رأي/ كرونيك

حميد اجماهري يكتب: البابا العربي‮ ‬و‮”‬جيوبوليتيك” ‬غرب المتوسط وشرقه‮

يقول الكاتب ورجل الدين الروسي،‮ فاسيلي‮ ‬فاسليفيتش روزانوف،‮ ‬إنّ‮ “‬الشيطان عندما‮ ‬ينجح في‮ ‬غواية ‬البابا‮ ‬يمنحه السلطة”‬. ‬هذا ‬الباحث المتدين الأرثوذكسي،‮ ‬الذي‮ ‬وُلد فقيراً قبل أن تنقذه‮ ‬الكتابة،‮ ‬والرواية تحديداً،‮ ‬والذي‮ ‬عاش‮ ‬قبل وصول السوفييت إلى الحكم‮، ‬قد لا‮ ‬يعبّر عن كلّ الفقراء في‮ ‬المتوسط،‮ ‬شرقاً وغرباً، الذين‮ ‬يرون في‮ ‬البابا مدافعاً كبيراً، وصوتاً متواصلا‮ً… ‬لصالحهم‮.‬

حميد اجماهري
بقلم الصحافي والكاتب حميد اجماهري

هو الذي‮ ‬نذر نفسه للحديث في‮ ‬القضايا التي‮ ‬تمسّهم، كالهجرة والعدالة، وفي‮ ‬التلقيح، والحروب وما‮ ‬يرافقها من دمار‮ ‬يروح ضحيته الضعفاء‮.‬

غير أنّه ليس بالخبز وحده‮ ‬يحيا البابا‮ ‬في‮ ‬قبة الفاتيكان، فقد صار هناك في‮ ‬العلوم السياسية والتحليل الجغرافي‮ ‬لها،‮ ‬مفهوم‮ “جيوبوليتيك الفاتيكان” أو‮ “‬جيوسياسية البابا‮”.‬ وعاد هذا الحديث مجدّداً بشكل أقوى‮، ‬في‮ ‬وسائل الإعلام الأوروبية التي‮ ‬ترافق جولاته في‮ ‬شرق المتوسط وغربه‮‬،‮ ‬وفي‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬بالتحليل والتمحيص‮.‬

البابا في قبرص
البابا فرنسيس في قبرص في زيارة حول المهاجرين والحوار المسيحي

لقد قادته ديبلوماسية الفاتيكان إلى أغلب‮ ‬دول الغرب المتوسطي،‮ ‬وآخرها كانت قبرص واليونان في‮ ‬الأسبوع الذي‮ ‬ودعناه، لكنّها ليست حلقة معزولةً بقدر ما هي‮ ‬دينامية لها منطقها، بدأت منذ زيارة جزيرة ليسبوس (‮) ‬2013‬التي‮ ‬تصدّرت أخبارها شاشات العالم وأوراق‮ ‬صحافته،‮ ‬وكلّ شبكات التواصل، المؤمّنة منها‮ ‬وغير المؤمّنة‮. ‬وثقلت الأخبار بِجثث مهاجرين ابتلعتهم أوديسة الجنائز في‮ ‬المتوسط الملحمي‮. ‬ثم تواصلت الزيارات من تركيا إلى العراق، مروراً بالمغرب وألبانيا ومصر‮.

للبابا‮ ‬عولمته الخاصة به،‮ ‬والتي‮ ‬يرى المسيح فيها‮ ‬مجمَّع الأرواح،‮ ‬وأيضاً ملتقى الحدود بين الديانات والشعوب‮

بالنسبة للبابا‮ ‬فرانسوا‮،‮ ‬القادم من أميركا اللاتينية،‮ ‬تنافسه في‮ ‬الطريق إلى الله كنائس إنجيلية كثيرة،‮ ‬بعد استيلائها على الوسائل الحديثة، حتى صارت لكلّ صلاة قناة ولكلّ كنيسة،‮ ‬في‮ ‬الأميركيتين معاً، باقة من التلفزيونات.‮ ‬وعليه، فإنّ الـ”جيوبوليتيك‮” ‬واللقاء الفيزيقي‮ ‬بالبحر المتوسط وشعوبه‮ ‬يكتسيان‮ ‬أكثر من معنى‮. ‬ولعلّه، أولا‮ً ‬وقبل كلّ شيء، طريقة في‮ ‬الحفاظ على جغرافيا الإيمان المسيحي‮ ‬الكاثوليكي‮ ‬في‮ ‬وجه التراجع الإعلامي‮ ‬لصورة الرهبان‮ ‬والفضائح الجنسية والانجراف الروحي‮ ‬الذي‮ ‬تعاني‮ ‬منه شعوب الإيمان البسيط‮.‬

المتوسط بهذا المعنى حدّده البابا في‮ ‬كلمة له في العام ‮، ‬2020‬جعلته مكاناً فيزيقياً وروحياً في‮ ‬خضم أمواجه، وعلى أطراف سواحله تشكلت الحضارة المسيحية‮ “باعتبارها نتيجة لتلاقي‮ شعوب عديدة” (‬يومية لوموند‮ ‬الفرنسية عدد‮ ‬2 ديسمبر/ كانون الأول الجاري‮). فللبابا‮ ‬عولمته الخاصة به،‮ ‬والتي‮ ‬يرى المسيح فيها‮ ‬مجمَّع الأرواح،‮ ‬وأيضاً ملتقى الحدود بين الديانات والشعوب‮، ‬بين الترانيم والسياسة،‮ ‬الوعي‮ ‬بأنّ‮ “‬الحوض المتوسط هو حدود الحروب،‮ ‬كما هو حظوظ السلام”.‬

عندما‮ ‬يفشل عمل استمر قرابة نصف قرن من الإعداد والتهييء للقاء‮ ‬ديني‮ ‬مشترك‮ ‬عبر‮ “مجلس مجالس الأرثوذكس‮” ‬لا بد من البحث عن السياسة والجيوسياسة

البابا والسادس

لقد‮ ‬كتبت‮ سيسيل شامبرو،‮ ‬أنّ البابا‮ ‬يرى في‮ ‬المنطقة “تلاقي ‬الفوارق بين الأغنياء والفقراء، بالنزاعات المفتوحة والكامنة‮ ‬والاتجار في‮ ‬البشر والهجرات‮ ‬والمواجهة بين الأديان وحوارها‮…”، ‬وهو أمر دقيق،‮ ‬في‮ ‬زاوية الديبلوماسية الدينية التي‮ ‬دفعت البابا إلى لقاء ملك المغرب باعتباره‮ ‬أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس وإصدار بيان مشترك معه، كما قادته إلى لقاء شيخ الأزهر أحمد الطيب‮ ‬والمرجع العراقي الشيعي الأول، آية الله علي السيستاني.‮ وبالنسبة لاختيار السيستاني‮ ‬من العراق، قد لا تخفى جيوسياسية البابا،‮ ‬باعتباره‮ ‬يفضّل‮ ‬إمام النجف على إمام‮ ‬قم‮ ‬في‮ ‬توازن دقيق في‮ ‬المنطقة‮، يستحضر تطورات الوضع‮ ‬الغربي‮ ‬مع الإيرانيين‮!

‬في‮ ‬الدائرة الروحية،‮ ‬الأخرى،‮ ‬تلتقي‮ ‬السياسة بالصلاة،‮ ‬في‮ ‬القضية الرابطة بين الكاثوليك والأرثوذكس. ‬وعندما‮ ‬يفشل عمل استمر قرابة نصف قرن من الإعداد والتهييء للقاء‮ ‬ديني‮ ‬مشترك‮ ‬عبر‮ “مجلس مجالس الأرثوذكس‮” ‬لا بد من البحث عن السياسة والجيوسياسة،‮ ‬وهو ما‮ ‬يتيبّن من تطور المشكلة الأوكرانية في‮ ‬النزاع الأرثوذكسي‮/ الأرثوذكسي،‮ ‬حيث تتواجه‮ ‬موسكو وكنيستها مع أوكرانيا وكنيستها،‮ ‬وبينهما الباب العالي! ‬

في‮ ‬قبرص، وجد البابا‮ ‬نفسه أمام مستجدٍّ‮ ‬يتعلق بالهجرة،‮ ‬تمثَّل أساساً في‮ ‬نظرة مغلقة متمركزة حول هاجس قومي‮ ‬وطني،‮ ‬يبحث عن فضاءاتٍ محكمة الإغلاق في‮ ‬وجه المهاجرين عبر بناء معسكرات مغلقة لطالبي‮ ‬اللجوء في‮ ‬الجرز المتناثرة قريبا من الساحل التركي‮.‬ لكن، في‮ ‬المنطقة ذاتها، يحضر الباب العالي،‮ ‬بكلّ رمزيته العثمانية‮ ‬القديمة الأردوغانية الحديثة‮، ففي‮ ‬العلاقة بتركيا، هناك تشديد على وجود دولة طيب أردوغان وسياستها في خلفية هذه الزيارات.‮ ‬وقد صرّحت‮ الناطقة باسم جمعية رهبان الأرثوذكس في فرنسا‮، كارول صابا، أنّ “زيارة البابا فرانسوا‮ ‬قبرص‮، شرق المتوسط،‮ ‬تملك بعداً جيوسياسياً في‮ ‬مواجهة التوسع التركي‮”. ‬وتاريخياً‮ “طالما‮ ‬نظر اليونانيون إلى الغرب كتهديد‮ لهم،‮ ‬كما‮ ‬يشعرون بأنّ أوروبا‮ ‬لا تدافع عنهم بما‮ ‬يكفي‮ ‬أمام التهديدات القادمة من الشرق”.

في‮ ‬عالم‮ ‬يُعبد فيه المال،‮ ‬وتحرّكه‮ ‬غرائز موازين القوة وتراكم الصراعات وتفاقم حدّتها،‮ ‬غرب المتوسط وشرقه،‮ ‬هل سيكون الشيطان قد أغوى البابا من دون أن‮ ‬يمنحه السلطة؟‮

وسيكون للموقف الذي‮ ‬يعبر عنه البابا‮ تبعات لا شكّ.‬ لقد سبق للبابا‮ جان بول الثاني‮ ‬أن أثَّر في‮ ‬تطوّرات العالم قبل انهيار الجدار الفارق بين الشرق والغرب،‮ ‬باتجاه واضح لفائدة العالم الغربي‮ ‬في‮ ‬وجه المعسكر الشيوعي،‮ ‬غير أنّ العولمة التي‮ ‬نتجت من ذلك تختلف عن العولمة التي‮ ‬يشتغل في‮ ‬مضمارها البابا‮ ‬فرانسوا‮.‬ ..

في‮ ‬الفصل الذي‮ ‬كتبه‮ ‬لينكولن بيزوثيرو ريبيليث،‮ ‬ضمن‮ ‬كتابٍ‮ ‬بنفحة تبشيرية لا تخفى على المتتبع،‮ ‬يصير‮ ‬فرانسوا “أباً للشعوب” ‬ينظر إلى العولمة‮ ‬من زاوية أنّه وارثُ‮ ‬تاريخ الكنيسة الكاثوليكية التي‮ ‬ساهمت وشاركت في‮ ‬تشييد إمبراطوياتٍ عديدة،‮ ‬وهي‮ ‬الشكل القديم للعولمة إذا شئنا،‮ ‬وتكون العولمة المثالية‮ ‬حاليا‮ً “موضوع تفكير‮ ‬كبير بالنسبة للكنيسة ونقطة مركزية‮ ‬يجب الحسم فيها‮ ‬بالنسبة للبابا فرانسوا‮”. ‬

بين

ويرى مستشارو البابا،‮ ‬وهم ليسوا بالضرورة من رهبان الدين وحدهم، ولا من المنقطعين إلى الرب،‮ ‬أنّ‮ ‬الأمر‮ ‬يتطلب‮ “‬الدعوة إلى السلام والقدرة على اجتراحه في‮ ‬العلاقات الدولية‮، والعمل على الاندماج الاجتماعي،‮ ‬بما فيه الاعتراف بالآخر والتسامح معه‮”.

في‮ ‬عالم‮ ‬يُعبد فيه المال،‮ ‬وتحرّكه‮ ‬غرائز موازين القوة وتراكم الصراعات وتفاقم حدّتها،‮ ‬غرب المتوسط وشرقه،‮ ‬هل سيكون الشيطان قد أغوى البابا من دون أن‮ ‬يمنحه السلطة؟.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى