ذاكرةسياسة

“دابا بريس” تواصل نشر حلقات الصحافي حفيظ وتفاعله مع حركة 20 فبراير.. وحلقة اليوم عالي الهمة

هذه الزاوية، التي وصلت اليوم حلقتها 17، توثق لكتابات صحافي عاش تجربة الصحافة الحزبية، وإن بطريقة نقدية وبكثير من المسافة عن الحزب، من خلال جريدة “النشرة” التي كانت الشبيبة الاتحادية قد أصدرتها، ورسمت لنفسها خطا مشاكسا للخط الرسمي للاتحاد الاشتراكي، ثم انتمى إلى تجربة أخرى، من خلال جريدة “الصحيفة”، التي انخرط عبرها في معركة بناء صحافة مستقلة وحرة، بعيدة عن جبه الأحزاب وألسنته المتعددة، الكابحة أحيانا لصياغة الخبر وصناعة الرأي العام المستقل، وبعيدة بنفس القدر عن سطوة إعلام السلطة.
في هذه الحلقات، تواصل “دابا بريس” نشر الافتتاحيات التي كان محمد حفيظ كتبها قبل عشر سنوات، بجريدة “الحياة الجديدة”، التي أصدرها بعد توقف “الصحيفة”، في إطار مواكبته لانتفاضات ما سمي إعلاميا ب”الربيع العربي” ونسخته المغربية التي أطلقتها “حركة 20 فبراير”، وتفاعله بالرأي والتعليق مع ما تلا ذلك من أحداث وتطورات…
وهي الحلقات التي نتعرف من خلالها على آراء ومواقف إعلامي حرص في تجربته الصحافية على اتخاذ المسافة عن الدولة، بنفس المستوى الذي اتخذها إزاء انتمائه السياسي والحزبي.

محمد حفيظ

الحلقة 17: الهمة

الهمة يقدم استقالة مفاجئة من وزارة الداخلية في عز التحضير للانتخابات التشريعية. الهمة يترشح في مسقط رأسه بابن جرير بدون لون سياسي. الهمة يحقق انتصارا غير مسبوق باكتساح كل مقاعد الدائرة الثلاثة. الهمة يعلن أن مغادرته أقوى الوزارات لا أجندة سياسية وراءها. الهمة يؤسس «حركة لكل الديمقراطيين». الهمة يؤسس أكبر فريق بالبرلمان. الهمة يجمع اليمين واليسار وغير اليمين وغير اليسار. الهمة يؤسس حزبا سياسيا. الهمة يدخل بكل قوة الانتخابات في المدن والبلديات. الهمة يحقق الانتصارات تلو الانتصارات. الهمة يختفي عن الأنظار ويغلق الهاتف ولا يستقبل الزوار. الهمة يغيب الغيبة الأولى، ثم يظهر، فيختفي في غيبة ثانية. وحين يشعر بأن الرفاق حائرون، يظهر من جديد، ثم يختفي بعد أن تتبدد الحيرة… الهمة… الهمة… الهمة… إلخ.


وإذا كان الهمة قد ابتدأ هذا المسلسل باستقالة مفاجئة، فإنه اختار هذه المرة أيضا أن يظهر باستقالة لا تقل عنها مفاجأة. يومها، استقال من وزارة الداخلية التي تشرف على الانتخابات. واليوم، يستقيل من لجنة الحزب التي تشرف أيضا على الانتخابات. وهي المهمة التي يبدو أن الهمة خبرها في الدولة قبل أن يخبرها في الحزب.
ينبغي علينا، خاصة نحن الصحافيين، أن نعترف للرجل بهذه القدرة الفائقة على صناعة الحدث، سواء في هذا الوقت المليء بالأحداث أو في وقت كانت تعز فيه صناعة الأحداث. يصنع الحدث، حين يستقيل وحين يترشح، حين يختفي وحين يظهر، حين يدمج الأحزاب وحين يحلها، حين يخطب وحين يصمت…
وها هو، مرة أخرى، يصنع الحدث، وهو يعلن أنه يستقيل فقط من إحدى لجان حزبه. فتنطلق التحليلات والتعليقات والتخمينات. الصحافيون يتسابقون على الجديد، والمحللون يحللون، والسياسيون يعلقون، منهم المتحفظون ومنهم الشامتون.
الموضوعية تقتضي منا أن نعترف للرجل، وهو يضع اليوم رجلا خارج حزب شغل العباد والبلاد، بما حققه للمشهد الحزبي ببلادنا خلال السنوات الأربع الماضية.


سنعرف قيمة ما قام به الرجل، حين نسترجع ذلك الجمود القاتل الذي كانت تغط فيه أحزابنا، بعد أن «رَبَّعَتْ» أكثريتُها أيديها، في انتظار «النصيب» المقدر في البرلمان والحكومة وما يفيض عنهما. لكن بمجرد ما ظهر حزب «صديق الملك»، بدأت هذه الأحزاب تتحسس أطرافها تارة، وتارة أخرى ترفع أصواتها للتذكير باستحقاقاتها من «النصيب». فبدأنا نسمع أصواتا تعلو لأشياء اسمها أحزاب.
سنعرف أيضا أن للهمة فضلا في التمييز بين من ينتمون فعلا إلى أحزابهم وأفكارهم، في السراء والضراء، وبين من ينتمون إلى المصالح والمواقع لا غير. بفضل الهمة، تعرفنا بالملموس على ذلك الحجم من المنافقين في أحزابنا، الذين يتنكرون لكل الأفكار والمبادئ والمواقف، وينقلبون أكثر من 180 درجة، فيتحولون في رمشة عين إلى زواحف تمشي على بطونها، فاتحة أفواهها استعدادا لالتهام ما تصادفه في الطريق، حتى ولو كان مما عافه السبع.
سنعرف كذلك أن للهمة فضلا في تسهيل التعرف على أولئك الذين أساءوا إلى السياسة على مدار عقود، أولئك الذين أسميتهم في مناسبة سابقة بـ«ذوي السوابق»، الذين سارعوا إلى حجز مقعد لهم في حزب، فقط من أجل أن يعززوا مصالحهم ويزيدوا من مكاسبهم ليضيفوها إلى سوابقهم. فلم نعد، بفضل الهمة، نبذل جهدا أو نتيه كثيرا لمعرفة هذه النماذج التي ابتليت بها الأحزاب في بلادنا.


لقد كشف الهمة كم هي هشة هذه الأحزاب التي يمكن أن تفقد قواعدها وقياداتها ومنتخبيها وأطرها، فقط بسبب صفة اسمها «صداقة الملك». فيكفي أن يكون الهمة «صديقا للملك» لتتعرض الأحزاب عندنا إلى عملية «تفريغ» و«تكنيس» لا مثيل لها، فتفقد، بين عشية وضحاها، صفوفا أمامية وخلفية وحتى تلك الصفوف الوسطى.
ويمكن أن نستمر كثيرا في رصد الخدمات «الجليلة» التي قدمها الهمة، ليكتشف من كان يخالجه الشك حقيقة المشهد الحزبي في بلادنا، وحقيقة عدد كبير من الأحزاب والمنتسبين إلى الأحزاب. لقد كان الهمة بمثابة «المكشاف» أو «المنظار» الذي يستعمله الباحثون في المختبرات ليروا بالحجم الكبير الميكروبات التي لا تراها العين المجردة، فيرونها كيف تتحرك وتتوالد وتنمو وتزحف وتأكل وتلتهم…

في بداية تأسيس «البام» وبعد الانتخابات الجماعية، كان قد جمعني لقاء مع بعض قيادييه من الذين قدموا إليه من تجربة اليسار. خلال النقاش، كان أحدهم يحاول أن يقلل من شأن وجود من سميتهم حينها بـ«ذوي السوابق» الذين لجأوا إلى الحزب ولجأ الحزب إليهم من أجل الحصول على أكبر عدد من المقاعد، بعد أن قلت له إن «البام»، باستقباله هؤلاء، جمع كل أنواع الفساد السياسي المتفرق بين باقي الأحزاب، وأن هؤلاء لم يكونوا ليغادروا أحزابهم إلا ليقينهم بأنهم سيكسبون أكثر في هذا الحزب الوليد.

حاول مخاطبي أن يقنعني بأن الذين ينتجون أفكار الحزب ويصوغون وثائقه وأوراقه السياسية هم مناضلون سياسيون أنقياء، وكثير منهم ينتمون إلى تجربة سياسية ظلت تسعى إلى تحقيق هدف «المجتمع الحداثي الديمقراطي» وإعادة الاعتبار إلى العمل السياسي، في إشارة إلى مناضلي اليسار الذين “اشتغلوا” إلى جانب الهمة. وزاد مخاطبي أن هؤلاء هم الذين يقودون الحزب ويحددون اختياراته الفكرية والسياسية. قلت لمخاطبي: حتى إذا افترضنا أن ما تقوله صحيح، وبغض النظر عن السياق والظروف التي أحاطت بتأسيس «البام» ومسار مؤسسه والتحاق بعض اليساريين به، فإن أشرس معركة ستواجهونها، حتى ولو كان الهمة في صفكم، هي تلك التي ستكون مع «ذوي السوابق»، متى شعروا بأن مصالحهم مهددة. حينها، لن تنفع لا الأفكار ولا الاختيارات ولا الوثائق ولا الأوراق ولا القيادة. وحينها، فإنكم ستصبحون مثل دماغ لم يعد يتحكم في نشاط الجسم وحركته وباقي أعضائه.

افتتاحية كتبت في 19 ماي 2011

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى