ثقافة وفنونكورونا

التوراني يكتب: إلى صديقي الراحل المبدع مصطفى المسناوي..أرأيت ماذا فعل كورونا بنا

مر أسبوعان على قرار فرض الحجر الصحي إثر تداعيات انتشار الفيروس الخطير كورونا، لم ألتق فيها بصاحبي السي محمد. قلت إني مقصر في حقه، خاصة وأنه يعيش وحيدا، لقد غادر كل سكان العمارة بعد تأكد أنها لم تعد تصلح للسكن، أصبحت مبنى آيلا للسقوط. لكن صديقي السي محمد رجل عنيد، لا يزال مقيما بالطابق الأول، في شقة شبه مهجورة إلا من سرير ومائدة وكرسي، مع خزانة كتب صغيرة. ما جعلني أتساءل عماذا ينتظره السي محمد؟
مرة قال لي عبارة عادية، إن جاءت على لسان فقيه سلفي أو واحد من العامة:
– اللّي بغاها الله تكون…
ثم أردف جملته التي صار يختم بها محاوراته لما تقدم به العمر:
– الله كبير.. الله كبير…

– نعم.. الله كبير وإرادته هي المسيطرة، لكن الله أمرنا أن لا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة يا السي محمد.
مرر أصابع يده اليمنى بين شعر لحيته البوذية وتبسم، كانت لديه ابتسامة جميلة، ملأ الكأس “البالون” طالبا مني أن أفرغ كأسي. قال:
– أنت أيضا سقطت في الفخ!
– عن أي فخاخ تحكي؟ أجبته وأنا أضحك ضحكة مستغرب..
رد علي:
– إنها لعبة الجشع، مالك العمارة، يا سيدي وقد توصل إلى بيعها، والمشتري يرغب في أن يدخل على عمارة من دون سكان..
مسح شاربه الكث، ودون أن يلتف إلي، ردد:
– أفهمت الآن.. أفهمت…؟

***
ظل الهاتف يرن من دون رد. ربما يكون الكاتب مستغرقا في النوم. أعرف أن ساعات نومه بالليل قليلة.
لكن بعد دقائق رنّ هاتفي، كان هو المتصل. قال معتذرا إنه لم يسمع رنين التليفون، كان بالبلكون يتفرج على فراغ الزقاق الطويل.
سألته:
– أرأيت ماذا فعل بنا كورونا؟
سمعت ضحكته وهو يرد:
– أما أنا فقد فعلت به ما يجب علي أن أفعله…
– وماذا فعلتَ به يا السي محمد؟
– كل ليلة أُسْكِره حتى يغيب عن وعيه، ينسى لماذا دق بابي، يتركني لحالي ويهرب مهزوما مقهورا…
وصلتني ضحكته مرة أخرى، وقد علت أكثر.

– وبعد…؟

– ليس هناك بعد ولا قبل. أُغلق علي الباب، وأنام. حتى إذا جاء المساء أرتدي ملابس الخروج وأنتعل القبقاب، أمشي إلى المطبخ أو إلى البلكون. أجلس أنتظره أن يطل. لما يتأخر أو لا يأتي. أشرب كأسا في صحة الغياب. وأدردش قليلا مع الغيلم.. أحكي له قصته معي، كيف جلبته من سوق المعاريف، من عند بائع ورود، كنت ذاهبا لشراء باقة ورد، وكانت سهام ستزورني، اتفقنا على أن نحتفل بالبيت بمناسبة عيد ميلادها، وبدل الورد جلبت لها “فكرون”. تذكرت أنها تحب السلاحف لما كانت صغيرة، قبل أن نتطلق أنا ووالدتها وتفرقني عنها.

كنت أعرف بقية القصة كلها. نسي السي محمد أني كنت معه في ذلك الأحد الغائم من شهر مارس قبل سنوات، لما رافقته لشراء الورد فرجع ب”فكرون”. لذلك سارعت إلى مقاطعته..
– إني أعرف كل تفاصيل القصة وبقيتها، لكن عد بنا إلى كورونا، ألا ترى يا صاحبي أنك تحاول جاهدا الانفلات من فتنة كورونا بلا طائل.
– لست أنا المسؤول…
– ومن يكون المسؤول؟
تييت.. تييييييسشت..
حدث تشويش، لم أعد أسمع جيدا، لذلك أقفلت الهاتف وأعدت الاتصال، ظل الرنين في الفراغ من دون جواب.

***
في اليوم التالي فكرت ألا أتصل بالسي محمد، قلت لأتركه على خاطره، أعرف أنه يحب الجلوس صباحا لارتشاف فنجان قهوة أو شاي “ليبتون” بالليمون في “مقهى الصحراء”، قبل أن يتحول إلى المقهى المجاور، “مقهى الفسحة” عند محطة الحافلة رقم سبعة. يراجع مكتب البريد القريب بشارع “بير أنزران”، يعود منه غالبا محملا بالصحف والمجلات وبالرسائل التي تصل إلى صندوق الرسائل الخاص به. يتركها بالبيت ثم ينزل كي لا يخلف موعده في منتصف النهار. يعتلي طابورا في الركن، واضعا ذراعه على الكونتوار الخشبي، هناك مكانه المحفوظ في زاوية حانة “ماجستيك” بشارع ابراهيم الرودني في حي المعاريف. أتساءل الآن.. مع الحجر وإغلاق المطاعم والمقاهي والحانات كيف ستكون حالته. رغم كل شيء أعرف أنه قادر على تدبير شؤونه وقهر الممنوعات.

***
في المساء وصلتني رسالة منه عبر “الوتساب”. يخبرني فيها أنه يتسلى بإعادة كتابة روايته “محاولة عيش” (1)، هو يعرف أنها من أحب ما كتبه إلى نفسي. لذلك سارعت إلى الاتصال به. كنت أرغب في أن أمنعه:
– رجاء يا السي محمد، دع عنك “محاولة عيش”.. لا تقترب منها، هي لم تعد ملكك. ألم تقل مرة في استجواب أجراه معك صحفي سوداني لفائدة مجلة خليجية، أن المبدع لما ينشر إنتاجه يصبح ذلك الإنتاج ملكا للقراء.
كنت سأنصحه، أو سأقترح عليه كتابة جزء ثان ل”محاولة عيش” بدل لخبطة أوراقها..
لكني تراجعت، فمن أنا لأحدد له ما يفعله وما ينبغي أن لا يفعله؟ سأنتظر ماذا سيطرأ بروايته، هو صاحبها، حتى لو قال مثل غيره من الكتاب أنها لم تعد ملكه، فمن يقبض حقوق تأليفها؟ طبعا ليس هم القراء، ولو كانوا مثلي من أقرب الناس إليه.

***
فتشت بين كتبي عن رواية “محاولة عيش” فلم أجدها، كانت لدي نسخة موقعة من صديقي الكاتب. لا زلت أحفظ كلمة الإهداء التي خطها بيده ، كتب في الصفحة الثالثة من الرواية، بقلم “بيك” الأزرق الجاف، تماما تحت عنوان “محاولة عيش” المكتوب بخط الرقعة: (إلى صديقي العزيز عبد الرحيم.. كل من يعيشون عليها يحاولون العيش فقط. فلا تتوقف عن المحاولة. وختم بكتابة اسمه موقعا: أخوك زفزاف).لكن أين ذهبت نسخة الرواية؟
تذكرت أني أعرتها لصديقة مع روايات أخرى لعز الدين التازي ورشيد الضعيف وإلياس خوري. لكن لا سبيل لاسترجاع كتبي بعد زواج تلك الصديقة برجل متزمت، سمعت أنه فرض عليها الحجاب. أخشى إن أنا اتصلت بها أن أسبب لها إزعاجا، إن لم أقع أنا في مشاكل.
فكرت في النزول إلى مكتبات “حي الأحباس” (2) واقتناء نسخة جديدة من مكتبة بسّام، الناشر السوري المشهور. لكني نسيت أن أفعل في غمرة الانشغال والعمل.

***
لم أعد أعرف ماذا فعل السي محمد بسيرته الأولى. ماذا غير فيها وماذا أضاف. لذلك فكرت في أن أتحرش به. أرسلت إليه رسالة “إس إم إس” مختصرة، كتبت فيها:
– أهلا.. كيف أنت.. ماذا فعل بك كورونا وماذا فعلت أنت ب”محاولة عيش”؟..
جاءني الرد سريعا:
– عذرا. لا أعرف عما تتحدث. لم تعد لي صلة بعالمكم.
هكذا وضع حدا لما كنت أسعى إليه. فهم أني أود جره إلى كلام لا يرغب في الانجرار إليه.
رضيت بالهزيمة وقررت أن أنسى.
لكنه عاد ليراسلني على الوتساب. جاءتني منه رسالة قصيرة من دون تحية أو سلام. تقول: (عد إلى قراءة روايتي “موتى بلا قبور”). (3).
اعتبرت الأمر اقتراحا ليس في محله. لا أريد أن أتذكر أو أقرأ أي شيء يحيل على موضوع الموت والموتى.
لكني وجدت نفسي منشغلا بتلك الرسالة، وعن غير قصد صرت أفكر في الموت.

مرة ونحن جالسين بشاطئ “عين الدياب”، جاءنا من يخبرنا بموت الشاعر اللبناني يوسف الخال. وقد ربطته صداقة متينة بالسي محمد، حتى وإن لم يلتقيا أبدا، ظلت علاقتهما محصورة في المراسلات البريدية. تنهد السي محمد متأثرا بالنعي، قبل أن يعود إلى طبيعته.

يومها حدثني طويلا عن الخال وعن المساعدة التي قدمها له بنشر “المرأة والوردة” (4)، أول رواية له. كان يحدثني عنه كأنهما صديقان حميمان لا افتراضيان كما يشاع اليوم في لغة التواصل الإلكتروني. ولما لمس تأثري، نهرني، أمرني أن أفعل مثله، فهو لا يخاف الموت. “نموت مرات قبل أن يجيء الواحد منا الموت”، ربما كانت هذه من الكلمات التي سمعتها منه في بداية ذلك المساء الخريفي، ونحن نحتسي البيرة وندخن ونتفرج على موج المحيط من شرفة مقهى “كاليبسو”.
ثم انتقل من الحديث عن موت يوسف الخال إلى الكلام عن موته هو في يوم قائظ من صيف 2001.

لم أدرك كيف قفزت من مكاني، حتى أثرت انتباه رواد الحانة. لقد انتبهت أني أجالس ميتا. تملكني خوف ورهبة. وتركت السي محمد وحده في “الكاليبسو”، وأنا ما بين شعور الفالت من كابوس، وشعور الخائن المتخلي عن صاحبه.
طوال الطريق ظل يتردد في أذني صوت صديقي الكاتب:

“الموت الحقيقي هو ما نعيشه يوميا. الموت لا يخيف. أنا جربت الموت صغيرا وأنا في قماط.. الموت لا يؤذي الموتى.. كما قال درويش. الموت.. الموت.. الموت…”.
عدت إلى البيت في تاكسي. ما كدت أسترجع أنفاسي حتى دق الباب. كان السي محمد ومعه امرأة. سألني أين كنت؟ فهمت السؤال أنه سخرية من الدرجة الثالثة الحارقة. فلم أرد بجواب. بقيت أنظر إلى المرأة التي جلبها معه. كانت الروسية أولغا فلاسوفا (5). انتبه السي محمد فبادر بتقديمها إلي:
– صديقتك المترجمة، تطلقت من ذلك الجحش المتزمت، كانت تبحث عنك فجئت بها إليك. هل أخطأت؟ ألم تكن تريد استرجاعها، أو على الأقل استرجاع أوراقك وكتبك منها؟
– بلى، لكن أين التقيتما؟
– في “الكاليبسو”.. لقد فاتك أن أقدمك إلى يوسف الخال. كان هناك أيضا مصطفى المعداوي ومصطفى الصباغ.. وآخرين ممن تحب كتاباتهم.
لكن.. كل هؤلاء ماتوا من زمان.

رد علي محمد زفزاف:

– وأين الغرابة في الأمر؟ هل لديك مشكلة؟ أنا أيضا مت من سنوات. وها أنا لا زلت معك، نشرب ونتكلم عن ذكرياتنا القديمة ونحلل مستقبل العالم ومآله بعد كورونا. سيقهر الإنسان هذا الفيروس، أنظر كيف قضيت أنا عليه بموتي.
ندت مني ضحكة مجنونة، قبل أن يقترح علي السي محمد أن أفتح زجاجة من نبيذ “الفيو باب”.

اتجهت إلى المطبخ لجلب الزجاجة مع كأسين، لما عدت كنت وحدي أجلس على حافة البلكون، أتفرج على مدينة مهجورة، أشبه بصحراء مقفرة، وبيدي كتاب: “صديقي زفزاف.. الغيلم والطاووس”. كان صوت مذيع قناة “فرانس 24” يصلني من الصالون، وهو يتكلم عن أرقام الضحايا الجدد من المصابين والموتى، والعالم لا يزال عاجزا عن صنع علاج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى