حول العالم

دمية طفلة غزة وقلم الرصاص

خالد أخازي: روائي وإعلامي مغربي

أريد أن أكون غزوايا…

أريد أن أموت غزوايا…
أريد أن أبعث غزاويا…
من يبعث غزاويا لا يشعر بالغربة ولا يظل الطريق..
الجنة حق…
والجحيم حق…
والبندقية حق…
وصهريج غسان الكنفاني قبر وكفن…
الطريق نحو الفجر يمر من غزة…
والفجر لا يطيق الجبناء…


أيها الحكيم….
ايها الأديب…
أبها الشاعر…
أيها الباحث في دراما الفقر….
يا تلميذ بريخت…
يا عاشق العبث والملحمة والثورة…
توقفت عن العشق…
ذات سفر…
تم خصيك..
صرت ديكا توقظ السكارى لنبيذ منتصف الليل…
هنيئا لك… بقدرتك على تحملك عفنك وبرازك ..
أشعر بالغثيان…
متى تمت صفقة بيع القلم مقابل النبيذ والخدم…؟
وأنت… يا قاطع الطريق على ناصية الحضارة
أعلم أنك لن تكون مع غزة…
قايضتها منذ زمن بعاهرة ونبيذ وتذكرة سفر…
حيث تزور التاريخ والادب…
وتقدم شهادات عن الموتى والتافهين…
الله لا يكتفي بالنظر…
الله معنا….


فمن أين يأتي كل هذا الصبر…؟
الصبر نعمة… ووعد ووعيد…
من يبعث غزاويا لا يظمأ…
غزة منتهى الحلم… يا صديقي…
أنا عربي…
أستطيع أن أجهر بعروبتي…
عروبتي… التي كدت أضيعها في متاهات السياسة…
عروبتي التي ظننتها عرقا وانتماء ووطنا…
لا…. عروبتي هي انتمائي لغزة…
وحدها غزة لها الحق في عكاظ، وسحر المعلقات….
لو كان الجاحظ حيا… لمات غزاويا…
لو بعث الأصمعي والخليل وابن جني والثعالبي وابن فارس، لكانوا غزاويين…
اللسان لسان غزة…
يا هذا… عروبتي… ليس في هذا الشرق الهارب دوما من ظله..
عروبتي لا يحددها حاكم، ولا سجل للأنساب والأعلام…
عروبتي… أن أكون اليوم غزاويا…
من لا يكون اليوم عربيا… لن يكونه أبدا…
العروبة ليس عرقا… ليست العرب العاربة ولا المستعربة، وليست البائدة..
العروبة ليست قحطان ولا حيمر ولا المهلهل ولا الملك الظليل…
العروبة مصير مشترك، وطن يغني بالعربية والأمازيغية، ويحتفل بالفرح بلغته وقبيلته…


تعلمنا غزة…
أن العروبة ليست امتيازا…
أن العروبة ليست حيوانا منويا
أن العروبة ليست شجرة شحب حبرها وسرها..
العروبة… عروبة البحتري والمتنبي..
وأبي نواس والسهروردي والحلاج
العروبة أوسع من حفر عقيم في الحمض النووي…
العروبة ليست قدرا، العروبة خيمة تجمع أبا العتاهية والمعري وندماء أبي نواس…
العروبة… مصير مشترك على أرض لا تسألك عن جدك…
كلنا هنا… والآن…
فلا تعاقب غزة… لأنك تكره عقبة …
لا تكن متخاذلا لأنك ناقم من زمن السيف والدم…
هو دمنا… كله… ومنه صنعنا معا…
فلا تكن مع عدوي، فقط لأنك تعتبر العروبة أسطورة واحتلال تاريخي…


كن مع الحقيقية…
كن مع القضية العادلة.
لا تكن أنثروبولوجيا وأنت تقلب دفاتر الشعر والصخر…
تسأل الأثر عن صاحبه…
الأثر…دفء الحاضر..
ومتى كان جمجمة تصنع الفرق في القبيلة والقصيدة…؟
لو أردت حسم القضية بالعظام والجماجم…. ستطردك القرود من أرضك…
وحده القرد يستطيع حسم النقاش زمن الخذلان باسم الأثر….
لا تكن مشاء وأنت تزن الموت القزحي بالموت السريري…
بعضنا في غيبوبة…
ويحاضر في علم تمزيق الخريطة…
بعضهم يلقي دروسا في الغيبوبة
باسم الأمومة والقبيلة والتعويذة…
ألا عدت إلينا… قبل أن تحلق غزة من جديد على أنقاض العبيد…


غزة لا تخرب…
غزة تخرب الوهم وتعري ساق جارية، بلحية رجل…
سلام على غزة…
فغزة هوية الجبل والبحر والصحراء والواحات والغابات…
أريد أن أكون غزاويا…
فغزة وحدها تمنح للوجود قيمة، للحياة قضية، للشعر ضرورة، للكتابة سيرورة…
أريد أن غزاويا…
فغزة، خيمة تاريخية، يلتقي فيها تحت القصف جيفارا حيا، ولوركا بهيا، والمتنبي طامحا، والسهروردي والحلاج وابن الجني ودرويش والخطابي والمجاطي ونجيب محفوظ وحنا مينا…
غزة.. وحدها تسمح بلقاء جميل حول وليمة البهاء، بين المعري وأبي نواس…
غزة وحدها… تسمح بصلاة الفجر في كنيسة العذراء، وقداس الأحد في المسجد الأقصى…
غزة وحدها… لم تقتل ابن العربي… ولا أحرقت كتب ابن رشد، ولا اتهمت عاشق يهودية بالخيانة…
غزة وحدها، من صدقت نبوءة المسيح… وظلت تحت القصف… لتقام الصلاة…
الصلاة لا تحتاج إلى منبر ولا مذبح ولا مئذنة ولا صومعة…
في غزة…. الصلاة مقامة دون توقف منذ آدم …
حصة غزة من طوفان نوح، ما تبقى من شعر الأرض…


أريد أن أكون غزاويا…
أن أجلس على السطوح، أرتشف عبق المساء وأشرع صدري للموت…
الموت بغزة…عزة وبهاء ولقاء أبدي مع الزيتون والشهداء…
أليسوا أحياء…؟
لا أحد يموت بغزة…
الموت بغزة أسطورة….
الموتى لا يلدون… ينتهون…
ومقابر غزة تلد كل ثانية مليون فارس…
لكي تكون غزاويا لا يهم طول لحيتك..
فغزة تنظر لروحك…. وتختلط ودمك…
غزك لا توقفك على الحدود…
لأنها…هي العالم…
هي الوجود …
كن معي…
فالرضيع ماتت امه الليلة..
والأم فقدت الزوج والسقف والغد..
كن معي…اليوم فقط..
فغزة تقصف مليون مرة…
وتنهض كالجبال بسواعد أهلها..
ولا يبقى غير العار في عيون الجبناء…
ولا يبقى غير الخزي على جدار كل دار…أغلقت بابها …


وقال أهلها… لسنا عربا….
أريد وسادة من غزة..
لطفلة دفنت الليلة ..
تعلمني سر الشهادة والشجاعة…
أريد دمية لطفلة من غزة…
دفنت تحت الأنقاض…
فالدمى تحكي حين يصمت المزيفون…
ستحرجكم… أيها المدلسون….
أحذية صغيرة على الطريق معبقة بالدم…
ستحرجكم دفاتر و أقلام ومحفظات تعمدت بالدم…
ثم صارت سرب فراشات تغيض نار العبيد…
لأن فراشات غزة لا تحترق…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى