الرئسيةرأي/ كرونيك

محيط المغرب وشعرياته

بقلم صبحي حديدي كاتب وباحث سوري مقيم بباريس

على ضفاف الأطلسي، خلال زيارة إلى مدينة أصيلة المغربية مؤخراً، كان إلحاح مشهد الشعر المغربي الراهن قد أعاد هذه السطور إلى تأملات سابقة احتواها ملفّ عن الشعر المغربي سألني المشاركة فيه الصديق الناقد المغربي بنعيسى بوحمالة، قبل عقد من الزمان أو أكثر قليلاً.

ولا يُزعم، هنا، أنّ خلاصات الماضي بقيت على حالها، في كثير أو قليل، أمام سطوة الزمن ومتغيرات الحياة وتوترات التعاقد بين القصيدة والذائقة ومكانة أو حتى معنى الشعر في الوجدان العربي المعاصر؛ هذه الأيام بالذات، حقبة الانكسارات والاندحارات والثورات المضادة، التي أعقبت/ أجهزت على انتفاضات العرب شرقاً من المحيط الهادر (دون سواه!) إلى الخليج الثائر، كما كانت الخطابة الحماسية تهدر بدورها في قصيدة الشاعر السوري الراحل سليمان العيسى.

جيل السبعينيات هو الذي أنجز نقلة حداثية حاسمة تكفلت بتمهيد الأرض أمام التطوّرات والتجارب اللاحقة التي سيتولى تدشينها جيل الثمانينيات، وستطلق شرارة البحث عن الصوت الشعري الخاصّ، والأسلوبيات المنفردة، والجماليات الانشقاقية

وعلى منوال منهجية صارمة تتوخاها هذه السطور هادياً دائماً (ويعتبرها بعض الأصدقاء المحبّين أقرب إلى صرامة «حنبلية»)، خاصة حين يتصل التأمل بشعر عربي معاصر حمّال أشكال وتيارات ومضامين لا تتكامل غالباً بقدر ما تتناطح إذْ تتضارب؛ توجّب استذكار ملاحظة أولى حول مشهد وحراك نقدي، في قلب سيرورة شعرية مغربية نشطت خلال عقد الستينيات من القرن المنصرم.

آنذاك توفّر شعراء أمثال أحمد المجاطي، محمد الخمار الكنوني، عبد الكريم الطبال، محمد الميموني، محمد السرغيني، أحمد الجوماري، عبد الرفيع الجواهري، وأحمد صبري؛ كما توفّرت لغة نقدية مواكبة، كانت من جانبها أكثر انحيازاً إلى تكريس تغطية إيديولوجية، لنتاجات شعرية استقرّت في العموم على تحويل ذات الشاعر إلى مرآة عاكسة لسلسلة إيديولوجيات.
جيل السبعينيات اللاحق زُجّ، قسراً أحياناً أو ليس إرادياً كلّ الوقت، في مطحنة طاغية عنوانها استحقاق نقل الشعر المغربي خطوة جديدة مختلفة ومتميّزة، إلى الأمام بالطبع، وأياً كانت دلالات التعبير الفعلية، الجمالية والسوسيو – سياسية والثقافية. الاشتراطات الضمنية، المعلَنة أو المسكوت عنها في قلب ذلك الاستحقاق، لم تتطلب تحقيق قفزة في الكمّ، فحسب؛ بل كذلك إنجاز قفزات أخرى حاسمة على صعيد الشكل والموضوعات من جهة، وتأسيس بدايات جدّية لشعريّة مغربية مستقلة ومتميّزة من جهة ثانية. والحال أنه لن يطول الوقت حتى تتضح معالم هذا التطور، وتستقرّ أكثر فأكثر، وتصبح طرفاً مساهماً في صناعة المشهد الشعري العربي؛ بعد أن كان المغرب، في قليل أو كثير، «منطقة» مقلِّدة، أو مستقبِلة أو متأثرة. وتلك شعريات تنامت وتنوّعت وتقاطعت وتنازعت وتصالحت… فعكست هواجس الاستقلال والتطوير في آن معاً، وكانت بمثابة مخاض دائب من التجريب والبحث والاستكشاف.

سببان، في يقين هذه السطور، ترابطا على نحو جدلي وتضافرا زماناً ومحيطاً ومناخات، أكسبا نتاجات تلك الحقبة أهمية عالية وحيوية متجددة؛ الأوّل تاريخيّ ـ أجياليّ، ويتمثّل في أنّ المشاريع الوليدة كانت حلقة وسيطة ربطت بين جيل الستينيات وجيل الثمانينيات من جانب؛ وسعت إلى ـ ثمّ تمكنت بعدئذ من إنجاز ـ شعرية خاصة تمتعت بدرجة متقدّمة من الاستقلال عن طغيان الشعر المشرقيّ، من جانب ثان. ولأنّ ممثّلي هذا الجيل لم يفلحوا تماماً، ربما لأنهم لم يرغبوا أساساً، في الاستقلال التامّ عن حركة الشعر العربي؛ فقد لعبت تجاربهم الشعرية دور المفاتيح الوسيطة إلى حُسن استقبال تجارب أساسية في التيّارات الشعرية الأعرض على نطاق الوطن العربي، وتأهيل الذائقة المحلية لاستيعاب شعريات مختلفة، أو «وافدة»، في تعبير ملطّف.

السبب الثاني جماليّ جوهرياً، فحواه أنّ نتاجات جيل السبعينيات قطعت مع القصيدة التقليدية، على صعيد الشكل والمحتوى؛ وكانت، كذلك، امتداداً (تفاعلياً أو تناحرياً أحياناً) مع قصيدة الستينيات. صحيح أنّ شكل التفعيلة ظلّ مهيمناً لدى ممثّلي جيل السبعينيات، إلا أنّ العمارات الإيقاعية اتخذت شخصية أكثر سلاسة ومرونة وتحرّراً من القوالب الشائعة؛ هذا فضلاً عن حقيقة ظهور قصيدة النثر وانتشارها تدريجياً في نتاجات الشعراء. صحيح، أيضاً، أنّ الموضوعات الوطنية والإيديولوجية، وتمثيل الهواجس الوجودية والتفلسف الميتافيزيقي، وما تبقى من الظلال الرومانسية السالفة، ظلّت تتردّد في قصيدة السبعينيات؛ إلا أنّ هذه لم تكن هي وحدها سيّدة المحتوى الشعري، ولعلّها تحوّلت لاحقاً إلى جزء أصغر ضمن نطاق موضوعات عريض وغنيّ ومتشعّب.

ولا يخفى، هنا، أنّ ظاهرة البيانات الشعرية كانت قد استهلت، ثم عَبَرت، عتبة تغطية جديدة للنصّ الشعري، فغرقت في التنظير المحض، للقصيدة وللحداثة ولموقع الشاعر عموماً؛ والتقت مع سلسلة تنظيرات أخرى تخصّ الخيارات الشكلية (البياض، أو الكتابة بالخطّ المغربي، او التدوير…)؛ من دون أن تنفلت تماماً، في الحالتين، من إغواء الأدلجة الذي طبع التغطيات النقدية في عقد الستينيات. هامّ، كذلك، أنّ جيل السبعينيات هو الذي أنجز نقلة حداثية حاسمة تكفلت بتمهيد الأرض أمام التطوّرات والتجارب اللاحقة التي سيتولى تدشينها جيل الثمانينيات، وستطلق شرارة البحث عن الصوت الشعري الخاصّ، والأسلوبيات المنفردة، والجماليات الانشقاقية؛ ومثل هذا الاستنتاج ليس محلّ إجماع في الواقع، وثمة مَن يعترض عليه بشدّة، بل يساجل ضدّه أو على نقيض منه.

وهذا سبب إضافي في أنّ شعريات المغرب ليست أقلّ دفعاً للأمواج على السطح، وتفعيلاً للتيارات في الأعماق، وليست كذلك بمنأى عن عواصف هنا وهناك؛ على وتيرة البحار والمحيطات.
المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى