رأي/ كرونيكفي الواجهة

فاجعة طنجة .. المعمل الغريق

فات الشاعر العربي العراقي الكبير بدر شاكر السياب أن يبكي ضحايا معمل طنجة ويخصهم بقصيدة بعنوان “المعمل الغريق”، على وزن ديوانه “المعبد الغريق”، وقد كانوا يجلون مكان عملهم مثل نساك بوذيين، ويخلصون له الجهد والعرق كالأقنان، يخضعون لإرادة صاحبه، ولمشيئة قدرهم الدامي الذي ساقهم إلى كهف مشروعه المدلهم.

***
المعمل سري، وأقيم ليلا في السرية – النهارية العلنية..

والعاملات والعمال سريون نهاريون وليليون، معظمهم بلا أوراق، والمحظوظون منهم معلنون بأوراق…
والموت غرقا داخل القبو السري للمعمل العلني حدث سرا في يوم غائم ممطر مشؤوم.
أما الجثث فانتشلت أمام الكاميرات علانية…
أي شفافية بعد هذا تطلبون؟!

لذلك قررت السلطات أن تكون مراسم دفنهم سرا وتحت نزاهة الأضواء الكشافة بالليل

ربما كان الغرقى محظوظين، حين ربحت جثة كل غريق منهم صلاة جماعية وقبرا منفردا برقم وشاهدة.
هذا واجب السلطات حفظها الله، تجاه مواطنيها القتلى غدرا، حرقا أو غرقا أو دهسا وخنقا…
أما من يصرون على التحقيق وتحميل المسؤولية لوالي جهة طنجة – الحسيمة والمطالبة بإقالته، فهم عدميون مخربون مزعجون انفصاليون، من متزعمي الفوضى والإخلال بالنظام العام، ومن ملعوني التنظيمات السرية.

***

ها نحن نعيش بفضل التقدم والرقي الذي يشهده وطننا الحبيب، زمنا لم يعد فيه فرق بين السرية والعلانية إلا بمسافة قصيرة وبمقدار، رشوة وترخيص مزور وزرواطة وزنزانة، وبضعة أكفان مضمخة بعطر الرمق الأخير.. وقبرا بالمجان.

***

كان المعمل السري في طنجة خاصا بالنسيج المعد للتصدير إلى أوروبا، وكان العمال والعاملات يحلمون كل يوم بأن يسبقوا بضاعتهم المهاجرة إلى أوروبا.. وبداخلهم يهربون معهم سرا حب الوطن والحلم بالبلاد.

كانوا يخيطون أحدث ماركات الألبسة الغالية التي يتباهى بارتدائها مقتنوها… لكنهم لم يتصوروا أن تواتيهم إذا ما وضعت فوق لحمهم..

لم يخطر ببال أصحاب “القبو الغريق” أن يلبسوا سراويلا وأقمصة تحمل علامات مميزة من آخر طراز…
كما لم يتخيلوا أن بانتظارهم أكفانا ملوثة بالبياض بلا أزرار من ماركات “زارا” ومثيلاتها الزاهية.
فليكن بكاء المواطنين لا يزيد عن بكائكم من قضوا منهم بكوفيد 19…
ولتقتصدوا الدمع..

الوطن في حاجة لدموعكم غدا،

دمعكم أغلى ما عندنا وأكثر من دمكم المستباح على الطرقات وتحت الأقبية والسراديب
وتلك مشيئة القهر والفساد.

ولتستعدوا لفواجع أكثر إثارة وأكبر.
فحكومتنا لا تخشى البلل،
ليغرق كل البلد،
ولننافس بغرقنا على ميدالية “أجمل غريق” في أولمبيادات الموت.
يفتي شيخ المقاطعة:
– صلاة الغريق مثل صلاة الغائب.
لا ركوع ولا سجود..
وقوفا:
– الله أكبر.. جنازة رجل.
الله أكبر.. جنازة امرأة.
الله أكبر.. جنازة وطن..
لا جدوى من الحداد. غرقانا في الجنة وغرقى العدمية إلى الجحيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى