رأي/ كرونيكفكر .. تنوير

محمد حمزة يكتب: تجديد الفكراليساري ومركزية الإيكولوجي

إن ما ذكرناه يبقى قليل جدا من كثير ما يجري حاليا في العالم مما يفرض على المثقفين وقوى المجتمع المنظمة الحية ومن ضمنها اليسار وقفة واعية لإعادة الاعتبار الفكري للإيتوبيا كمسألة تتعلق بالحاضر وتندرج في سياق مستقبل التحرر الإنساني

بقلم محمد حمزة

بعد انهيار” أنظمة جغرافية الواقعية الاشتراكية” وبروز الولايات المتحدة كقوة وحيدة يشهد العالم الآن تغيرات كبرى على الأصعدة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية .

فالعالم يعيش مرحلة دقيقة تتسم بهيمنة الرأسمال وبعولمة الاقتصاد وبتطورات سريعة ومذهلة على صعيد المعلوماتية.

كل هده التحولات تطرح أمام المثقفين والمفكرين قضايا ومعضلات لابد من مواجهاتها ومن تحليلها بموضوعية وصراحة ، يقول سمير امين :ما هو حيز الاستقلالية المتبقي للأفراد والجماعات ؟وما هي أوجه الصراع الاجتماعي المستجدة؟وما دور الأحزاب السياسية والقوى الثقافية والاجتماعية في هدا العالم المتغير؟ كيف نواجه نمو الحركات القومية والشوفينية والنزعات الدينية والعرقية المتطرفة ؟وما هي طبيعة الإنتاج في هدا التغيير المتسا رع لوسائل الإنتاج؟ ما طبيعة العجز من الحد من تدمير الطبيعة الذي يهدد مستقبل البشرية؟

إن ما يجري لايعني كما يحلو للبعض أن يزعم أننا نشارف على نهاية التاريخ.

إن انحصار المشروع الديمقراطي، وتفاقم حجم البطالة محليا وعالميا، وتقليص المكتسبات الاجتماعية، والبون الشاسع بين الشمال والجنوب، وهيمنة عدد من المؤسسات الكبرى المالية والاقتصادية على مصير شعوب العالم، والتدمير المستمر للطبيعة والدي أصبح يهدد البشرية بأفدح الأخطار ، كل هدا يطرح بإلحاحية إعادة تجديد وتفكير الإيتوبيا التي سميت اشتراكية كمشروع قابل للإنجاز ولم ينجز بعد.

ونحن في المغرب لسنا بمنأى عما يدور في الخارج، فالمحاولات على قدم وساق لخوصصة المؤسسات العمومية ووضع حد لدور الدولة الاجتماعي و الاقتصادي، ومن اجل هدا الاتجاه يجري التضييق على الحريات العامة ولاسيما الإعلامية منها وتهميش المؤسسات وتغييب إرادة الامة.

كما يجري تحييد الحركة النقابية وتقليص دورها لفتح المجال واسعا أمام أصحاب الرساميل الكبرىو المقولين والمضاربين والسماسرة .فالأوضاع الاجتماعية للمواطنين في تردي سريع نتيجة التوجه الذي يهدف إلى القضاء على الفئات الوسطى’ أي لتعميم الفقر.فالضرائب في ازدياد ويتحمل وزرها الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.

إن ما ذكرناه يبقى قليل جدا من كثير ما يجري حاليا في العالم، مما يفرض على المثقفين وقوى المجتمع المنظمة الحية ومن ضمنها اليسار وقفة واعية لإعادة الاعتبار الفكري للإيتوبيا كمسألة تتعلق بالحاضر وتندرج في سياق مستقبل التحرر الإنساني.


اليسار محتاج الآن لمراجعة جريئة وموضوعية لكي يبقى فكر الإيتوبيا الاشتراكية سلاحا مفهوميا وعلميا لفهم الأحداث في عالمنا الراهن والقضية الأولى لفهم الأحداث هي النقد، النقد من أجل إعادة بناء العلاقات الاجتماعية وتشخيص المتغيرات لإعادة صياغة المشروع المجتمعي الاشتراكي والديمقراطي البديل والايتوبيا كنوع من الاحتجاج على العالم،  فالاحتجاج التي تقوم به الحركات الاجتماعية المناهضة للعولمة الان مدخل من المداخل الجوهرية لإعادة بناء فكر الايتوبيا، كما يقول سمير امين.

فمقاومة الحركات الاجتماعية التي نشهدها الآن أحسن مثال لدحض حتمية : ليس هناك بديل عن السوق الرأسمالية .

على اليسار أن يساير هده الحركات ليس بأسلوب الاحتواء اوالتوجيه، بل بتعميق مسار هده الحركات الاجتماعية وتوسعها جغرافيا في مجموع القارات لتخترق قطاعات داخل الأوساط الاجتماعية، ومعالجة مسارها بالتعميق النظري حول أصل أعراض الليبرالية الجديدة . فدور اليسار هو نقل هذه الحركة من الوعي الجماعي (لا حتمية: ليس هناك بديل عن السوق) الرأسمالي  إلى البناء الفعل الجماعي.

فهناك ضرورة للعمل السياسي المدعوم من طرف الحركات الاجتماعية والتي هي بالتساوي مرحلة لا محيد عنها للدفع بالتغيرات الفعلية لتجاوز مرحلة بناء الوعي الجماعي.

فكر اشتراكية القرن 21 ليس فكرا حتميا، .بل فكرا لايقينا،  لا يؤمن الا بيقين واحد هو يقين النسبية وتجديد الجديد، اشتراكية القرن 21هي اشتراكية فكر التعقيد كإختيار لمحاورة عالم دينامي وصدفوي ومتنوع ، و تجديد فكر الاشتراكية يجب أن ينطلق اولا من تقدير الضرر الذي احدتثه تجربة “الاشتراكية الواقعية “على الصعيد الاجتماعي والثقافي والديمقراطي .

التجديد اذا يتطلب أيضا جلاء الغموض الذي طال “اشتراكية القرن 20”، هل يتعلق الأمر بالستالينية؟ ببول بوت؟ بالديمقراطية الاجتماعية؟ بالطريق الثالث؟ بالأممية الرابعة ؟ فضرورة تعريف المحتوى ضروري لما نتكلم عن المابعد الراسمالية أو الاشتراكية المتجدد،  المطلوب هو أخد المساحة اللازمة عن”اشتراكية “القرن 20. بوقفة واعية لدراسة وتحليل أوجه الخلل والضرر في ممارسة الأنظمة “الاشتراكية” السابقة لوضع تصورات وأطر مستقبلية بهدف تجديد الفكر الاشتراكي .فأي محاولة لتجديد الفكر الاشتراكي ترتبط في الوقت الراهن بالمعرفة النقدية لما هو ضروري أن نتنصل منه .

على كل حال .يمكن الانطلاق من نزع الشرعية عن الرأسمالية كنظام عالمي لتنظيم الاقتصاد . فهدا الأخير وفي شكله الليبرالي الجديد انتهى إلى نتائج كاريتيه بالنسبة للطبيعة وللمجتمعات البشرية .

ولهدا يجب طرح المشكل ليس بصيغة النضال ضد سوء “الاستعمال”، أو “الشطط” و”الإفراط ” فحسب بل بصيغة تغيير المنطق الذي يدير تنظيمه. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفكر في الانتقال الى اشتراكية القرن21  بإعادة بناء المحاور الأربع التالية و بدون ترتيب: تعميم الديمقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في أفق المساواة والمواطنة الشاملة، الاستعمال المستدام للموارد الطبيعية،الأسبقية لقيمة الاستعمال على قيمة التبادل لتحرير السوق بانسنته و استرجاع مضمونه الاجتماعي و ارتباط الحضارات بدل صراع الحضارات في أفق الاخاء العالمي.

سنقتصر في هذا المقال على محور الاستعمال المستدام للموارد الطبيعية بأمل الرجوع إلى المحاور الثلاثة الأخرى في مقالات أخرى

يجب التذكير أن النقاش حول اشتراكية المستقبل قد انتقل بتأثير تجربة الماضي وعبرها.إلى أرضية غير تلك التي يدور حولها قبل “انهيار جدار برلين”.كالديمقراطية وإشكالية العلاقة بين الإنسان والطبيعة …الخ

إن الدعوة للمزاوجة بين الاشتراكية والايكولوجية هي دعوة مشروعة في ضوء تزايد الشعور الإنساني بمخاطر الكارثة البيئية،  وتبدو طبيعية ليس فقط لان النزعة الإنتاجية التي حكمت سياسات التصنيع في بلدان ” الاشتراكية الواقعيةًٌَُُ ” لم تختلف عن النزعة الإنتاجية السائدة في البلدان الرأسمالية ، فهي أيضا ألحقت بالطبيعة دمارا هائلا. هذا ما انتقده كارل ماركس في كتابه الرأسمال.

لقد قصر الفكر الاشتراكي في دراسة هدا الجانب عندما ركز على العلاقات بين البشر على حساب تركيزه على علاقات الإنسان بالطبيعة .

وقد لا تكون هناك مشكلة لو توقفت دعوة المزاوجة بين الاشتراكية والايكولوجيا عند حدود إصلاح قصور معين عانى منه الفكر الماركسي وتجربة البناء الاشتراكي، هده الدعوة تتجاوز في الواقع هده الحدود فترفض مبدأ أولوية القوى المنتجة وتضع مفهوم التقدم الذي جعله ماركس مماثلا لتطور القوى المنتجة الدي يقود بالضرورة إلى الاشتراكية و التي لن تقوم على أساس السعي من أجل تطوير القوى المنتجة باضطراد بما يخلق وفرة هائلة في المنتوجات تكفي لإشباع حاجات الناس وتوفر للمنتجين فرصة التمتع بأكبر قدر ممكن من وقت الراحة.

ففي السنوات الأخيرة وقع اندفاع حقيقي للوعي بأن الاستعمال المفرط للموارد الطبيعية لن يمكن من الاستمرار المتواصل للحياة الفيزيائية والبيولوجية، فالإنسانية لن تواجه النفاد المستقبلي لبعض الثروات الطبيعية فحسب،  بل ستواجه تدمير الموارد الأساسية لحياة الإنسان كالتربة، والماء والهواء والمحيط الجوي والطقس….

فإعادة التوازن في استعمال الموارد الطبيعية أصبح يسائل الحياة نفسها على سطح كوكبنا,، إدا يجب أن نعرف كيف نحسب على المدى الطويل، كما فعلت الشعوب الزراعية التي وظفت جهودها للحفاظ على رأسمالها العقاري بل ولتحسينه لمصالحة الأجيال القادمة.

ادا هناك حاجة الآن لإتباع مقاربة فكرية جديدة للعلاقات بين الكائن البشري والطبيعة. بالمرور من مفهوم الاستغلال إلى مفهوم المعايشة، أي عكس فكرة التقدم بدون حدود le progrès sans fin وعكس فكرة الطبيعة الغير القابلة للنفاد بحسب إرث عصر الأنوار .

وهدا يعني إحياء قيم فكر المجتمعات الما قبل الرأسمالية فيما يخص الوحدة الجوهرية الموجودة بين الإنسانية والعالم الطبيعي، مثلما هو التضامن كأساس للبناء الاجتماعي، وهدا يتطلب الاخد بالفكر التحليلي ليحل محل المسببات والميكانيزمات داخل حقول الفيزياء والاجتماع الان وتجاوز فكر الأوهام الذي يطابق بين الحقيقة والوهم.

هدا المنظور يتطلب أخد المساحة الفكرية مع فكر اشتراكية القرن 19و20 التي طبعت بفكر الاختزال والعلموية والنظرة الخطية للتقدم

ان أواخر القرن العشرين كانت مطبوعة بنقد الحداثة وبروز مفهوم التعقيد واللايقين والصدفة والاحتمال، حيث يرى إدغار موران في التعقيد ظاهرة كمية للتفاعلات والتداخلات بين عدد كبير من الوحدات، كما هو الحال في الدرة والخلية حيث تشمل الواحدة على عدد من اللايقينيات واللاتحديدات والظواهر الصدفوية، إن التعقيد هو اللايقين وهرا نفاد للحتمية في العلم الكلاسيكي التي بنيت عليه أفكار إشتراكية القرن 19و20.

إن منظومة التعقيد هي اختيار لمحاورة العلم الدينامي، الصدفوي والمتنوع، أما منظومة التبسيط التي طبعت فكر اشتراكيةالقرن19،  فيقول إدغار موران باختيارها نظام التبات والخلود والأصل والهوية والاستمرارية، والتيقامت بتجاهل هائل لأسئلة لا يجاب عنها إلا بصدد التحول، والفوضى والتجدد والخلق والتعقد والصدفة والاختلاف واللانهائي و اللايقين .

لقد توسع إدغار موران في نقد منح الامتياز للتاريخ الآني هدا المفكر يعترف بالواقع الاحتمالي واللايقين في العلوم الاجتماعية ويؤكد على وجود البراديغم الجوهري الذي نجده في حقل الفزياء البيولوجيا أي المرور الثابت من اللانظام إلى التنظيم الذاتي أو استمرار الحياة.

فالجوهري الان في قواعد اللعب يبقى إمكانية إعادة التنظيم نفسه .فالنشاط الإنساني ينتج تأثيرات غير قابلة للانعكاس، والتي لها نتائج كارثية على الطبيعة ومن تم على الكائن البشري..

فعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي يصل إلى خلاصات متشائمة وهدا يطرح بشكل فعلي إشكالا أخلاقيا :

ضرورة تأمين مسار إعادة التنظيم داخل مختلف الحقول، الأمر يتعلق بالحياة نفسها .

إنريك دوسيل
إنريك دوسيل

وهدا ما شرحه الكاتب دوسيل في كتابه “أخلاق التحرير”، وهدا ما فهمه أيضا بعض المثقفون لما طرحوا شعار “من أجل الدفاع عن الإنسانية”في مكسيكو 2004.

إن الوعي البيئي مدخل لتجديد الفكر الاشتراكي اليساري والاستعجال البيئي ( الاستمرار على قيد الحياة) يتطلب الانتقال من مجرد الوعي البيئي إلى هجوم راديكالي فكري سياسي من أجل تصور تنمية بيئية متضامنة.

إن الوعي البيئي هو مدخل لإعادة الاعتبار للاتوبيا التي سميت اشتراكية والتي لا تعني الانتقال الى نمط إنتاج جديد ومجتمع مساواة وديمقراطية وحسب . بل حتى إلى نمط حياة وحضارة جديدة اشتراكية بيئية تتجاوز سيادة المال وعادات الاستهلاك المصطنعة بالعلان التجاري والإنتاج اللا متناهي للسلع الضارة بالبيئة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى