فكر .. تنوير

صاحب رواية “المغاربة” عبدالكريم جويطي يكتب: عشر سنوات من مسيرة ولد زروال…

بعث لنا الروائي عبدالكريم جويطي، الذي قام سنة 2010 بترجمة رواية البلجيكية إيميلي نوثومب « نظافة القاتل » إلى اللغة العربية، والذي سبق أن حاز على العديد من الجوائز، من بينها جائزة المغرب للكتاب، وجائزة اتحاد كتاب المغرب.
من أهم رواياته رواية المغاربة التي حققت نسبة استثنائية في التداول والانتشار والشهرة، ووصلت إلى القائمة الطويلة ل جائزة البوكر للرواية العربية، وحصلت على جائزة المغرب للكتاب.
والمقال التالي، هو جواب عن سؤال أهم التحولات التي شهدها المغرب في العشر سنوات الأخيرة.

حين أسترجع العشر سنوات الماضية، وهي في تاريخ شعب فاصلة صغيرة في كتاب كبير، لا أتوقف إلا عند حدثين عابرين مرا في حياتنا بخفة مرحة كما تمر جوقة الأخبار، يدفن بعضها بعضا، في يومي لم نعد نعي أنه تصرم من حياتنا إلا حين نغمض أعيننا وننام.

أخرج، في الخبر الأول، شاب تبدو عليه كل أعراض الاضطراب العقلي، قبيلة كاملة مسرنمة ونشرها في سفح جبل وتحت شمس فتاكة، وخطب فيها وأعينها مشدوهة وداوخلها متشوفة للكنز الذي سيستخرجه بعد الوقوف الشعائري الطويل للقبيلة بالجبل أخبرها الشاب بأن الكنز الذي سيستخرجه هو الراية الوطنية التي يلتحف بها..

استضاف في الخبر الثاني طلبة المدرسة الحسنية للمهندسين خطيبا ينشط في الجهة الشرقية، ولا يقل اضطرابا عن شاب الكنز فكثيرا ما ظهر في فيديوهات وهو في حالة هستيرية لا تناسب وقار من يعتلي منبرا فتراه يخبط بعصاه أو يلوح بها وهو يرعد ويزبد، ومن يسمعونه يكبرون في مشهد تختلط فيه المبالغة والتصنع باستشارة الغرائز البدائية وتختلط فيه الفرجوية بشعبوية بئيسة تحول بين مستمعيه وتمحيص فكرة واحدة في هذيانه. حين رأيت مشاهد الطلبة الذين سيوكل لهم تدبير حيز مهم من مستقبل المغرب ينصتون بخشوع وامتنان لدجال حزنت مثلما لم أحزن في حياتي ..

قبيلة تخرج لنا من خرافات ألف ليلة وليلة ترى بأن الحل الأسرع لكل آلامها ومعاناتها يكمن في العثور على كنز وطلبة في صرح علمي يرون بأن الأجوبة الكبرى في حياتهم لن يتلقوها من منجزات العلم والنظريات الحديثة وإنما من رجل قادم من العصور الوسطى مضطرب ومدجج بكل عتاد ثقافة الحجر والتكفير، بلد يتساوى فيه مهندس مستقبل مع رجل بادية لم ينل حقه في التنمية والتعليم.

بلد مريض بكل تأكيد بلد تتوحد أغلبية ساحقة فيه على الإنكار العصابي للواقع يصير مخيفا، بلد تصبح فيه الرقية الشرعية أنجع من الطب، وإثبات الإعجاز العلمي في القرآن أهم من العلم نفسه، بلد يخفت فيه صوت المفكر والمحلل والعالم ويعلو فيه صوت الداعية، ويصير فيه إظهار التقوى أهم من التقوى، وتكبير زبيبة الصلاة في الجبهة أهم من الصلاة، ورعاية اللحية أهم من رعاية المصلحة العامة بلد يصير فيه الدين فرجة واستعراضا بدل أن يكون تجربة روحية ومكابدة ….

ما كان،طبعا، للتفرج على الإفلاس المسترسل لمنظومة التعليم وترك أبواب البلد مشرعة للوهابية تنشر فيها بضاعتها الفاسدة أن يمرا دون أداء ثمن باهض ليس في شكل عمليات إرهاب اجرامية فقط وإنما في دفع المجتمع نحو هذه “الكثافة الدينية “الجوفاء ليكتشف بأن التدين التاريخي للمغاربة الذي صاغ المجتمع وبنينه واستوعب بداخله العرف والتقاليد وحتى بعض بقايا الوثنية وعبادة الطبيعة وظواهرها، ودفع القبائل لمحاربة المستعمر شبرا شبرا دفاعا عنه، لا يكفي ، وكل ذلك الاعتدال والتعايش الرحيم وترك الخلق للخالق ليسوا سوى انحراف ينبغي تقويمه بالعنف والإكراه إن اقتضى الأمر ذلك .

كلما استثمر مجتمع ما كل طاقاته ورهاناته في الدين ازدهرت المزايدة وتراجع الاحتكام للعقل، ومنطق المزايدة في الدين ينتهي ،دوما ،بالمزايد الأكبر الى انكار الحياة واللجوء لمغارة في الجبل .ومن يقدم نفسه على أن الاقدار انتدبته لحراسة دين مجتمع ينتهي بفضيحة العجز عن حراسة تدينه هو …

كان التفوق السياسي لأحزاب الإسلام السياسي في هذا السياق المجتمعي الذي تطبعه المحافظة والنكوص تحصيل حاصل .وكانت الانتصارات الإنتخابية “الباهرة “لحزب من هذه الأحزاب بلا جهد سياسي حقيقي ،بعد تهيئة الساحة التي أنجزها ضعف الأحزاب ومكر الأنظمة وتواطؤ القوى الكبرى وثورات ما سمي بالربيع العربي، غير أن الوصول الى “الحكم “شيء والاضطلاع بمستلزماته شيء آخر.

فسرعان ما تبين أن الدولة أكبر وأعقد من تبسيطات الدعوة وأن ممارسة السياسة بادعاء تفوق اخلاقي على الخصوم ينفع في السجال وفي جذب الأتباع وتحقيق الانتصارات الانتخابية السريعة، لكنه لا ينفع في تدبير شؤون الدولة التي لا تحتاج لوعاظ وإنما لكفاءات في مجالات سمتها التعقيد .

كما تحتاج الى جرأة وقناعات ديموقراطية راسخة وإلى مشروع وطني واضح المعالم والاهداف. هكذا وبعد عنتريات البدايات والخطب الشعبوية المقيتة يمكن القول إن الإخفاقات كانت كثيرة لعل أهمها: عدم المس بشعرة واحدة في وجه الفساد، تحميل الموظفين كلفة إصلاح ما لم تكن لهم يد في فساده، إغراق البلاد في الديون، إعادة تدوير نفس الوجوه لكون الحزب يفتقد قاعدة عريضة من الأطر، الفشل الذريع في إعطاء القدوة واحترام الالتزامات، ابتذال الخطاب السياسي شكلا ومضمونا، تعميق الفراغ السياسي ووقاحات تبرير ما لايبرر..

وهكذا، وإن كانت أحزاب الإدارة مجتمعة قد نجحت في هذه العشرية المجيدة في أن تعطينا مسيرة ولد زروال دفعة واحدة، كتكثيف للخواء والغباء وقصر ذات اليد السياسي، فإن الحزب الذي يقود الحكومة صار يعطبنا نفس المسيرة ولكن بالتقسيط المريح …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى