رأي/ كرونيك

في هذه الصفحات المطوية، قلبت الأحلام والآمال…بحثت في ثنايا الأوهام…استقصيت ما سكن العقل والوجدان…

في يوم الإثنين 25 شتنبر 1950 سقط رأسي بحي بريمة بمكناس، وهو اليوم الذي اصطلح على تسميته ذكرى أو عيد الميلاد.

في هذا اليوم لحد الآن، بلغ عدد صفحات كتاب العمر 24.837 صفحة، موزعة على 68 بابا، وكل باب يحتوي على 12 فصلا…
في هذا اليوم، تحلو إعادة قراءة ما خربشته الأيام في كل هذه الصفحات، وهي تتراءى كجسر ممدود بين ضفة البدايات التي لا تنتهي، وضفة النهايات التي لا تستجلي.

وأنا أعيد القراءة، أتهجى حروف البداية، على لوح خشبي داخل كتاب قرآني، (المسيد ) وأقفز وأنط كأرنب مشاغب يداعب الحروف على صفحات كتاب التلاوة ” إقرأ ” لأحمد بوكماخ، وقصص كامل كيلاني، وأتمدد على صفحات المنفلوطي وجبران وإيليا أبو ماضي والكثير من الأدباء والشعراء في الشرق والغرب…وأراني مرميا في الآغورا agora بأثينا أسمع سقراط وهو ينصحني بقراءة هيجل، ويحثني أرسطو بقراءة ماركس، وأسمع نداء واصل بن عطاء يغريني بزيارة بيت الحكمة في بغداد، ويكشف لي وجوب الغوص في دين الاسلام، قبل وبعد إعدام الحلاج، ويدعوني السهروردي إلى جولة سياحية في مدينة قونية للتبرك بقبر جلال الدين الرومي….وبين كل هؤلاء استضفت واستضافني المئات من الأدباء والشعراء والروائيين والفلاسفة والمسرحيين والسينمائيين والموسيقيين والنحاتين والعقلاء والمجانين والمنبوذين والمهمشين….وكان التناقض بينهم جميعا صارخا مدويا، وكنت أستحلي هذا الاغتناء من التناقضات.

وأنا أعيد قراءة هذه الآلاف من الصفحات، يستوقفني المهدي بنبركة وهو يقدم وصاياه لعمر بنجلون، وأرى عمر يغمز لي بعينيه، وكأنه يأمرني بالاستماع والاقتداء. ورأيتني غارقا في قضايا وهموم البلاد والعباد والجلاد والثبات والانحراف والصمود والانبطاح والانتصار والانكسار …وفي كل ذلك قرأت صفحات النظافة والتلوث وفصول التضحيات والضرائب، وشهادات العفة والمكارم، وصكوك المكاسب والمغانم.
وأمام كل هذه الصفحات، وأنا أعيد قراءتها وأستعيد اللحظات في نورها وظلامها، لم أشعر في أي صفحة منها بأي شيء يمكن أن أفتخر به…لكني أحسست بأشياء يمكن أن أحاسب نفسي عليها، خاصة فيما كان يجب علي أن أفعل ولم أفعل، وما كان يجب أن افضح والتزمت الصمت، وأحسست بالذنب في كل ما قصرت فيه سهوا أو عمدا.

في هذه الصفحات المطوية، قلبت الأحلام والآمال…بحثت في ثنايا الأوهام…استقصيت ما سكن العقل والوجدان…
تغمرني السعادة حين توقفني صفحة مخطوطة بنور الأمل…
يجتاحني الأسى حين تطالعني صفحات سطرها الألم…
و ما بين الصفحات صراع سيزيفي ألهب الحياة…
صراع بين حق منشود لم أبلغ مراقيه…و باطل عاتٍ أرخي ظلاله في المسالك و الطرقات.
صراع بين خير يشق مساره بين صقيع الجليد وحجيم اللهيب …و شر كاسح تقتحم فيالقه الوجود بشراسة لم يسبق لها مثيل.
صراع بين جمال يحارب من أجل البقاء…و قبح يغرس أشواكه في العيون.
لكن نقطة الضوء الوحيدة في صفحات هذا العمر… هي حضور المحبة كخيط رابط بين الصفحات…في حالات السواد و حالات البياض والأمل واليأس والفرح والألم…
المحبة وحدها تكتب سطور الأمل و تغالب كلمات اليأس… حتى يغني الفرح… و يخرس نحيب الحزن…
المحبة وحدها تستدعي النجوم و الأقمار كلما جن الليل… و تبني الجسور بين الضفاف والجزيرات حين يحطمها الإعصار…
المحبة وحدها تسقي المروج و القفار كي تينع الأزهار…
المحبة في البدء و في ختم المسار، هي ما يصحح الفهم كي تكتمل صياغة الوجود.

علمتني هذه الآلاف من الصفحات، أن الحب في الحياة والوجود عمل دؤوب يسير دوما نحو الاكتمال… و أن حب الحكمة هو نفسه حكمة الحب…و هما وحدهما القادران على تطهير الروح من كل نقائصها
علمني العمر إلى حدود الآن، أن المحبة و السعي إليها، هما الجوهر الثابت في كل إنسان، ولا تفاوت إلا في درجة العناية والاهتمام، ومستوى التسامح والاحترام…
أطوي الصفحة رقم 24.837 من الفصل الثامن والستين، من كتاب العمر…معترفا أني قَـصَّـرْتُ كثيرا …و لكني مغمور إلى حدود الثمالة بالأمل في الأمل… و الحلم بالحلم إلى نهاية المسلك و انتهاء المسار..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى