنة 1978، وإعلان “حركة صحة الشعوب” في البنغلاديش سنة 2000، وإعلان مومباي في الهند سنة 2004، وإعلان الشعوب حول فيروس فقدان المناعة المكتسب والسيدا في بانكوك سنة 2004.

ويعد نموذج مسببات الصحة « Salutogène »، لعالم الاجتماع الأمريكي أرون أنتونوفسكي Aron Antonovsky، مثالا يعلمنا بأن الاعتراف هو المصدر الأساسي للصحة. فعوض الاهتمام بالمرض وعلاجه والوقاية منه، يركز هذا النموذج النظري على الاهتمام بالصحة، بصرف النظر عن الوضعية الصحية للشخص (الصحة الجيدة – الصحة السيئة).

ويفتح هذا التوجه الطريق نحو بناء فهم موسع للرفاهية، مبتعدا بذلك عن النماذج الكلاسيكية المُهتمة بالبحث في مصدرية المرض “L’étiologie ” أو الخطر. لهذا، فلاعتراف بالحق في الصحة للفئات المتضررة من اللاعدالة الاجتماعية والصحية، يساعد على تجويد نمط العيش، ويعزز الثقافة الوقائية بالمجتمع، ويرسخ مبدأ الاهتمام الذاتي للأفراد بتحسين شروط صحتهم، وذلك عبر تعزيز استقلاليتهم عن المنظومة الصحية وعن التبعية للطبيب والمؤسسات الصحية، كما يساهم في معالجة قضايا الصحة معالجة شمولية، تبدأ بمعالجة إشكالية اللامساواة الاجتماعية والمجالية والاقتصادية.

اقرأ أيضا..

لعريني الباحث في علم الاجتماع..في الحاجة إلى منظور جديد للرعاية الصحية في المغرب2/1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى